مجلة الرسالة/العدد 3/الرجل صاحب الكلب

مجلة الرسالة/العدد 3/الرجل صاحب الكلب

مجلة الرسالة - العدد 3 المؤلف محمود تيمور
الرجل صاحب الكلب
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1933



قصة مصرية.

للأستاذ محمود تيمور

حدثني الراوي قائلاً:

عندما كنت طالباً في مدرسة الزراعة بالجيزة كنت أتردد في أوقات فراغي على قهوة صغيرة بالقرب من الشارع العمومي يجري بجوارها جدول صغير وتتهدل فوقهاأغصان شجرة عتيقة. وكنت أعتبرها حلقة الاتصال بين الحضر والريف أو بين المدنية والحياة الساذجة البدائية. فبينما تكون جالساً في مقعدك البسيط تشرب القهوة في هدوء وتصغي إلى خرير الماء وتشم رائحة النبات إذ بك تسمع دوي ترام أو سيارة ويمتلئ أنفك برائحة البنزين والتراب.

وكان يتردد على هذه القهوة رجل بدين الجسم كروي الوجه بأنف أفطس وعيونصغيرة يلبس بدلا من المعطف حرملة من اللون الأزرق الكالح ويلف رأسه بشال قديم مهلهل. وكنا في ذلك الوقت على أبواب الشتاء. وكنت ألاحظ عليه مظاهر الجربعة. وأعتقدت أنه من أرباب المعاشات الفقراء. وأذكر أنني لم أذهب إلى القهوة مرة واحدة ولم أجده. أراه دائماً في ركنه المعهود بجوار باب القهوة منتفخاً في جلسته يدخن النارجيلة ويحتسي القهوة ويزعق بين فترةوأخرى على الخادم يصدر إليه أوامره الممضة. يصحب معه دائماً كلباً أسود بشع الهيئة من فصيلة الأرمنت. يزعج القهوة بنباحه الثقيل. كان سيده يبالغ في تدليله والإعتناء به. ويكلمه ببعض كلمات إنجليزية بلهجة سقيمة لا تتعدى قوله: كام هير جيمي كام هير ماي دير.

ولا أدري ما الذي دفعني إلى أن أهتم بهذا الرجل وكلبه وأدقق في ملاحظتي إياهما. مع نفوري منهما.

وذهبت مرة إلى القهوة فوجدت عويساً ماسح الأحذية يتشاجر معه. وكان الرجل يشتم الغلام بصوته العريض الوقح وهو منتفخ الأوداج محمر العين يبصق أماه بصقات متوالية. ورأيت الكلب ينبح ماسح الأحذية بشدة ويجذب بأسنانه طرف ثوبه. فتحاشيت التدخل بينهما وقصدت إلى مكاني بجوار الجدول ومعي كتاب الزراعة المصرية لأذاكر فيه. وجاء صاحب القهوة فحسم الخلاف وشتم عويسا وأرضى الأفندي ببعض كلمات لا تخلو من تملق. وترك الكلب ثوب الغلام وذهب إلى سيده فنظر إليه مليا وهو يبصبص بذنبه ثم تمدد تحت أقدامه ونام.

وجاءني عويس يمسح لي حذائي كالمعتاد فمددت له قدمي في حركة آلية غير ملتفت إليه وأنشغل الغلام بالمسح وأنا بالتفكير وبعد برهة خاطبت عويسا ووجهي لا يفارق الكتاب. .

- من يكون هذا؟

فأجابني وهو منهمك في عمله.

- واحد حكيم لا طلع ولا نزل. يدعي أنه كان حكيمباشي في الجيش في الزمن الماضي.

- والآن؟

- على المعاش

ثم رفع رأسه إلي وقال:

تصور يا بيه أنه يريد أن يعطيني قرش تعريفة واحد في مسح حذائه ووضع شريط جديد له. وأي جزمة هذه التي مسحتها. ربنا لا يوريك أؤكد لك أن الورنيش لم يمسها منذ أن كان جنابه في الجيش. .

قرش تعريفة واحد نظير مسحة وشريط جديد. الله الغني يا سيدي. . هذا خلاف الخدمات التي أؤديها له بدون مقابل. ولو كان شخصاً فقيراً لقلنا نخدمه لوجه الله ولكنه رجل عاكم. عاكم تمام.

