مجلة الرسالة/العدد 3/رحلة إلى دير طورسينا

مجلة الرسالة/العدد 3/رحلة إلى دير طورسينا

مجلة الرسالة - العدد 3 المؤلف الدمرداش محمد
رحلة إلى دير طورسينا
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1933



للأستاذ الدمرداش محمد. مدير الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف

1

كنا تسعة من الرفاقمن شعوب مختلفةجمعتنا المصادفات فأحسسنا رغبة مشتركة للقيام برحلة إلى قلب شبه جزيرة طور سيناء لزيارة ديرها الشهير (دير سانت كاترين) فاتفقنا على تنفيذ الرغبة رغم ما تنطوي عليه من مشقة ومتاعب جمة ولكنها كانت رغبة ثائرة دفعتنا إلى العمل بحماس شديد ساهم فيه الشباب منا والكهل والشيخ على حد سواء. وبعد أن استكملنا عدتنا من مرافق السفر والإقامة وتزودنا بكل ما يلزمنا من معلومات وخرائط. استأجرنا أربع سيارات من نوع معروف بالمتانة ومقاومة الصدمات والرجات العنيفة. ثم جعلنا إحداها لحمل المعدات والأخريات لركوب الجماعة.

تستغرق هذه الرحلة عادة أسبوعاً كاملاً ثلاثة أيام في الذهاب ويومين في الإقامة والتفرج على الدير ومثلهما في العودة، هذا إذا لم تصادفك عراقيل في الطريق ولكن كثيراً ما يضيع على المسافر يوم أو بعض يوم في إصلاح ما قد تصاب به سيارته من عطب أو في إنقاذها من ورطة، فقد تغوص عجلاتها في الرمل ولا يتيسر إخراجها منه إلا بجهد ومشقة، وتعتبر الكثبان الرملية من أكبر معطلات الانتقال السريع في الصحراء. وهي تعترض الطريق في كثير من الجهات، وكذلك جلاميد الصخر وهيمنتشرةفي كثير من الوديان ومجاري السهول، الا أنها أقل خطورة من الكثبان.

والمسافة بين القاهرة والدير نحو 425 كيلو متراً يقطعها المسافر عادة في ثلاثمراحل من القاهرةإلى السويس، والمرحلة الثانية إلى أبي زنيمة على خليج السويس، والمرحلة الثالثة من أبي زنيمة إلى الدير.

غادرنا القاهرةبعد ظهر يوم الخميس 23 أبريل 1931 بساعتين قاصدين السويس عن طريق الصحراء، فوصلناها

في الأصيل وبتنا فيها. وفي اليوم الثاني عند الفجر عبرنا قنال السويس إلى الضفة الشرقية عند نقطة الشط، وبعد أن فحصنا سياراتنا ورتبنا معداتنا انطلقنا نسير نحو الجنوب في طريق رملي منبسط (وعن يميننا خليج السويس وعن يسارنا تلال تتدرج في الارتفاع كلم بعدت عنا نحو الشرق) وبعد ساعة من الشط مررنا بعيون موسى وهي عبارة عن واحة صغيرة قريبة من الخليج خالية من السكان وبها عين ماء راكدة ونخيل وبعض أشجار أخرى.

وعند الظهر قطعنا وادي الغرندل. وهو واد عريض يسير من الشرق إلى الغرب، كثير الشجيرات، وافر الكلأيتوسطه مجرى من الماء العذب. وبعد وادي الغرندل تتغير طبيعة الطريق فيصير صخريا في كثير من أجزائه كثير التعاريج والالتواءات بين انخفاض وارتفاع، وتقوم في جهته الغربية سلسلة من جبال عالية تحجب البحر ونسيمه. وقبيل العصر برزت أمامنا جبال المنجنيز بلونها الأدكن وعلوها الشاهق. وبعد أن مررنا بوادي الطيب وهو كوادي الغرندل كثير الماء، أنعطف الطريق نحو الغرب وبعد أن اجتزنا مضيقاً بين جبلين، انحدرنا نحو البحر إلى سهل واسع مواز للخليج تقع أبو زنيمة في طرفه الجنوبي وعلى مرفأ صغير للسفن وهي عبارة عن قرية صغيرة بها منشئات شركة المنجنيز ومستودعاتها ومساكن الموظفين والعمال ومسجد ومدرسة أولية ونقطة بوليس ومكتب للبريد والتلغراف ودكان صغير (كانتين) قد يجد فيها المسافر بعض ما يلزمه كالأطعمة المحفوظة والبنزين والسجاير، وبالقرب من الدكان المذكورة مستودع للماء العذب الذي يؤتى به من السويس في البواخر والشركة تعطيه للمسافر من غير مقابل.

