مجلة الرسالة/العدد 30/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 30/العلوم



العنصرية

للدكتور أحمد زكي

قامت النازية الألمانية على مبادئ عدة، منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الإداري، ولكن لعل أخطر من هؤلاء جميعاً وأكثر وروداً على ألسنة خطبائها، وأسرع إذكاءً لحمية مستمعيهم، ذلك المبدأ الغالي الذي يعتمد على القومية الخالصة والدم الصريح، في استنهاض الشعب الجرماني إلى كل ما تقول به النازية وتدعو إليه من العقائد والأعمال.

لو أن النازية قصدت إلى تمجيد قومها، وغالت في ذلك ما شاءت وشاءت لها الدعاية، لما شكا أحد مما تقول، ولو أنها غالت حتى ألهتهم، لنظرت إليها الأمم بابتسامة عريضة يستتر وراءها اغتباط هادئ من تذوق فكاهة هائلة، في عالم يحسن أن تكثر فيه الملح والنكات. أما وقد أرادت أن تمجد قومها بتجريد غيرها من الأقوام، وأن تزيد في أولئك بانتقاص هؤلاء، فقد أثارت حفائظ الأمم، وأيقظت عزة الأجناس البشرية، فاستقاموا في جلستهم يستمعون لجد حسبوه مزاحاً، وتقطبت من جباههم أسارير للتفكير، بعد أن كانت قد انبسطت وجوههم بالبشر، وذلك لما رأوا المهزلة تستحيل إلى مأساة، ووجدوا النازية تطرح على كتفيها روب الأستاذ العالم الأنثروبولوجي، ينظر في أصول الأمم، ويقدر قيم الأصلاب، ويضع الخلق في منازل تعلوها جميعاً تلك النطف الجرمانية التي ادخرتها الآلهة على الأجيال، لتنحدر إلى الوجود في القرن العشرين فتكون للناس سادة أمثالاً، وتكون هدى وبشرى للعالمين. وكل ذلك باسم العلم.

لذلك تصدى للرد على هذه النظرية التي اتخذت صورة علمية رجال من رجالات العلم، ولعل أكثر هؤلاء اعتدالاً رجل متحدر هو نفسه من أصلاب جرمانية، ذلك هو (ملكولم بيسل) الأستاذ بجامعة كاليفورنيا. قال:

قل من يخالف في أن الجنس الجرماني جنس عظيم، وأما أنه أعظم جنس كان في كل زمان ومكان، وأن كل مدنية كانت وتكون، اعتمدت وستعتمد على هذا الجنس، فذلك ما لا تحتمله أكبر المخيلات إسرافاً، ولا تتسع له أكثر الحلوم رخاوة وسماحة. ومثل هذه المغالاة، لاسيما إذا استعير لها لسان العلم، ستظل دائماً نذيراً بأن الإنسان لا تزال عواطفه سيدة عقله، وهواه حاكم صوابه. يدخل الأمر نفوسنا ويستأذن في لطف على قلوبنا، فيجد كل أهوائنا توافقه، وكل ميولنا تناصره، فنألف هذا الأمر، ثم نعتقده، ثم من بعد ذلك نتطلب الحجج على أنه الحق. نعتقد صواب شيء، نعتقد أن الجرمانيين سادة الجناس لأننا نحن جرمانيون، أو أن النصرانية أقوم الأديان لأننا نحن نصرانيون، أو أن هذا الحزب أصدق الأحزاب لأننا له متحزبون، ثم من بعد هذا، ومن بعد هذا فقط، ننظر في الأدلة لنصرة معتقدنا، ونخرج في سهولة أو يسر تلك البراهين التي تعزز مذهبنا، وتلك الأدلة لا شك آتية، وتلك البراهين لا شك غير مستعصية وبذلك نحسب أن عملية التخريج تمت، وأن العلاقة بين السبب والمسبب استبانت، فيتأكد بذلك معتقدنا ويزيد به إيماننا، ونحن نتبع أسلوب هذا المنطق الطريف غير شاعرين ولا متيقظين اليه، ويتبعه العلماء كما يتبعه السوقة بمثل تلك الغفلة، فهو أسلوب متستر خفي، أخطر ما فيه تستره وخفاؤه.

ليس في دعاوى النازية اليوم من جديد، فهي تكملة للدعوى التي بدأت في القرن التاسع عشر، وهي مثل من أمثلة عدة لم يسلم منها قرن من القرون ولا شعب من الشعوب فالشعوب دائماً تميل للسيطرة على الشعوب بدعوى تفوق الجنس، وتستغلهم بحجة قوة الدماء وخلوصها، وتبعث فيهم حسا ًبحقارة أنفسهم لفقر وخلط في دمائهم، وخسة في أصولهم، فهي إذن دعاوى للعيش وأسباب للغلبة، أكثر منها دعاوى في العلم وقضايا في المنطق.

ليس مذهب الجرمانية إلا فرعاً من مذهب الآرية، وكان من أكبر دعاة هذا المذهب وشارحيه، الكونت (جوزف دي جوبينو كان فرنسياً أرستقراطياً مات عام 1882 ادعى جوبينو أن الآريين خلقوا ثم أمدوا بالروح والعمر كل ما هو جميل وعظيم في الحضارة. ونسي أن يثبت وجود هؤلاء الآريين كجنس واحد نقي خالص. ان فكرة الآرية نشأت من دراسة لغات بعض الأمم الأوروبية وبعض الأمم الآسيوية، والاهتداء إلى وجود أشباه بين تلك اللغات، أدى إلى افتراض أنها جميعاً مشتقة من لغة واحدة هي الآرية، وذلك فرض علمي لا شبهة فيه. استنتج جوبينو وأشياعه من وجود لغة آرية وجود شعب آري قديم عزا إليه حضارات الأزمان الخوالي، وزعم أن هذا الجنس الآري هاجر إلى شمال أوروبا فتحدرت منه الشعوب التيوتونية والانجلو سكسونية، فهي لذلك سبب الحضارات الحالية والعلة في استمرار وجودها. وفات جوبينو أن وجود لغة واحدة ليس بدليل قاطع على وجود جنس واحد، وأن اتحاد اللغات في أمتين أو أمم، ليس بحجة على اتحاد الأصلين أو الأصول فقديماً ما أعارت الأمم اللغات واستعارت، فوجود جنس آري كالذي تحسبه النازية اليوم، لم يقم عليه أي دليل.