وسمعت الحكيمباشي يبصق بشدة على الأرض فخفف عويس من حدته وهمس قائلاً:

- تصدق بالله، لو ذهبت إلى بيته لظننت انك في مزبلة أو مربط بهائم. . . . . لم كل هذا والدنيا أخرتها موت. فضحك واردم على هذه السيرة. .

وغبت عن القهوة بضعة أيام. وبينما كنت مرة في الترام منهمكاً في قراءة (البلاغ) إذ شعرت بشخص يدخل العربة، وكانت مزدحمة بالركاب، ويحشر نفسه بين الجالسين وسمعت همهمة استياء من كل ناحية. ورفعت بصري لأرى من الداخل فوقع بصري أول وهلة على كلب اسود ضخم بشع الهيئة عرفته على الفور. ورأيت أمام مقعدي الحكيمباشي يمسح وجهه المحتقن المعقد ويشد حرملته على أكتافه ويدفع جاره وهو يدمدم. وتلاقت أعيننا. وشعرتبأنني ابتسم له. وشاهدته يجيبني مجاملة بابتسامة سطحية خاطفة. وبعد لحظات قال لي مندفعاً:

- يدفع الواحد منا ستة مليمات لهذه الشركة الملعونة ليحظى بمثل هذه الجلسة المرهقة. نحن آدميون ولسنا بهايم حتى يحشروننا هكذا كأننا في عربة للحيوانات. لماذا لا يزيدون عربة على كل قطار في مثل هذه الأوقات. أقسم بالله ان سوارس الذي تدفع فيه ثلاثة مليمات فقط أحسن ألف مرة من هذا الترام.

فوافقته موافقة تامة. وأخذت أذم له الشركة بدوري. فظهر على وجهه الارتياح وأخذ يناقلني الحديث بلهجة ودية ومن غير تكلف كأنه يعرفني منذ أعوام، وقال:

- لم تحضر إلى القهوة منذ أيام

- كنت مشغولاً جداً. لقد هجمت علينا الدروس.

- إيه يا بني لو كنت معنا في الجيش لأستصغرت من شأن مشاغلك. . كنت أنا لا أجد الوقت الكافي لأتناول كوب اللبن في الصباح.

- حضرتك خدمت في الجيش مدة طويلة؟

فأجاب بلهجة متزنة وهو يعبث بسلسلة ساعته. .

- 45 سنة، 45 سنة وأنا أعيش في الخيام وعلى ظهور الجياد. أضمد جروح الجرحى وأعنى بالمصابين. ثم أخرج بعد هذه الخدمة الطويلة العريضة الشاقة بمعاش لا هو في العير ولا في النفير. . . لا مكافأة ولا يحزنون. .

ثم مال علي وهو يبتسم وقال:

- ألم تسمع المثل القائل: آخر خدمة الغز علقة.

وكان قد خلا مكان بجواره فنظر إلى كلبه الذي كان ممدداً تحت أقدامه وقال له وهو يفرقع بإصبعه. .

- كام هير جيمي. كام هير ماي دير.

وأشار له إلى المحل الخالي، فقام الكلب وبعد أن تمطى وتثاءب في هيئة شنيعة قفز بجوار سيده والناس يرمقونه بالنظر الشزر. وألتفت إلي الحكيمباشي وقال وهو يلاطف كلبه. .

- لم أر في حياتي كلباً وفياً كجيمي هذا. أنه إنسان وليس بحيوان. لقد إستغنيت به عن البنين فهو أبني وعن الخدم فهو تابعي الأمين. وعن الحراس فهو حارسي الذي يبذل دمه في سبيلي. أتصدق أنني لا أعاشر سواه في منزلي.

ثم نظر إلى كلبه وقال:

- أوه جيمي أي لاف يو فري ماتش

وكان بجواري شيخ معمم فسمعته (يمصمص) بشفتيه ويتمتم قائلاً:

- لله في خلقه شؤون!

ووقف الترام على إحدى المحطات ودخل العربة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال الإيطالي فسلم علي في بشاشة. ثم إلتفت إلى الحكيمباشي وقال:

- أهلاً أسعد بك. في غاية الأشواق يا حبيبي.

