مجلة الرسالة/العدد 298/الأدب والفن في القران الملكي السعيد
مجلة الرسالة/العدد 298/الأدب والفن في القران الملكي السعيد
قلتُ لنفسي. . .
أستطيع أن أتحدث إليك يا نفس، وأن آمن أن يتسمع إلى حديثنا ناقد أو حاقد فينشره؛ فما كل ما يعلم يذكر، وما كل ما يذكر ينشر.
كان الشعب والجيش في أسبوع القران المصري الإيراني السعيد قصيدة شاعرة الأبيات بالجمال والحب، وملحمة عامرة الأناشيد بالفخار والمجد، تجلت فيهما عبقرية الجنس ونبالة التاريخ وأريحية النيل، ودلتا على أن الشعب يتقدم بصيراً بالفطرة ككرام الطير، وأن الجيش يولد جباراً بالروح كآلهة الإغريق. والفطرة والروح من عمل الله الذي أحسن كل شيء خلقه، وهدى كل حي طريقه.
أما الأدب والفن وهما من خلق الناس فكانا - على حسبما بلغته عيناي وأذناي - موضع النقص وموضوع النقد. ومن الظلم لمواهب هذا البلد الكريم أن يكون ما ذاع منهما في هذا الأسبوع التاريخي مقياساً لقرائحه وترجماناً لعواطفه. وأسارع إلى استثناء النثر من أنواع الأدب؛ فقد كان أجمل الزهر الذي نثر على العروسين، وأنفس الدر الذي قدم إلى التاجين، وأصدق الدلائل على مكانة مصر في المدنية والعقلية والثقافة. . .
ولكن الشعر كانت كثرته الكاثرة كزقزقة الأفراخ النواهض في صبح من أصباح مارس: هي إلى الصُئِىَ أقرب منها إلى التغريد، وعلى المحاكاة أدل منها على التجديد، وفي التشابه أدخل منها في التنوع. والله وحده يعلم الآن موقف امرئ القيس من الجاحظ في الجنة أو في النار، وأحدهما يرى فنه يذوي ويهوي وينطوي، ولآخر يرى فنه ينمو ويسمو وينتشر!
ومهما يكن من قصور الشعر فإن فن الكلام في مصر أنبض الفنون الرفيعة بالحياة وأسبقها إلى النهوض وأدناها من الغاية. فإنك إذا وازنت بينه وبين التمثيل والموسيقى في هذا الأسبوع على الأقل والأخص عجبت كيف يتقدم فن الأمة المفكر هذا التقدم، ويتأخر فنها المصور هذا التأخير، حتى يكون ما في ذلك من الخلق والجدة والتطور والشعور، معادلا لما في هذا من النقل والركود والجمود والبلادة.
فالتمثيل - ومظهر النبوغ المصري فيه (الفرقة القومية) - كان خذلاناً من الله لإدارة هذه الفرقة، وبرهاناً من نفسها للناس على أنها لا تعلم ولا تعمل ولا تدير.
أرادت هذه الفرقة أن تساهم في الحفلة الموسيقية التي أقامتها وزارة المعارف في دار الأوبرا الملكية احتفاء بصاحب السمو الإمبراطوري ولي عهد إيران، لأنها تعيش على أموالها، وتعتمد على مشورة رجالها، فاختارت أن تمثل لهذه المناسبة في حضرة المليك العظيم وأمام الخاطب الكريم ملهاة (المتحذلقات) لموليير، وموضوعها كما تعلمين خطبة عابثة هازلة، يلبس لها خادمان لباس النبلاء ويخدعان بالحذلقة الغبية امرأتين من أغنى النساء!
كان من السهل لو كان للوزارة (فرقة)، وللفرقة إدارة، وللإدارة دراية، أن تطلب إلى كاتب من كتاب المسرح أن يقتبس لها في هذه المناسبة السعيدة موضوع مسرحية ذات فصل واحد من شاهنامة الفردوسي، كحكاية شيرين، أو قصة زهراب ورستم، فيكون تمثيلها أمام الأمير وحاشيته أبلغ في معنى الحفاوة، وأبين عن سمو الذوق، وأدل على أن في مصر تمثيلاً له أدبه المحلى وطابعه الخاص وروحه المميزة. أما متحذلقات موليير فقد مضى على تأليفها مائتان وثمانون سنة، قرأها فيها كل بلد ومثلها كل مسرح؛ فلو لم يدل اختيارها على سقم الذوق لسوء المناسبة، لدل على عقم الأدب لضرورة الاقتباس. ورحم الله من طلب إلى (غزلانزوني) في سنة 1871 أن يؤلف له (عايدة) لتمثل في هذه (الأوبرا) أمام الأضياف الأوربيين في مهرجان قناة السويس، فقد كان أسهل عليه وأسرع له أن يأمر الممثلين أن يمثلوا له ما شاء من الأوبرات الإيطالية والروايات الفرنسية؛ ولكنه لسمو نفسه وصفاء حسه أراد أن يكون الموضوع مصرياً واللون محلياً والتمثيل جديداً فكان له ما أراد!
والموسيقى - ومظهر الفن المصري فيها (معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية) - كانت ضرباً من السأم والغثاثة لا نعرف له ضريباً في موسيقى الأمم. فقد أقام هذا المعهد كذلك في داره حفلة ترحيب وتسلية للأمير الخاطب، فكانت ألحاناً مكررة، وأصواتاً منكرة، وبشارف وتقاسيم وأدواراً يعزفها لقلتها البادئ والمنتهى، ويعرفها لشيوعها الموسيقار والسامع، ولا تكاد الأذن الفنانة المرهفة تنفتح لنغماتها التقليدية المكرورة أكثر من دقائق! وما دامت موسيقانا تسير على نهج (التخت) في وضعه التمثالي الجامد، فهيهات أن تشيع فيها الروح، وتظهر عليها الجدة، ويرتاح إليها الشعور. وأعجب العجب أن هذه الموسيقى الواحدة، يجعلون لها أسماء متعددة؛ هذه (تحية العروس) وهذه (رقصة الأمل) وهذه (سكرة الموت) ولو وضعت على كل واحدة منها أسم الأخرى لما أنكر ذلك سامع ولا اعترض عليه معترض!
أما إذاعتنا اللاسلكية فكانت على عادتها إهانة عالمية لمصر! فبينما تجدين محطات الإذاعة العربية في العالم تتغذى على الهنيء السائغ من فن عبد الوهاب وأم كلثوم، تجدينها هي تتغذى على الغث البارد من أنامل وحناجر لا هي معجبة ببراعة الفن، ولا هي مطربة بحلاوة الصوت!
أقول لك ذلك يا نفس، وأنا أعلم أن في قوله تفريجاً عنك، وليس فيه إن سمعه سامع ما يغضب الحق ويؤذي الناس!
ابن عبد الملك