مجلة الرسالة/العدد 3/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 3/الكتب

​ضحى الإسلام​ المؤلف طه حسين
الكتب
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1933



ضحى الإسلام

ألفه العلامة أحمد أمين الأستاذ بكلية الآداب ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر في 450 صفحة من القطع الكبير وقدم له (الدكتور طه حسين بهذه المقدمة) وستعود الرسالة إلى هذا الكتاب القيم فنقول كلمتها فيه. قال الدكتور:

أراد ناقد من نقاد التمثيل أن يثني على قصة راقته، وملكت عليه إعجابه، وكان صاحب القصة له صديقاً حميماً فتوقع أن يلام في الثناء عليه، ولكنه لم يتحرج من إهداء هذا الثناء إلى صديقه في غير تردد ولا تحفظ. وأعلن في صراحة (أعجبتني) أن من خيانة الأصدقاء أن تتخذ صداقتهم وسيلة إلى جحود مالهم من حق وإخفاء مالهم من فضل، وتجاملهم هذه المجاملة السلبية التي تدفعك إلى أن تتردد وتتحفظ، وتقدم إليهم ثناء ممتقعاً شاحباً، حتى لا تتهم بالإغراق، ولا توصف بالمحاباة. وحتى لا يسوء ظن قرائك بنصيبك من الأنصاف، وحظك من الاستقلال.

رأى ذلك الناقد (وأنا أرى معه) أن هذا النحو من معاملة الأصدقاء خيانة منكرة، وظلم قبيح. وأنه فالوقت نفسه نوع من اتهام النفس، والإسراف في سوء الظن بها. فليس ينبغي للناقد أن يصدر (فيما أرى من رأي) عما يقول الناس فيه أو ما يمكن أن يقولوا فيه، وإنما هو مدين لنفسه ولقرائه بما يعتقد أنه الحق الخالص، سواء أرضي الناس أم سخطوا، وسواء أوافق رأيه هوى القراء، أم أنحرف عنه.

وعلى هذا النحو من الاستعداد عمدت دائماً إلى النقد، واجتهدت ما استطعت أن لا أظلم الصديق لصداقته، ولا الخصم لخصومته، وليس الظلم مقصوراً على أن تغضَّ من العمل الأدبي أو العلمي، أو تنقص من قيمته لأن صاحبه صديق لك، أو حرب عليك. بل هناك ظلم أقبح من هذا وأشنع، وهو أن تثني على من لا يستحق الثناء أو تغلو في حمد من لا يستحق الحمد إلا بمقدار، وأن تحمد الخصم لأنه خصم، ولأنك تكره أن يقول الناس فيك خاصمه فعجز عن إنصافه وتحامل عليه.

ولست أريد أن أخون صديقي (أحمد أمين) بالإسراف في الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير في ذاته، وإنما أريد أن أنسى صداقته، وأهمل (ولو لحظة قصيرة) ما بيني وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، وإنما أريد أن أنصفه، وأشهد لقد فكرت وقدرت، وجهدت نفسي في أن أجد شيئاً من العيب ذي الخطر أصف به هذا الكتاب الذي أقدمه إلى القراء فلم أجد، ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير.

وليس ذنبي أن (أحمد أمين) قد قصد إلى عمله في جد وأمانة وصدق، وقدرة غريبة على احتمال المشقة والعناء، والتجرد من العواطف الخاصة. والأهواء التي تعبث بالنفوس، فوفق من ذلكإلى أعظم حظ يستطيع العالمأن يظفر به في هذه الحياة. نعم؛ وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) قد استقصى فأحسن الاستقصاء، وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب. ليس من ذنبي هذا ولا ذاك، وليس من ذنبي أن (أحمد أمين) بعد هذا كله، وبفضل هذا كله، قد فتح في درس الأدب العربي باباً وقف العلماء والأدباء أمامه (طوال هذا العصر الحديث) يدنون منه ثم يرتدون عنه، أو يطرقونه فلا ينفتح لهم، ووفق هو إلى أن يفتحه على مصراعيه، ويظهر الناس على ما وراءه من حقائق ناصعة، يبتهج لها عقل الباحث والعالم والأديب، ليس شيء من هذا ذنبي أنا! وإذا لم يكن بد من أن يلام أحد لأن عالماً مصرياً قد وفق إلى هذا الفوز المبين، أهدي إلى اللغة العربية كتاباً لم يسبق إلى مثله، فليُلَم هذا العالم المصري نفسه، وليعاقب (أحمد أمين) لأنه ظفر بهذا الفوز.

