مجلة الرسالة/العدد 299/القصص

مجلة الرسالة/العدد 299/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



أقصوصة من الكاتب الإنكليزي ينز

الشاعر

(جائزة نوبل)

للأستاذ صلاح الدين المنجد

مشى يتخلع ثملاً في حنايا المدينة، وقد أغفى الليل وسجا الكون، فطرق سمعة نغم حلو يصعده ناي حزين. فسعى إليه، جذلان طرباً. فقد كان للأنغام أثر في نفسه، وسلطان على حسه، وسيطرة على هواه. . .

فلما جاز بالدار التي ترسل النغمات. . . نادى صاحبها، فقام إليه يندى وجهه فرحاً، فرحب به وقال له:

- ما هذا الهجران الطويل يا هانرهان. . . فلقد صرمت حبالنا منذ بعيد، فنحن بعدك في شوق يلح، وكآبة تضني. . . أهلاً. . . حللت يا هانرهان. . .!

فلكزته زوجه بجمع كفها، وهمست في أذنه: أن اطرده، فإن الناس يتقولون الأقاويل عليه، وإن الكهنة يقصونه عن المعبد كلما أتى إليه. . . ثم إن ثمل. . . دعه. . . دعه يمض وحيداً

فصاح بها زوجها قائلاً: (أأطرده أن جاء إلي بعد سنين طويلة. . .؟ إنه شاعر رقيق القلب، طيب النفس

ودخل الشاعر الدار يتبع ربها. . . فقاده إلى غرفة تكدس الناس فيها من الجيران. . . فغشيها وقد شخصت الأبصار إليه. وقال فتى كان هناك:

- أليس هذا هانرهان الذي ذاع صيته. . . وكان معلماً فطردوه. . .؟

فأخرسته أمه وقالت له:

- لو أنه سمع مقالتك لا ندرأ عليك سباً وشتماً. . . أنصت!

وساد السكون. . . ولكن أحد الفتيان نادى الشاعر لينشد القوم شعراً. فأبى رب الدار ذلك عليه. . . لأنه لم يصب بعد من الراح شيئاً، ولم ينل من الراحة قسطاً. فأخذ الشاعر يعب الخمر وقد جاشت في كأسها. . . ثم يحول بصره نحو الباب لينظر إلى (وانا) فتاة الدار، وقد أتت تعانق حزمة من الحطب الجزل، لتؤرث بها النار، وشعرها الأشقر الجعد متهدل على وجهها وعينيها

وقام إليها الفتيان مسرعين ليأخذوا منها الأعواد. ولكنها رمت بها إلى الموقد. . . وانثنت وثغرها المرفاف يضحك لترقص مع فتى لها، فغضب الشاعر. . . وضرب الأرض، ثم دفع بالفتى وهو يزبد صائحاً:

- ولقد قطعت طريقاً طويلة، وأتيت لأراها. . . فأنا الليلة فتاها. . .

وأسرعت (وانا) إلى الشاعر فمدت إليه يديها والخجل يعلو خديها. . . وعزفت الموسيقى، وقام الناس ليرقصوا. . . ولكن وا أسفاه. . . لقد انحنى الشاعر فرأى حذاءه الذي حال لونه وبلى فبدت من خلاله أصابع رجليه التي نفذ إليها الطين، وأبصر سرواله الممزق، وساقه العارية المملوءة بالشعر الأسود الغليظ. . . فارتد إلى مكانه وهو يقول:

- لا أستطيع الرقص والموسيقى تسرع

ولها الناس، وجنت الموسيقى، وعربدت الأنغام. . . والشاعر جالس مع (وانا) يقص عليها أحلى الأقاصيص

وأدركت الأم خطر الشاعر الذي يريد أن يسحر الفتاة. . . فنادتها ولكنها أعرضت عنها. . . فأقبلت الأم على الموقد تتظاهر بتأريث النار، وتصغي إلى حديث هانرهان. لقد سمعته يحدثها عن (ديردر) ذات الأيادي البيض. . . التي قادت الأمراء إلى الموت فماتوا وجداً بها وهياماً. وأحزنها فقدهم. . . فطفقت تبكي. . . آه يا (وانا). . . إن الأزهار تذرف الدمع في السحر حزينات رحمة بها، وإن الشعراء يتغزلون ويبكون لها. . . ما كان أجملها وأعذب صوتها يا (وانا)!

