مجلة الرسالة/العدد 299/أما لهذا الليل من آخر؟
مجلة الرسالة/العدد 299/أما لهذا الليل من آخر؟
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
إن المسلمين اليوم في ليل أليل لم يبق بأيديهم من مجد آبائهم إلا الذكرى، ولا يكاد يبقى في قلوبهم من عزة دينهم إلا القليل. لكن العجيب أن هذا القليل كلما بدأ ينمو ويشتد كما تنمو الحبة في الأرض الطيبة إذا أصابها غيث، نجم للدين من بين من أنعم الله عليهم من أهله بنعمة البيان من يصرف بيانه في ما من شانه أن يعوق ذلك النمو. وليس يهم أكان ذلك عن قصد أم عن غير قصد فإن النتيجة للمسلمين واحدة في الحالتين
ومن أقرب الأمثلة لهذا وأغربها الكلمة التي أرسلها على الناس للكاتب المعروف الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي في رسالة هذا الأسبوع. فقد كتب يعجب مما سماه قيام القيامة في الجامعة (ضد كتابين قيمين) لاشتمالهما على طعن في الإسلام، ويزعم أن هذا الذي سماه فزعاً من كل كلمة تمس الإسلام أكبر مسبة لهذا الدين العريق العميق، لأنه يوهم إنه دين ضعيف يخشى عليه من طعن الطاعنين مع أنه دين متين ثبت على الأحداث فلا خطر عليه من كتاب يؤلف أو عبارة تقال طعناً فيه. ثم يمضي فيعرب عن دهشته أن يكون مظهر هذا الفزع في الجامعة التي فيها شباب (انغرست في قلبه العقيدة الحارة فلا خوف الآن عليه من مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية) ويختم بقوله إن صحة العقيدة كصحة الجسم لا بد لها من الهواء الطلق لتكتسب المناعة، ولا خير لها في أن تحاط ببيت من زجاج
هذا ما قاله الأستاذ توفيق الحكيم كأحسن ما نستطيع أن ننصفه به في التلخيص
انه أولاً يكتب من غير أن يعرف فيما يبدو حقيقة المسألة التي يكتب فيها. لأن المسألة قي أحد شقيها على الأقل ليس فيها شيء يتعلق بمناقشة المسائل العقلية في جو الحرية، لأن أحد الكتابين المشكو منهما على الأقل ليس بكتاب مسائل عقلية تدرس وتناقش في جو من الحرية أو من غير الحرية ولكنه قصة كبعض قصصه هو ورد فيها ذلك الطعن الممجوج على لسان بعض أشخاصها.
فليت شعري كيف فات الأستاذ توفيق الحكيم معرفة ذلك حين كتب عن (مناقشة المسائل العقلية في جو الحرية؟) أم كيف، وقد عرفه، فأنه أن ينصف الطلبة حين شكوا من ذلك الكتاب؟
ثم هو فيما يظهر لا يجعل الناس سواسية في حرية القول والتفكير التي يدعو إليها، وإلا فلماذا لا يترك للطلبة الحرية في أن يشكوا مر الشكوى أو حلوها ويقيموا القيامة إذا شاءوا على كتابين يطعنانهم في شيء يعزونه ويقدسونه ولا يريدون أن يسمعوا فيه طعناً ولا تجريحاً؟ أفمن الحرية أن يقرر في الجامعة من قرر دراسة ذينك الكتابين، ولا يكون من الحرية أن يشكو الطلبة منهما كي يستبدل بهما غيرهما من الكتب الأدبية الراقية الكثيرة الخالية من الطعن في الإسلام؟ أفيعاب الطلبة أو الشباب ذوو (العقيدة الحارة) أن يغضبوا لدينهم فيأبوا أن يقرءوا طعناً فيه، ويطالبوا بتحقيق المصلحة لهم من غير إلحاق مضرة بهم في الدين، ولا يعاب من اختار ذينك الكتابين للدراسة عن جهل بما فيهما أو عن استهانة بالشعور الديني في المسلمين؟