لقد اختار (أحمد أمين) لكتابه عنوانه هذا (ضحى الإسلام) وهو لا يقدر إلا أن الضحى يأتي بعد الفجر، وأنه وقد أظهر (فجر الإسلام) يجب أن ينغمس في ضحاه. أما أنا، فكنت أفهم معه هذا الفهم، وأذهب معه هذا المذهب، ولكني لم أكد أبدأ معه قراءة الكتاب حتى أخذت أحس شيئاًلم أرد أن أتحدث به إليه، مخافة أن يكذب ظني مضينا في قراءة الكتاب، ولكننا مضينا، ومضينا حتى أتممنا هذا الجزءالذي نقدمه إلى القراء. فإذا هذا الشيء الذي كنت أحسه يزداد وضوحاً وجمالاً وقوة. وإذا ظني يصدق شيئاً فشيئاً حتى يصبح يقيناً وإذا أنا مؤمن إيماناً لا يشوبه الشك بأن هذا الكتاب الذي أنا سعيد بتقديمه إلى القراء يلقي على تاريخ الإسلام في العصر العباسي الأول نوراً رائعاً وضاء قوياً هو أشبه شيء بنور الضحى.

فالكتاب (ضحى الإسلام) لأنه يدرس تاريخ الحياة العقلية للمسلمين في القرن الثاني للهجرة، وهو (ضحى الإسلام) لأنه قد جلى هذه الحياة وأظهرها للناس كأوضح ما يمكن أن تكون، وكأجمل وأبهى ما يمكن أن تكون، ولست أدري أيهما أهنئ بهذا الفوز (أحمد أمين) لأنه قد جدوألح ومضى في الجد وإلحاح، حتى انتهى إلى هذا التوفيق، أم الجامعة المصرية لأنها قد اهتدت إلى (أحمد أمين) ووكلت إليه ما وكلت من أنواع الدرس وفنون البحث، ولعل الخير كل الخير في أن أصرف هذه التهنئة عن (أحمد أمين) وعن الجامعة إلى الذين يقرءون اللغة العربية، ويعنيهم أن يؤرخوا آدابها، ويستكشفوا ما اشتملت عليه من الكنوز التي كانت مجهولة إلى الآن، هؤلاء أحق بالتهنئة لأنهم سيسيرون منذ اليوم إلى أغراضهم في طريق واضحة سهلة معبدة، يغمرها نور الضحى.

لن تكون حياة المسلمين منذ اليوم، كما كانت من قبل، غامضة مضطربة، يتحدث عنها مؤرخو الآداب بالتقريب لا بالتحقيق، ويقولون فيها بالظن لا باليقين. ذلك عصر قد انقضى، وألقى بينه وبين الذين سيؤرخون الآداب ستار صفيق. ألقاه (أحمد أمين) وأصبح الذين يقصدون إلى تاريخ الأدب قادرين منذ اليوم على أن يحققوا ويستيقنوا، ويسيروا فيبحثهم على بصيرة وهدى.