وتحدثنا برهةً في العموميات، ثم رأيت أسعد بك الحكيمباشي ومحمد أفندي زكريا يفتحان باب البحث في المسائل المالية. فسكت وأصغيت لهما. وأخذا يتعمقان قليلاً قليلا فلم أعد أفهم من كلامهما شيئاً. وكانت أمثال الكلمات. . الكامبيو والبورصة وسندات الشركة البلجيكية وأسهم البنك العقاري والرنت الفرنساوي تطن في أذني طنيناً مزعجاً، وارتسمت على وجه أسعد بك أشد مظاهر الاهتمام فوجدت عينيه تحملقان في وجه محدثه حملقة الجائع الشره، وطاقتي أنفه تتسعان كأنهما تستجديان الهواء. . . وأخيراً وصلنا الجيزة فسلم أسعد بك علينا ونزل لأنه كان يسكن في هذه البلدة. أما أنا ومحمد أفندي زكريا فتابعنا ركوبنا إلى الأهرام إذ كنا نرغب في تناول الشاي في (مينا هاوس) وملت على محمد أفندي وقلت له:

- إن لصاحبك باعاً طويلاً في الأمور المالية.

- إنه يا عزيزي يلعب بالجنيهات في سوق المضاربة كما تلعب الأولاد (بالبلى)

- وهل يكسب؟

- لم أسمع مرة واحدة أنه خسر.

ومرت الأيام وكثرت مقابلتي لأسعد بك في القهوة وتوثقت بيني وبينه روابط الصداقة. وأتضح لي أنه شخص غير مزعج كما توهمت قبل معرفتي إياه. فكان إذا رآني في ركني المعهود منكباً على كتابي أذاكر درسي أحترم عملي ولم يفتح فمه بكلمة. أما إذا لاحظ أنني لا عمل لي دعاني إلى الجلوس معه. ولا أذكر أنه أكرمني بفنجان قهوة. أو قدم لي سيكارة واحدة. أما حديثه فكان سخيفاً ولكنه مسل للغاية. معظمه حكايات عن حياته الماضية في الجيش ونوادر عن كلبه لا تخلو طبعاً من مبالغات ومغالطات. وكان إذا تكلم عن كلبه لمعت عيناه بوميض غريب وخيل إليك أنه يتكلم عن ابن وحيد له وهبه كامل محبته وحنانه.

وتغيبت بضعة أيام عن القهوة ثم عدت إليها فكان أول شئ لاحظته هو أن أسعد بك غير موجود. ولما جاءني غلام القهوة سألته عنه فلم يفدني شيئاً. وبعد قليل ظهر عويس ماسح الأحذية. وكان مسروراً يخبط بظهر فرشته صندوقه فسألته:

- ما الخبر يا ولد؟

- خبر عظيم جداً يا بيه.

- لقد أخذوا كلب أسعد بك في عربة الكلاب.

- يا شيخ!

- شاهدت ذلك يعيني رأسي.

ونالني شئ من الأسف. ولكنني لم أهتم بالأمر كثيراً. وأعتقدت أنني سأرى في الغد صديقي وكلبه يحتلان ركنهما المختار في القهوة.

وبعد انقطاعي بضعة أيام ذهبت إلى القهوة فوجدت أسعد بك وبحثت بعيني عن الكلب فلم أجده. وكانت عينا صديقي مربدتين حائرتين ووجهه محتقناً. وسلمت عليه فسلم علي في اقتضاب وصمت فلم أشأ أن أثقل عليه. وقصدت إلى مكاني وفتحت كتابي وبدأت دراستي ولكنني ما كدت أفعل حتى سمعته يتكلم في لهجة شرسة وكأنه يتحدى إنساناً أمامه قائلاً:

يأخذون الكلب ويطلبون مني جنيهاً مقابل إطلاق سراحه! جنيه! هذا نصب، نهب. . إخص على دي مصلحة.

وبصق بصقة كبيرة. ثم أتم كلامه. . .

-. . مع أني أفهمتهم أني حكيم. . حكيمباشي الأورطة التاسعة التي قهرت العصاة في الأبيض ودارفور. رجل مقامي معروف وماضي مفعم بجليل الأعمال. مصلحة دون! لا تعرف أصحاب المقامات. . إخص. .! وبصق بصقة أخرى. وكان يتكلم دون أن يلتفت ناحيتي. ولكني كنت متأكداً أن الكلام موجه إلي إذ لم يكن في القهوة غيرنا. فرأيت من باب المجاملة أن أعير حديثه اهتمامي. وقلت:

- جميع مصالح الحكومة بايظة.

