مجلة الرسالة/العدد 30/أطلنطس القارة المفقودة!

مجلة الرسالة/العدد 30/أطلنطس القارة المفقودة!

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1934



للدكتور محمد عوض محمد

في زعم طائفة من الكتاب أن المحيط الأطلسي الشمالي لم يكن في جميع العصور بحراً خالصاً، بل كانت تحتله قارة عظيمة تصل ما بين العالم القديم والعالم الجديد. وهذا الزعم هو ما نريد أن نعرض له في هذا المقال.

من أهم ما يمتاز به المحيط الأطلسي - في وقتنا هذا - أنه قليل الجزر. فإذا صرفنا عن الجزائر الملاصقة للسواحل، مما يعده الجغرافيون جزءاً متمماً للقارات، فان هذا المحيط عبارة عن مساحة هائلة من الماء، ليس فيها من الجزر سوى الشيء القليل جداً.

هذه حالة المحيط اليوم، لكن هذه لم تكن حالة المحيط في كل عصر وزمن. فان تعاقب الماء واليابس على الجزء الواحد من سطح الأرض، من الحقائق الجيولوجية المسلم بها. وليس هنالك خلاف في أن أمريكا الشمالية كانت متصلة بأوربا، وأمريكا الجنوبية بأفريقية في زمن جيولوجي قديم.

غير أن القائلين بوجود جزيرة عظيمة أو عد جزر كبيرة في وسط المحيط الأطلسي ما بين ما هو اليوم أمريكا، وبين ما هو اليوم أوربا وأفريقية، أطلقوا عليها اسم قارة اطلنطس - هؤلاء الكتاب يزعمون أن هذه القارة لم تكن موجودة في زمن جيولوجي قديم، يرجع إلى ملايين السنين، بل إلى عهد حديث جداُ، عهد نشأة الإنسان واستعماره لسطح الأرض. ولقد يسرف بعضهم فيزعم أن هذه (القارة) كانت موجودة قبل العصر التاريخي، بحيث كان المصريون القدماء يعلمون من أمرها الشيء الكثير.

من المهم إذن أن نقرر أن الاتصال بين شرق المحيط وغربه في زمن جيولوجي قديم، ليس موضع البحث، وليس هو بالأمر الذي يعنى به هؤلاء الكتاب، بل الذي يعنيهم وجود اليابس في هذه المساحة العظيمة التي لا نرى فيها اليوم سوى الماء، وذلك في عصر حديث شهده الإنسان في أول نشأته.

والآن نتساءل: هل هناك من شاهد على صحة ما ذهب إليه أولئك الكتاب؟

قبل أن نعرض لآراء أصحاب هذا المذهب يحسن بنا أن نكون على حذر من أمرين: أولهما أن وجود هذه القارة أمر يرتاح إليه الخيال البشري المولع دائماً بالغريب المدهش من المسائل العلمية: وكثير من الكتاب في هذا الموضوع يبدأون بحثهم وفي نفوسهم رغبة في أن يثبتوا وجود هذه القارة المزعومة. كالقاضي الذي يبدأ تحقيق الحادث وفي قلبه رغبة في أن تثبت التهمة على المتهمين. وهذه الرغبة قد تصبغ الأدلة الضعيفة بصبغة قوية. وتحمل الباحث على التغاضي عن مواطن الضعف فيما يعرض له من الحجج.

الأمر الثاني الذي يجب أن نحذره، هو أن وجود مثل هذه القارة أمر مرغوب فيه جداً من الوجهة العلمية. . . لأنها تصبح مرجعا نرجع إليه في كثير من المسائل التي صعب علينا فهمها أو تعليلها. فإذا رأينا - مثلاً - في أوربا أو في أفريقية شعباً أو جماعة لا نعرف لها مصدراً، أمكننا أن نقول بكل بساطة إنها بقية من سكان القارة المفقودة - فالرغبة في التخلص من بعض المسائل العويصة قد تجعلنا في اشتياق لأن نسلم بوجود هذه القارة المزعومة وأن نقبل من أجل هذا كثيراً من الاقتراحات الواهية الضعيفة.