ما أكثر ما كنا نضيق صدراً بهذه الرموز الغامضة التي كان يلجأ إليها مؤرخو الآداب حين كانوا يذكرون تطور الحياة الإسلامية (أيام بني العباس) بفضل الاختلاط بين العرب وغيرهم من الأمم. وبفضل اتصال العقل العربي بالعقول الأجنبية، وبفضل الترجمة والمترجمين؛ والتأليف والمؤلفين. كانت هذه الألفاظ كلها رمزاً إلى الآن تدل على أشياء كثيرة، ولكنها لا تدل على شيء. تُصَوِّرُ أمام الباحثين صوراً مختلطة مضطربة لا تحصى ولا تستقر، فهي ذاهبة أبداً، جائية أبداً، غامضة أبداً. نسعى إليها، ولا نظفر بها. أو يصرفنا عنها الكسل العقلي؛ الذي هو آفة حياتنا الأدبية في هذا العصر.

أما الآن فقد ضبطت هذه الصورة أحسن ضبط وجليت أحسن تجلية، وأصبحنا إذا ذكرنا تطور الأمة العربية أو الأمم الإسلامية في القرن الثاني للهجرة نعرف بل نحس حقيقة هذا التطور ومصدره، والآماد التي انتهى إليها، وأصبحنا إذا ذكرنا الحياة الاجتماعية للمسلمين في هذا العصر لا نقول كلاماً مبهماً، وإنما نقول كلاماً يدلعلى ما يراد به أحسن دلالة وأجلاها؛ يدل على طبيعة هذه الحياة وما تقوم عليه من اتصال بين الأفراد والجماعات، على اختلاف الأجناس والبيئات والأمزجة، يدل على طبيعة الزواج الذي كان يكون بين هؤلاء الناس فيخلط دماءهم خلطاً، أو قل يمزجها مزجاً، يدل على طبيعة الرق الذي محا الشخصيات الفردية والاجتماعية لكثير من الأفراد والأمم، وصهرها كلها في مرجل واحد هو الدولة الإسلامية، فكون منها شخصية جديدة كل الجدة، طريفة كل الطرافة، هي شخصية الأمة الإسلامية.

نعم ويدل على هذه الطبقات التي كان يتألف منها الجسم الاجتماعي، للأمة الإسلامية، والتي كانت تتقسم فيما بينها الأعمال الكثيرة المختلفة، التي يحتاج إليها هذا الجسم لا ليحيا فحسب، بل ليرفه هذه الحياة ويرقيها، ويأخذ فيها بأعظم حظ ممكن من الترف المادي والعقلي والشعوري جميعاً.

وإذا ذكرنا الثقافة اليونانية، فلن نفهم منها منذ اليوم هذا المعنى المبهم الذي نرمز إليه بالفلسفة أحياناً، ولكنا سنعرف بالضبط مقدار ما أخذ العرب عن اليونان، وكيف أخذوه، ومن أين أخذوه، وكيف أساغوه أولاً، ثم تمثلوه بعد ذلك؟. وقل مثل هذا في الثقافة الهندية والفارسية، أستغفرالله بل خيراً من هذا، قل أكثر جداً من هذا فما أعلم أن باحثاً عن تاريخ الأدب العربي وفق إلى تحقيق الصلة بين العرب والهند، أو بين العرب والفرس إلى مثل ما وفق إليه (أحمد أمين) وهو (بعد هذا كله) أول من بسط هذا في اللغة العربية بسطاً يطمئن إليه الباحث الذي يسلك إلى بحثه طريق الجد والصدق، لا طريق العبث والتضليل.

وإذا ذكرنا الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، فلن نفهم منهما منذ اليوم ما كنا نفهمه من قبل، من أن اتصال المسلمين باليهود والنصارى قد أحدث بين أولئك وهؤلاء ضروباً من التأثير العقلي العام.

ولكننا سنعرف طبيعة هذا التأثير ومقداره ومصدره، ثم سنضع أيدينا على مظاهر هذه الحياة الجديدة، فيما أنتج المسلمون من أدب وعلم وفن.