إن الذي يقرأ كلام توفيق الحكيم يظن أن الطلبة أكرهوا على ترك كتابين حبيبين إليهم خوفاً على الدين في نفوسهم من طعن ورد فيهما، ويفهم أن الكاتب يشير إلى أن هناك تعدياً على حرية التفكير والدرس باسم الدين. والأمر بالعكس، فحرية التفكير والدرس تقضي بالا يدرس ذانك الكتابان في الجامعة لأن الذي سخطهما هم الطلبة الذين يريد توفيق الحكيم لهم حرية الدرس والتفكير. فهل حرية التفكير والدرس عند توفيق الحكيم ليس معناها حرية الدرس والتفكير؟ إن الطلبة هم الذين شكوا أولاً إلى الأستاذ وأبلغ الأستاذ شكواهم إلى العميد، فلما لم يشكهم العميد اعتماداً على ما يعتمد عليه توفيق الحكيم من أن الدين لا خطر عليه جهروا بشكواهم للجرائد، فاهتم بالأمر شيخ الأزهر ووزير المعارف وكان أن سحب الكتابان. فإذا كانت هذه قيامة فمن الذي أقامها؟ من طلب تغيير الكتابين في هدوء بالطريق القانوني أم من أبى عليهم ذلك التغيير برغم كثرة الكتب الأدبية القيمة البريئة من الطعن في الدين؟
إن المناعة في العقيدة التي يطلبها الأستاذ الحكيم للطلبة وللناس هي بالفعل عند هؤلاء الطلبة الذين أبوا ذنيك الكتابين. وما هي المناعة في العقيدة إن لم تكن هذا الإباء إباء الإصغاء للطعن في الدين من غير موجب ولا داع؟ وما هي إن لم تكن إقامة القيامة على كل ما يسئ إلى الدين في النفوس؟ إن أول ما يفعله الجسم امتناعاً على الأمراض هو ألا يسمح لجراثيمها بدخول الجسم إن أمكن. ومن هنا تجمد الدم أو محاولته أن يتجمد على الجرح ليسده دون الجراثيم. ومن هنا المصفيات والمطهرات المختلفة في مداخل الهواء والغذاء إلى الأجسام. أما إذا دخلت الجراثيم فليس للجسم وسيلة إلى الامتناع منها إلا شن الغارة عليها وإقامة القيامة ضدها على حد تعبير الأستاذ توفيق الحكيم. وهذا بالضبط هو ما فعله الطلبة حين أحسوا من ذينك الكتابين بالجراثيم التي تتهدد صحة العقيدة والدين فيهم. وقد كتب الله لهم النصر في الدور الأول من أدوار الامتناع والكفاح فسدوا الجرح الذي يمكن أن تدخل منه تلك الجراثيم، وكفاهم بذلك الحاجة إلى كفاح تلك المطاعن بعد دخولها في النفوس
ومن العجيب أن يشبه الأستاذ الحكيم قراءة المطاعن الدينية وعلاقتها بصحة العقيدة بالمعيشة في الهواء الطلق وعلاقتها بصحة الجسم. إنه تشبيه مقلوب على أقل تقدير. ولا ندري كيف أمكن أن يغيب خطؤه وخطله عن مثل الأستاذ! إنه لا يستقيم إلا إذا كان تعريف الهواء الطلق عنده أنه الذي تكثر فيه الغازات الفاسدة والجراثيم. فإذا لم يكن هذا تعريف الهواء الطلق عنده فأنا نرجو أن يرى بعد ما بين تنفس الهواء الطلق وقراءة المطاعن الدينية، كما نرجو أن يرى في ضيق صدور الطلبة بما في الكتابين من مطاعن دليلاً على فساد جوهما الروحي، كما يدل على فساد الهواء ضيق الصدور به عند المتنفسين