إن أول من ذكر قارة أطلنطس فيما بين أيدينا من الكتب هو أفلاطون. فقد حكى في كتابه (طيماوس) رواية عن أحد أجداده أن صولون حكيم اليونان الأشهر لما قدم إلى مصر، وتحدث إلى كاهن من كهنتها، أخبره هذا الكاهن أنه كان في المحيط الأطلسي إلى غرب عمودي الهرقل (بوغاز جبل طارق) جزيرة عظيمة تزيد في الحجم على ليبية (أفريقية) وآسيا الصغرى معاً. وأنها كانت عامرة يسكنها شعب قوي ذو بأس وصولة، استطاع أن يبسط سلطانه على جميع قارة أطلنطس وعلى ما جاورها من الأقطار في أفريقية وأوربا. وأن سلطان هؤلاء (الأطلنطيين) قد امتد حتى بلغ إلى مصر وبلاد اليونان. غير أن اليونان استطاعوا أن يردهم على أعقابهم.

وهذه القارة العظيمة كانت عرضة للزلازل العنيفة والبراكين الثائرة، فلم تلبث أن أخذتها الرجفة فهبطت تحت سطح الماء واختفت. وذلك قبل عهد صولون بنحو تسعة آلاف من السنين!

هذه هي القصة التي ذكرها أفلاطون نقلاً عن أحد أجداده. وليس هنالك ما يثبت أن هذه القصة قد رواها صولون حقيقة، وأنها ليست من اختراع أفلاطون نفسه. وعلى كل حال، وأياً كان مصدر هذه القصة، فان مجرد روايتها على هذه الصورة، لا يفيد الباحث عن أمر هذه القارة شيئاً.

إن اختفاء جزيرة صغيرة تحت سطح الماء بسبب هبوط في قشرة الأرض ليس بالشيء المستغرب، وقد يكون اليونان أنفسهم قد شهدوا مثل هذا الحادث في بلادهم الكثيرة الزلازل، وهذا وحده كاف لأن يوحي إليهم بأن جزيرة قد وجدت ثم اختفت في وسط المحيط، ولهذا فان أكثر الباحثين لم يكن يرى في حديث هذه القارة أكثر من أنه أسطورة جميلة. غير أن كثيراً مما كان يراه العلماء مجرد أساطير قد أثبت البحث العلمي وجوده. وقد أخذ الباحثون يهتمون حديثاً بتحقيق أمر هذه القارة.

إن هبوط جزء عظيم من سطح الأرض واختفاءه تحت سطح الماء ليس بدعاً في الحوادث الجيولوجية الطويلة المدى، التي تستغرق عشرات الملايين من السنين. وكذلك ليس بعجيب أن تختفي جزيرة صغيرة تحت الماء في زمن وجيز بسبب حادث بركاني خطير. لكن الأمر الذي يصعب تصوره هو أن كتلة هائلة من اليابس تهبط نحو ثلاثة آلاف متر في زمن يعد وجيزاً جداً بالنسبة إلى ما يستدعيه مثل هذا الانقلاب الخطير في سطح الأرض. وبالطبع ليس إثبات هذا الأمر بالشيء السهل، لأن أكثر الأدلة مقبور تحت غمار البحار، في أعماق يصعب جداً الوصول إليها.

ولننظر الآن في الأدلة التي يدلي بها القائلون بصحة هذه الأسطورة.

لعل أول جهة يجب أن يتجه إليها البحث أن نتساءل: هل في قاع المحيط الأطلسي أو في جزء من قاعه ما يدل على أن هذا القاع أو هذا الجزء من القاع كان أرضاً ظاهرة فوق سطح الماء في زمن حديث يقدر بنحو عشرة آلاف من السنين؟ وهل في السواحل الشرقية والغربية للمحيط ما يدل على أنها كانت إلى وقت قريب متصلة؟

يجب أن نجيب أو أن نحاول الإجابة على هذين السؤالين. ولكن يجب علينا أن نحذر فلا نخلط بين الاتصال الجيولوجي القديم، وبين الاتصال الحديث بواسطة قارة أطلنطس المزعومة.

من المعلوم أن قاع المحيطات ليس أرضاً مستوية. بل فيه المرتفعات والمنخفضات والسهول والجبال. وقد أصبح ثابتاً ان في وسط المحيط الأطلسي جبال طويلة جداً تمتد من شماله إلى جنوبه، وفي بعض الأحيان تظهر طائفة من قمم هذه السلسلة فوق سطح الماء فتتألف منها جزر مثل جزر الأزور. في الشمال وجزيرة الصعود في الوسط. وجزيرة (ترستان داكنها) في الجنوب. وفي زعم القائلين بوجود القارة المفقودة أن جزر الأزور هي البقية الباقة منها. وأن الجزء الأوسط من المحيط الأطلسي قليل العمق لأنه هبط حديثاً.