أستطيع أن أقول إن (أحمد أمين) حينما انتدب لتأليف هذا الكتاب قد أتخذ لأمة المحارب، ووضع أمام عينيه غرضاً أقسم ليبلغنه، أو ليعدلن عن إظهار الكتاب. وهذا الغرض: هو تخليص الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني من الغموض والإبهام، وما زال بهذا الغموض والإبهام حتى أجلاهما عن موقفهما، وانتزع منهما حياة المسلمين العقلية إلى منتصف القرن الثالث للهجرة. وكان يزورني كل أسبوع ومعه طائفة جميلة رائعة من الغنائم التي كان يكسبها في هذه الحرب الشاقة المتصلة، فأقاسمه سعادته بالظفر، واغتباطه بالفوز.

ولست أحب أن تقدر أني أعمد في هذا الكلام إلى ضروب المجاز وألوان التمثيل لأزين القول وأنمقه، ولكني أحب أن تستيقن أني إنما أقول الحقخالصاً من كل زينة، بريئاً من كل تنميق. فقد كان تأليف هذا الكتاب حرباً عنيفة طويلة مملة بين المؤلف وبين الغموض والإبهام. وكان المؤلف كلما تقدم خطوة وقف ينظم انتصاره، ويصوغ ثمراته هذه الصيغة الجميلة التي ستراها في فصول هذا الكتاب ويتأهب في الوقت نفسه لهجمة أخرى يكسب بها موقعة أخرى، وينتصر بها انتصارا جديداً.

ومع أن المؤلف قد أنفق جهداً قوياً في أن يجنبك مشاركته فيما كان يحتمل من عناء، ويلقى من مشقة، ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة، ومطاولة المسائل المعضلة التي كانت تعرض له. فأنت واجد أثر هذا كله في فصول الكتاب، حين ترى المؤلف يسير في أناة تشبه البطء، ويعرض عليك جزئيات ضئيلة، تشبه أن تكون إغراقاً في التفصيل، وتقليداً للجاحظ في حب الأستطراد، ولكن إثْبُتْ لهذا البطء، واصبر لهذا التفصيل، وامض مع الكاتب في رفق وأناة فسترى أن نتيجة هذا الثبات والصبر والرفق أقوم جداً مما كنت تظن، وأنفس جداً مما كنت تنتظر، وأن الكاتب لم يتورط فيها تورطاً، وإنما قصد إليها قصداً، وتعمدها تعمداً. لأنه لم يكن يستطيع أن يعدل عنها حتى يضحي بالأمانة العلمية، والتحقيق الذي يفرضه البحث الحديث فرضاً على العلماء. ولا تَخَفْ من هذا البطء، ولا تشفق من هذه المطاولة، فلن يعترضك ملل، ولن يفل من حدك سأم، ولن تضيق بالكتاب لحظة، فقد عرف الكاتب كيف يهون عليك طول الطريق إلى غايتك، وكيف يبث أمامك في هذه الطريق من الزهر ما يستهوي عينك، وكيف ينشر حولك في هذه الطريق من الأصداء الحلوة ما يخلب أذنك. وأنا زعيم بأنك ستحتاج إلى أن تعيد قراءة بعض الصحف وبعض الفصول، وسترى أن الكاتب على إبطائه وأناته مسرع مسرف في السرعة بعض الأحيان.

أشهد لقد وفق (أحمد أمين) في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية معاً: أستكشف الحياة العقلية الإسلامية استكشافا لم يُسْبَقْ إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شيء عن جفاء العلم وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته.

فلينعم القراء بفصول هذا الكتاب، ولينعم المؤلف بما ينعم به الظافر حين ينتهي إلى فوز لا تشوبه شائبة. ولتكن هذه الحياة الجادة الخصبة المنتجة (في تواضع ولين جانب) التي يحياها (أحمد أمين) درساً نافعاً، ومثلاً صالحاً للذين يريدون أن يحيوا في مصر حياة العلماء.

طه حسين