لكن لعل أعجب ما في مقال الأستاذ الحكيم جعله متانة الإسلام وثبوته على أحداث الزمان وسيلة إلى استئناس الناس لاستماع الطعن فيه بحجة أنه لا خطر على الإسلام من طعن الطاعنين؛ فإذا أبى الناس أن يستمعوا الطعن طاعن وغضبوا لدينهم عد ذلك الغضب منهم فزعاً، وقال هذا الفزع أكبر سبة لديننا العريق العميق. هذا غريب من القول وعجيب من الاستدلال. إن الإسلام متين ثابت حقاً، لكن متانته وثبوته لا يمكن عند المنطق السليم أن يكونا مبرراً لترك خصومة يعملون المعاول فيه اتكالاً على أنها لا تضره. إنها لا تضر مبادئه وأصوله في ذاتها ولكنها تضره في نفوس أهله الذين لا يهبون لدرء الأذى عنه حين يرون خصومه جادين في الاستهزاء به والطعن عليه. إن الذي يصيبه الأذى بالسكوت على الطعن في الدين هو التدين في نفس المتدين الساكت. وإذا استمر على السكوت فسيسلمه من غير شك إلى الهلاك
ولست أدري كيف غاب عن الأستاذ الحكيم أن المسلمين لو كانوا راضوا أنفسهم منذ بدء الإسلام على ما يريد الآن أن يروضهم عليه من السكوت على الطعن في الدين ما ثبت الإسلام للأحداث ذلك الثبوت الذي يتخذه الآن حجة يخطئ بها الناس في غضبهم للدين. ولماذا نذهب بعيداً؟ لنفرض أن المطعون فيه من غير عقل ولا روية هو توفيق الحكيم وفنه ومقدرته. ولنفرض أننا خاطبناه بما يخاطب به الناس فطلبنا إليه ألا يغضب ولا يدفع عن نفسه ولا يدع أحداً من أنصاره يغضب له أو يدفع عنه، لأن فنه ظاهر العبقرية فلا خطر عليه من طعن طاعن مبطل، ولأن الغضب والدفاع يوقعان في الوهم أن فن توفيق الحكيم ضعيف لا يثبت على الطعن والتجريح؛ ولنفرض أنه وأنصاره عملوا برأيه هذا فلم يغضبوا له، ولم يدفعوا عنه، ماذا يبقي على هذا من فن توفيق الحكيم أو صيته بعد قليل؟ لا شيء، فسيألف الناس حتى أشدهم تعصباً له سماع القالة فيه، وسيهون أمره عليهم بالتدريج حتى يدخل عليهم الريب في أمره ويسلمهم الريب إلى تصديق كل ما قيل فيه
على أن الناس، مهما فاتهم بتغيير رأيهم في توفيق الحكيم من نعمة التسلي بفنه وقصصه، سيظلون هم الناس لم يمسس أرواحهم خطر ولا سوء. لكن ليس الأمر كذلك إن هم ألفوا الطعن في الدين وصاروا إلى الرضا به والسكوت عليه. إنهم سيهلكون حتماً في الآخرة إن لم يهلكوا في الدنيا، أو على الأقل هكذا يعتقد الناس. وسيعتقد ذلك معهم توفيق الحكيم حين يقرأ ما قرءوا من قوله تعالى: ﴿وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويُستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً﴾ [سورة النساء:١٤٠]
والقيامة التي قال توفيق الحكيم إنها قامت ضد الكتابين في الجامعة ليست بأكثر ولا أقل من إصرار الطلبة على تغيير الكتابين المستهزأ فيهما بدين الله بآخرين ليس فيهم استهزاء. فماذا في طلبهم هذا يا ترى مما يجعل مثل الأستاذ الحكيم يسميه قيامة ويرسل من أجله سهامه على الناس من برجه العاجي؟
على أنه سواء أقامت القيامة بعملهم ذلك أم لم تقم فإن الطلبة الذين استجابوا لصوت ضميرهم في ذلك إنما كانوا عاملين بتلك الآية الكريمة من حيث علموها أو من حيث لم يعلموها، فهم فيما عملوا كانوا من غير شك على صواب. وسيجزيهم الله خير الجزاء من فضله على ما جاهدوا في سيل الإسلام.
محمد أحمد الغمراوي