كذلك يشير أصحاب هذا الرأي إلى التشابه العظيم بين السواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي، مما يدل على اتصال الساحلين في زمن قديم. وليس من شك في هذا التشابه، لكنه يرجع إلى اتصال في الأزمنة الجيولوجية القديمة. ولا فائدة لأنصار هذا الرأي من الرجوع إلى هذا الدليل الذي لا يفيدهم في قضيتهم شيئاً.

أما الأبحاث الخاصة بقاع المحيط الأطلسي، والتي أريد بها إثبات أن هذا القاع كان إلى وقت قريب بارزاً فوق سطح الماء، فهي على قصورها أقوى البراهين - أو على كل حال أقلها ضعفا - التي يدلي بها القائلون بوجود هذه القارة العظيمة.

وخلاصة هذا الدليل أنه في عام 1898 كانت إحدى السفن تبحث عن سلك تلغرافي قد انقطع في وسط المحيط الأطلسي، وفي أثناء بحثها عن هذا السلك كانت تستخرج من قاع البحر قطعاً من الطين والصخر، وقد فحصت هذه المواد فتبين أنها مما تقذفه البراكين الثائرة، وأن هذه الصخور البركانية كانت مادة منصهرة ذائبة ثم تجمدت وكان تجمدها فوق سطح الأرض لا تحت سطح الماء كما هي حالها اليوم. وذلك لأن حمم البراكين (اللافا) إذا تجمدت في الهواء كان لها شكل خلاف شكلها إذا تجمدت في الماء.

والنتيجة التي يراد الوصول إليها من هذا، هي بالطبع أن هذه البراكين هي براكين قارة أطلنطس وأن هذه اللافا قد تجمدت على سطح القارة المفقودة قبل أن تختفي تحت عباب الماء. لكن لابد لنا للوصول إلى هذه النتيجة الخطيرة من أن نثبت أن هذا الجزء من قاع المحيط الأطلسي الذي استخرجت منه هذه المواد قد كان في وقت حديث - أي منذ نحو اثني عشر ألف سنة. بارزاً فوق سطح الأرض.

ولاثبات هذا الأمر يقول بعض الحتاب أنه في نظر كثير من الجيولوجيين لا يمكن اللافا أن تبقى تحت سطح الماء اكثر من 15000 سنة، لأنها في هذه المدة تتحلل عناصرها تماماً فلا يبقى لها أثر. إذن فاللافا التي استخرجت من قاع المحيط والتي ثبت أنها قد تجمدت فوق سطح الأرض. لابد أن تكون قد غمرتها المياه حديثا ً - أي أن هبوط القاع حدث في وقت حديث لا يتجاوز الخمسة عشر ألف سنة! هذه من غير شك أقوى حجة طبيعية يستند إليها القائلون بوجود قارة أطلنطس، ولكنها للأسف لا تخلو من شيء من الضعف. ذلك أنه - على فرض أن ماء البحر يحلل اللافا ويذيب عناصرها في مدة لا تتجاوز الخمسة عسر ألف عام - يجب أن نذكر أن اللافا عادة تتراكم طبقات بعضها فوق بعض، ذات غلظ عظيم. وقد يتحلل الجزء الأعلى ويبقى الجزء الأسفل والذي يليه وهكذا. ولابد لها من مئات أو آلاف الأزمنة التي ذكرت قبلاً - لكي يتم تحللها جميعاً.

فهذه الحجة اذن - وإن لم تخل من قوة - فإنها لا تثبت إثباتاً قاطعاً سوى أن قاع المحيط الأطلسي في بعض جهاته كان يوماً ما قطعة بارزة من اليابس ثم هبط تحت سطح الماء. ولازلنا في حاجة إلى دليل أقوى من هذا يثبت لنا أن هذا الهبوط كان منذ زمن حديث مقدر بعشرة آلاف من السنين.

كذلك التشابه الذي يشاهد اليوم بين أنواع من الحيوان في شرق المحيط وغربه، دليل على وجود قارة أطلنطس، بل على اتصال قديم جداً في أزمنة جيولوجية غابرة، بين طرفي المحيط شرقاً وغرباً.