كان وصولنا إلى أبي زنيمة قبل الغروب بساعة فلم نشأ المبيت بها بل تابعنا السير والطريق بعدها لمسافة ليست قصيرة ضيق يسير فوق صخور عالية تشرف على البحر من جهة وتحف بها الجبال من الجهة الأخرى، وعند الغروب وصلنا إلى نقطة بوليس لخفر السواحل واقعة على البحر تبعد عن السويس نحو 154 كيلومتراً فبتنا بالقرب منها. وفي صباح اليوم الثالث تابعنا السير جنوباً في الطريق المؤدي إلى الطور مبتعدين عن الطريق الشرقي للدير لكثرة رماله الناعمة وهو الذي تسلكهعادة سيارات مصلحة الحدود. وعند الظهر وصلنا إلى نقطة تفرع منها طريقيتجه شرقاً وهو طريق وادي فيران الموصل إلى الدير فتبعناه وبعد ساعة (وكان تقدمنا بطيئاً جداً لليونة الأرض وكثرة الجلاميد بها) دخلنا وادي فيران العظيم، وهو من أجمل الوديان التي شاهدتها. طوله نحو 120كم، كثير التعاريج وجباله جرانيتية شاهقة ذات ألوان متعددة بين أبيض وأسود وأحمر، وجوانبها تكاد تكون رأسية وقممها مخروطيةتناطح السحاب والوادي كثير العشب والخيرات. وتقع واحة فيران في منتصفه طولها نحو أربعة كيلومترات، يرويها نبع من الماء الزلال يتفجر من جوانب الصخر، ويسيل في مجاري تتخلل بساتين الواحة وترويها، والواحة عامرة بالناس والحيوان والمزروعات والحشائش، ففيها من الحيوانات الجمل والغنم والماعز، ومن المزروعات القمح والشعير والبقول، ومن الأشجار النخيل والليمون المالح والتفاح والنبق والتين والزيتون والسرو والعنب والصبير وغير ذلك من الأشجار البرية التي لا أعرف لها أسماء.

كان وصولنا إلى الواحة قرب الغروب بساعة فنزلنا ضيوفاً على الحديقة التابعة للدير وبتنا تلك الليلة بها، وقد رحب بنا الراهب المشرف على الحديقة وزاد في إكرامنا فهيأ لنا عشاء شهياً مركباً من شاة مشوية وبعض البقول المطبوخة والفواكه المحفوظة.

وبعد العشاء جلست إلى الراهب أستمع لما يقول وهو من أصل يوناني يتكلم العربية برطانة ولكنها مقبولة مفهومة قال: جئت هذه الواحة موفداً من قبل المطرانية منذ ستة عشر عاماً وكنت قد جاوزت الستين فوجدت فيها ما كنت أنشده من العزلة وطيب الإقامة ولا يزيدني مرور الأيام إلا التصاقاً بها ومحبة فيها وقد عشت مع هؤلاء البدو الطيبين عيشة عائلية لم تشب عشرتنا طول هذه المدة أي شائبة، وكل ما أتمناه أن تكون حجرتي الصغيرة هذه (مشيراً إلى حجرة تتوسط الحديقة) وهي التي آوتني طول هذه السنين في قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، أتمنى أن يكون فيها لحدي كذلك. ثم سكت وأطرق برأسه، وبعد أن تثاءب طويلاً أخذ يرتل نشيداً دينياً بصوت خافت ونغمة عذبة شجية طربت لها واهاجت عواطفي حتى كدت أبكي ثم اتجه إلى ناحية في الحديقة ودعانا نرقب الهلال من ربى سربالة فكان مشهداً لم أر أجمل منه.

ومظهر الحديقة وحسن تنسيقها يدلان على ما يبذله هذا الشيخ من عناية ومجهود، ويقوم على خدمتها جماعة من البدو بإرشاده وله عندهم مكانة واحترام، وهو يعيش بينهم آمناً مطمئناً ويعيشون في كنفه مسالمين قانعين، وهو المتصرف في شئون النبع فلا يسمح لبساتين الأهالي من مائه الا بما يزيد عن حاجة حديقته. ويشرف على الواحة جبال سربالة بجدرانها القائمة وقممها الضاربة نحو السماء برؤوس مخروطية كالسهام. وقد شاهدنا بين الربى مبان قديمة قيل لنا أنها منازل رومانية أثرية ومن بينها صوامع للرهبان.

وفي صباح اليوم الرابع تابعنا السير بين مناظر طبيعية رائعة خلابة وكان تقدمنا بطيئاً كاليوم السابق لتصعيد الطريق وقبل الظهر مررنا بقبة على ربوة بجانب الوادي قيل لنا أنها مقام نبي الله صالح عليه السلام وبعدها تغيرت معالم الوادي واتجهنا نحو الجنوب ثم مال بنا الطريق نحو الشرق وارتقى بنا في واد شديد الانحدار، وهناك في أحضان جبال ثلاثة وعلى ارتفاع ألف متر من سطح البحر أو يزيد، ظهرت لنا حديقة الدير بأشجارها الباسقة ومن خلفها الدير نفسه رابضاً عند سفح جبل موسى كالحصن ثابت الأركان عالي الجدران تعلوه المنازل والأبراج.