واضطربت الأم، وأرهفت أذنها. إنه يقول لها: (مثل الشمس والقمر يا (وانا) كمثل المرأة والرجل، خلقا ليتحابا. . . ألا تنظرين إليهما يتنقلان في السماء؟ لقد خلقت يا (وانا) معي قبل أن يخلق الله الناس لكي نرقص بين طيات السحاب الرقيق. . . نرتفع مع النغم الهادئ، ونهبط مع النشيد الجميل بخفة وسرور، على حين يسقط الناس صرعى لاغبين!)

وانتصبت المرأة مضطربة الشعور، ومشت إلى زوجها وهو يلعب الورق، فحدثته حديث الشاعر والفتاة. . ولكنه ازور عنها يضحك منها. فأحزنها الأمر، وقامت إلى عجوز فقصت عليها نبأ (وانا) مع الشاعر المخيف: (ويلي كيف السبيل إلى طرده. . . إنه ساحر ملعون. . . فلأحرضن الفتيان عليه!)

وجاءت إلى الفتيان وقالت لهم: (ويحطم. . . ألا تستطيعون نزع ابنتي من هذا الشاعر فترقصوا معها. . . هيا. . . هيا!)

وقام الفتيان. . ولكنها ردتهم خائبين. . فمالوا إلى الشاعر يلحون عليه في الرقص. . فأذعن بعد لأي. . وانتصب يرقص مع الفتاة. .

وبينا هو كذلك. . . إذ طرب. . . فاندفع لينشد الشعر. . . فخرست القيثارة. . . وأنصت القوم وقال هانرهان:

(يا أصابع الموت المخيفة. . .!)

(لن تمسِّي روحينا في هذا المكان. . .!)

(ولكن في ذلك الوطن الغالي الحبيب. . .!)

(حيث تبسم الزهور وترفّ الثغور. . .!)

(من راد الضحى. . . حتى جنوح الأصيل.)

(حيث تدب الجداول. . . الجذلى. . .!)

(تحمل موجات الجعة العذبة الشقراء. . .)

(وحيث يلعب الشيخ الهِمّ على الأوتار. . .)

(في الغابة المليئة بالذهب والفضة. . .!)

(وحيث الأميرات ذوات العيون الزرق الصافية)

(يرقصن على الحشيش الغض بفرح وكبرياء. . .!)

كان يغني بحماسة وشوق و (وانا) تتقرب منه، وقد حرك إنشاده شجونها وملك عليها أمرها. . . فلما فرغ من إنشاده. . . أطرقت (وانا) وسقط الدمع من عينيها ندي. فقال أحد الفتيان:

- أيها الشاعر. . . . أين هذه البلاد التي تصفها في شعرك؟ (وانا) إنه يخدعك. . . إن الطريق طويلة. . . والوطن بعيد! وقال فتى آخر:

- ليست بلاد الصِّبا هذه يا (وانا) إنك لم تخلقي لتصاحبي هذا المجنون!

عندئذ شخصت (وانا) ببصرها إلى الشاعر الحزين. . . كأنها تريد أن تسأله شيئاً. . . ولكنها وضعت كفها بين كفيه ورفعتهما إلى أعلى. . . وقالت بصوت رخيم:

- إن الوطن لقريب منا. . . يا شاعري. . . إننا نستطيع إدراكه الآن. . . إنه هناك. . على ذرى الهضاب ذات الرفيف. . بالقرب من الغاب التي تأويها الريح ذات الزفيف. . .