فالأدلة الطبيعية قليلة الغناء، ولا يبقى بعدها سوى الأدلة البشرية أو الأنثروبولوجية، أي التي تتصل بالإنسان جنساً أو لغة أو ديناً وتقاليد أو ما شابه ذلك.

وتتلخص هذه الأدلة البشرية فيما يأتي:

1 - أنه قد ظهر في أوربا أثناء العصر الحجري القديم جنس

من الناس طوال القامة عظام الهامة حسان الصورة في وقت

لم يكن فيه بأوربا سوى جماعات من جنس ذي صفات منحطة

دنيئة. وقد أطلق العلماء على هذا الجنس العظيم اسم جنس

(كرومانيون) - (نسبة إلى ناحية في فرنسا وجدت بها

هياكل عظيمة كاملة لأفراد من هذا الجنس). ولا يعرف أحد

على وجه التحقيق من أين جاء هذا الجنس، الذي ظهر في أوربا فجأة فاحدث في ثقافتها ثورة هائلة.

والآن يريد أصحاب قارة أطلنطس أن يخبرونا أن هذا الجنس إنما جاء من قارتهم المفقودة!

افتراض جميل سيخلصنا من مشكلة عويصة وهي نشأة هذا الجنس الذي لا نعرف تماماً أين نشأ! ولكن هل من العقل أن نتخلص من مشكلة لكي نقع في مشكلة أعظم منها؟

إن القائلين بأن هذا الجنس مصدره القارة المفقودة يزعمون أن هنالك شبهاً بينه وبين جنس قديم منقرض وجدت بقاياه قي البرازيل. وهذا الزعم لو صح لكان من غير شك حجة قوية لا تدحض. ولكن أكثر علماء الأجناس لا يرى مطلقاً وجه شبه بين هذا الجنس البرازيلي القديم الذي وجدت بقاياه في لاجواسانتا وبين جنس (كرومانيون).

2 - في أوربا شعب اسمه شعب الباسك يعيش على حدود

فرنسا وإسبانيا. في الإقليم الملاصق لخليج غسقونية. هذا

الشعب القديم يعيش شطره في فرنسا وشطره في إسبانيا ويتكلم

لغة ليس لها نظير في لغات العالم كلها. وفي زعم أصحاب

نظرية القارة المفقودة أن الباسك هم بقية الأطلانطيين الذين

هاجروا من قارتهم إلى أوربا قبل الميلاد بعشرة آلاف سنة.

وأن لغتهم تشبه لغات سكان أمريكا الأصليين بينما هي تختلف

عن سائر لغات أوربا.

وهذه الحجة البراقة لا تستند هي أيضاً على أساس متين، لأن لغة الباسك لا تزال عقدة العقد. وقد رأى فقهاء اللغات فيها آراء متناقضة متضاربة، ولم يبلغ العلم في أمرها إلى حل مقبول. وليس القول بأنها تشبه لغات أمريكا بأقوى من الرأي الذي يرى شبهاً بينها وبين لغات البربر في أفريقية ولغة المصريين القدماء.

3 - أما الأدلة البشرية الأخر التي يوردها أنصار قارة أطلنطس، فتنحصر في وجود تشابه حقيقي أو موهوم بين

بعض العقائد الدينية والعادات والتقاليد والآلهة في العالمين

القديم والجديد، ومجرد ذكر هذه الأمور كاف لأن يثبت للقارئ

أن هذه الأدلة ليست بالشيء الذي يسهل الركون اليه، ولا

نستطيع أن نستند إليها في القول بأن تلك الأشياء المشتركة

مصدرها واحد وهو هذه القارة المفقودة، التي انطلق منها

فريق إلى الشرق وآخر إلى الغرب فنشروا آراءهم وعقائدهم

وآ لهتهم في عالمين بينهما الآن آلاف من الأميال.

وهكذا يرى القارئ أن فكرة قارة أطلنطس لا تزال مفتقرة إلى دليل أقوى بما بأيدينا اليوم، ولكنا على كل حال يجب أن نرتاح إلى أن موضوعها أصبح اليوم معرضاً للبحث العلمي بالأساليب العلمية بعد أن كان مجالاً للظن والخيال. ولهذا يسرنا، أن نسمع الخبر الذي رواه أحد الكتاب في عدد الشهر الحالي من مجلة فورتنبتلي من أن بعثة ألمانية قد سافرت حديثاً إلى إقليم جزر الأزور لتفتش في قاع البحر عن أدلة جديدة عن هذه القارة المفقودة.

محمد عوض محمد