فاحتد في كلامه وهو ينظر أمامه دائماً وقال:

- الا هذه المصلحة. إنها ليست بايظة فقط. إنها غير موجودة. . . . . أتصدق أنهم يرفضون شهادتي الرسمية بأن الكلب غير مكلوب وأنه ليس من الكلاب الضالة، ويقولون أن الإجراءات يجب أتتبع مجراها. إجراءات؟ هه!. . سأريهم كيف تتخذ أمثال هذه الإجراءات معي ومع كلبي. سأريهم. .!

وضرب بشدة على المائدة والتفت إلي هذه المرة وعيناه تشعان باللهيب وقال:

- لقد أرسلت عريضة اليوم إلى وزير الحربية لتخلية سبيل كلبي في الحال. . في الحال.

فأجبته على الأثر.

- حسناً فعلت.

وفي الغد سافرت مع فرقة من طلبة المدرسة إلى الصعيد وقضينا هناك أسبوعاً كاملاً نتنقل بين ربوعه متفرجين على آثاره العظيمة. وفي اليوم التالي لعودتي إلى القاهرة قصدت إلى قهوتي المعروفة. فرأيت عويسا جالسا القرفصاء على الأرض بجوار إحدى الموائد وأمامه صندوقه ينتظر زبائنه. فناديته وسألته على الفور.

- ماذا جرى لكلب أسعد بك؟

فابتسم ابتسامة عريضة وقال:

- تعيش أنت!

- قتلوه؟

- منذ أربعة أيام.

ألم يدفع أسعد بك المبلغ؟

- يدفع المبلغ! انه يرضى أن يدفع لهم عينيه! ولا يتجاوز لهم عن الجنيه.

وشاهدت أسعد بك آتيا صوب القهوة يتوكأ على عصاه الغليظة ويسير في ثقل وإعياء، ولما اقترب منيابتسم لي ابتسامة هزيلة وسلم علي ثم جلس. وأشار إلى المقعد الذي أمامه وقال:

- تفضل اجلس

جلست وبدأنا نتحادث في أمور تافهة. وكانت لهجته مهملة ونظراته فيها بعض الشرود. ولم يتكلم بكلمة واحدة عن جيمي فعلمت أنه لا يريد الخوض في هذا الموضوع. ثم خيم علينا صمت ثقيل فاستأذنت وقصدت إلى ركني.

ومنذ ذلك الحين اختلت مواعيد أسعد بك ولم أعد أراه دائماً في القهوة كلما ذهبت. وغير عادته في فنجان القهوة السادة الذي كان لا يحيد عنه ولا يزيد عليه واستبدل به بضع كوؤس من العرق. وكان كلما ثارت الصهباء في رأسه اندفع يتكلم في إسهاب ممض وبصوت مرتفع كأنه يصرخ أو يشتم. وكانت موضوعاته دائماً لا تخرج عن سبهمصلحة الطب البيطري وسب العالم كله على السواء. كان يقول دائماً:

- الدنيا كلها نهب في نهب. إخص بلا قرف. وبدأ يضيفني على شرب الزبيب معه ويقول لي:

- لا تخش ضرراً. أنا حكيم. إن الزبيب مقو للدم وفاتح للشهية. أحسن المشروبات كلها.

وأصبح مجلس أسعد بك لا يطاق. فلم أكن أنعم بتلك المحادثات المسلية. ولم يكن يتركني أذاكر دروسي في هدوء. بل كاندائماً يقلقني بصياحه المزعج ويضطرني إلى الإنصات له وتحبيذ كلامه. وكان إذا رآني مقصراً في الالتفات إليه جاء إلى مائدتي ونقل مشروبه إليها واحتل مقعداً بجواري وبدأ يسح بشكاياته وشتائمه.

وحدث مرة أن جاء صاحب القهوة بحساب الشهر (وكان من عادة أسعد بك أن يدفع الحساب شهرياً) فأخذ الورقة من يد الرجل وألقى عليها نظرة عابسة ثم صاح في وجهه:

- مائة قرش؟ جنيه! أما لصوص صحيح! لن أدفع هذا المبلغ ماحييت ودعك الورقة ورماهافي وجه صاحب القهوة. وأراد الأخير أن يتفاهم معه في لطف فأقترب منه ومعه الحساب وأخذ يوضح له عدد الطلبات التي طلبها. فدفعه أسعد بك بشدة وصاح. .

- اذهب من أمامي لن ادفع شيئا. كلكم لصوص أولاد كلب. فأحمرت عينا صاحب القهوة وقال:

- اللصوص وأولاد كلب يا حبيبي هم الذين لا يؤدون ما عليهم.