فصاح الشاعر:

- نعم في ذرى الهضاب. . . يا فتاتي. . . يا ذات العيون الزرق. . . ولكن الموت لن يجدنا. . . هناك. . . لأننا نختفي بين السحاب الأبيض الجميل. .!

وأنا. .! يا ذات العيون الزرق. . . هل تريدين المجيء معي. .؟

وذعرت الأم وقالت لعجوز كانت إلى جانبها:

- كيف السبيل يا جارتي إلى طرده؟

- ولكننا لا نستطيع. . . إنه شاعر الآلهة، ومن يطرده تنصب عليه اللعنات تتري في الغدوات والعشيات! ثم يجف الضرع ويموت الزرع، وتهلك النفوس. .!

- ربّاه عونك! إن في لسانه السحر. .

- كان عليك طرده. . ولكن. . اسمعي. . تعالي. . سنخرجه وهو راض عنا، تعالي. .

وخرجت العجوزان ثم عادتا تحملان حزماً من الفصفصة الخضراء، وكان الشاعر يكلم (وانا) ويقول:

- (إن الديار يا وانا ضيقة والعالم فسيح، ولن تجدي يا فتاتي مخلوقاً تيمه الحب، يخاف الليل أو الفجر، والشمس أو النجوم، وأشباح الأماسي وأطياف الأسحار، هيا يا فتاتي.)

واقتربت الأم من الشاعر فربتت على كتفه وقالت له:

- هات يدك يا هانرهان. .

وقالت العجوز:

- أنت قوي يا هانرهان. . . ساعدنا على ربط هذه الحزم الخضر. . .

وتقدم الشاعر يربط الحزم بحبل والعجوزان تفكان العقد التي يعقدها ويجران الحبل نحو الباب، والشاعر منهمك في الربط. . والفتاة تنتظر. . حتى إذا كان عند الباب دفعت الأم به، فهوى إلى الشارع لا يعي. .

واستفاق الشاعر يبكي. . . فضرب الباب. . . وصعد الزفرات وأرسل اللعنات. . . ولكن لم يجبه أحد. . .

وساد السكون. . . وتلاشت الأنغام. فقد مضى الشاعر في طريقه يذرف الدمع. . . وا رحمتا له!. . . لا رفيق ولا حبيب، لا كأساً يجيش فيها الخمر، ولا فتاة ترهف لأناشيده وأنغامه الأذن

وقالت له نفسه: هيا إلى البحر، فلن يسعك شيء سواه!

وجلس فوق الصخور الشم يستمع إلى تصفيق الموج، ويصغي إلى همس الريح السجواء. . فطرب واندفع يغني، وكان الضباب الهف يغمر الفضاء ويحف بالشطئان، وكانت أشباح الليل ترقص حوله. . هنا وهناك تصعد من البحر وتهبط من السماء!

لقد خيل إليه فجاءة أن طيف الأميرة التي حدث (وانا) عنها يناجيه. . .

ولكن. . . آه! إنه يتذكر الحبل والعقد. . . أهو حبل؟ لا. . . تلك أفعى خرجت الآن من البحر. . . هاهي ذي تحيط به يا لله! لشد ما تخيف. لقد وسعت كل شيء: الأرض، السماء حتى النجوم الخافقات. . .!

ولكن. . لا. . هاهو ذا طليق، فمشى يتماوح ويعربد ويغني

لقد اختطفته الأمواج، وحفت به الأطياف، وحملته الأشباح على الزبد الجياش، وهي تغني. . وتقول:

(هيا لنحمله إلى بنات الهضاب. . . إلى الحسان الراقصات هناك. . . فهو لن يذوق الحب في الأرض. . . لقد دب الفناء في نفسه. . وجثم الظلام فوق قلبه، دعوه ينم. . دعوه يمت. . . دعوه يحلم ببنات الهضاب)

صلاح الدين المنجد