- اخرس! أتعرف من الذي تكلمه؟ أنا أسعد بك حكيمباشي الأورطة التاسعة في الجيش المصري.

- وماذا يهم؟ أنا أريد نقودي. ليس هذا الجنيه كجنيه مصلحة الطب البيطري الذي لم تدفعه إنقاذاً لكلبك. هذا جنيه ثمن مشروبات جررتها من محلي. .

ورأيت سحنة أسعد بك قد انقلبت وصارت كسحنة النمر الهائج وقال وصوته يرتجف:

- ماذا تقول يا وقح؟ جنيه الطب البيطري! أتظن أنني قد بخلت بالجنيه في سبيل إنقاذ كلبي؟ أتجرؤ على هذا القول يا لعين؟ أنا أرضى أن ادفع مائة جنيه لا جنيها واحداً من أجله. . ولكنني لا أدفع للصوص أولاد الحرام، كلكم تستحقون ضرب الصرم، ورأيته يدس يده المرتجفة في جيبه في حركة شاذة ويخرج ورقة مالية من ذات المائة قرش وينهال عليها تمزيقاً في وحشية غريبة ويقول:

- أتستطيع أن تقول إنني لا أستطيع أن ادفع جنيهاً. .

ثم قام وأنشب أظافره في رقبة الرجل. وقامت بين الاثنين معركة حامية استدعيت من أجلها الشرطة.

وساءت أحوال أسعد بكفلم أعد أراه الا مخموراً رثالهيئة ممزق الملابس. قوي الشبه بهؤلاء المشردين مدمني المخدرات الذين تراهم في الطرق يستجدون المارة. وكان لا يسكت لسانه عن النقود وبالأخص عن الجنيه الذي لم يدفعه إنقاذاً لكلبه، وكان يؤكد لي في حماس غريب أنه لم يدفع هذا الجنيه نكاية في مصلحة الطب البيطري وليفهمهم أنه ليس مغفلاً أو ضعيفاً. وكان يروي الحكاية لكل من يقع عليه بصره في القهوة أو في الطريق وهو يصيح ويهدد ويشتم. وإذا لم يجد من يكلمه رأيته يحدث نفسه محتداً وهو يلوح بيده في حركات شاذة.

وانقلبمن شحيح متكالب على المال إلى مسرف متلاف لا تعرف يمينه ما تنفقه شماله. وسمعت أنه كثيراً ما يذهب إلى مصلحة الطب البيطري ليفدي الكلاب الضالة ويخرج لها رخصاً بمبالغ لا يستهان بها. وكان يحرضني دائماًعلى التبذير ويقول:

- اصرف وبحبح على نفسك.

وقابلت مرة محمد أفندي زكريا الموظف ببنك الكومرسيال فروى لي أخباراً مزعجة عن أسعد بك قال: أنه يضارب الآن بجنون ويخسر خسائر فادحة.

وحلت الإجازة السنوية وانقطعت عن زيارة القهوة ثلاثة أشهر كاملة ولما عدت إليها رأيت كل شئ فيها لم يتغير. وكانت مائدتي المختارة في موضعها بجوار الجدول تظلها أغصان الشجرة العتيقة. فكأنني لم أفارقها إلا منذ ثلاثة أيام. واستقبلتني الوجوه التي أعرفها كل بابتسامته الخاصة. وألتفت حولي مشرق الوجه وأنا أقول:

- كل شئ كما هو!

وبغتة قلت لعويس الذي كان يمسح مقعدي في هرج وسرور ويهيء نفسه لمسح حذائي. .

- أين أسعد بك؟

فتوقف عن عمله ورفع بصره إلي وقد غابت ابتسامته وانقطع ضجيجه المرح وقال بلهجة قابضة:

- ألم تسمع عنه شيئاً؟

- كلا

- لقد أرسلوه إلى المارستان. كانت حالة المسكين في المدة الأخيرة عبرة. وكنت أنا الذي أعتني به.

- ما هذا الكلام؟

- الحقيقة ما أرويها لك.

- وهل يمكن أن نزوره في المارستان؟

ومد عويس صندوقه تحت قدمي وبدأ يمسح في هدوء. وقال في لهجة غريبة:

- كلا يا سيدي لا تستطيع أن تزوره. . . لن تراه أبداً. . ونكس رأسه. . . فنكست رأسي أنا أيضاً وبدأت أستغرق في تفكيري الحزين.