والعنصر الجرماني نفسه مجهول الأصل، وفوق هذا فلا يستطيع أحد أن يدعي له أرومة خالصة. إنه عنصر شديد قوي، ولا شك أن اختلاط دمه بدماء أوروبا الوسطى والجنوبية كان له أثر كبير فيما حدث هناك من التقدم والارتقاء، ولكن ما يقال في العنصر الجرماني يقال في سائر العناصر، فكثيراً ما أدى اختلاط عنصرين إلى عنصر جديد أشد وأكثر حياة من أصليه.

على أن العلم إلى اليوم لا يستطيع بثقة أن ينسب إلى أية مجموعة بشرية، خصالاً خاصة عتيقة ثابتة فيها، لأنه إلى اليوم لا يدري كيف يقيس هذه الخصال برغم ما أسموه (مقاييس الذكاء)، فتلك مقاييس ثبت مراراً وتكراراً أنها لا تقيس الذكاء وحده وإنما تقيس معه آثاراً من البيئة والثقافة لا يمكن عزلها عنه. ومع هذا لا نفتأ نسمع الخرافة الجرمانية تلوكها الألسن، وتردد على الأسماع، فمجد الإغريق كان بسبب غزو الجرمان، وروما دام عزها وبقي سلطانها ببقاء دمها الجرماني خالصاً صريحاً، فلما اختلط حاق بها ما حاق، وإسبانيا لم تستيقظ إلى ما استيقظت إليه إلا بسب ما دخل عروقها من الدم التيوتوني، (والنهضة) الأوروبية نفسها لم تكن إلا ظاهرة جرمانية صرفة.

يقولون أن الرومان والإغريق كانوا وهم في أوج عزهم جرمانيين صرحاء. ليس من السهل الحكم على ما كانت تتألف منه أمم قديمة كالإغريق والرومان، ولكن من الثابت أنه في العصور التي سبقت، كانت حروب وكانت فتوح، وكانت غلبة وكان انغلاب، وكانت هجرة وكان تشتت، فلم يرتبط قوم بأرض، ولم ينعزل جنس بسبب ذلك عن جنس، فلم يكن في عصر الإغريق ولا في عصر الرومان دم لم يختلط، ولا عنصر لم يتلقح، فكل ما يقال عن خلاص السابينن والاترسكانيين وحتى عن نقاء الرومان والأغريق، لا يمكن تدعيمه على ما هو معروف اليوم في علم الأجناس. قالوا وشادوا بان الإسبرطيين جرمانيون خلصاء ومع ذلك أدخلهم (دكسن) في عداد الألبيين وقالوا وشادوا بأن الاترسكانيين جرمانيون خلصاء ومع ذلك قال عنهم هرتس مؤلف (الشعوب والمدنية) أنهم لم يكونوا من المجموعة الهندية الجرمانية، وأن هذا ثابت ثبوت يقين.

ان العنصر له أثر لا ينكر في أحداث المدنيات وتنشئ الشعوب ولكن هناك أمور أخرى لا تقل آثارها عن أثره، ولا نتائجها عن نتائجه، وهي تلك التي ينكرها لمتصلفون من دعاة العنصرية وغلاتها. ليس من العلم في شيء أن ننسب عظمة الإسبان مثلاً إلى دخول الدم الجرماني إليهم، وسقوطهم إلى دخول دماء أخرى غير جرمانية، ثم نغفل العوامل التاريخية والجغرافية الكبرى التي كان لها أثر كبير في تلك الرفعة وهذا الهبوط. وإذا عزونا كل مدنية إلى الدم الجرماني وكل تقدم إليه، فكيف نفسر تلك المدنية العربية التي ازدهرت يوماً ما في الأندلس وطالت ما حولها من المدنيات الأوروبية طولاً كبيراً.

إن إبطال الدعوى الجرمانية بل تسخيفها عمل يسير هين. ولكن العمل الشاق الذي يتعب الإفهام ويجهد العقول، إنما هو تسبيب نشوء المدنيات، وتسبيب انحطاطها أو زوالها. الناس تجنح دائماً كما يجنح الألمان اليوم إلى جعل العنصر العامل الوحيد في ذلك، الذي تتضاءل دونه العوامل، والسبب الذي لا تستأهل سائر الأسباب إلى جانبه ذكراً. خطأ كبير تغذيه العاطفة، وسهولة في تبسيط القضايا لا تسيغها العقول العلمية الهادئة. من بدء أزمان لا تقدر، إلى ما قبل قرون قلائل كان الجنس الجرماني يكن شمال القارة الأوربية، وكان جنساً غير مذكور ولا مأبوه له، وكان أحط الأمم الأوربية سكاناً، فأين كانت خواصه الإلهية، وصفاته السماوية كل تلك القرون؟ أكان عاجزاً عن خلق مدنية لنفسه؟ أم هي المدنية نشأت عند غيره وقريباُ منه، ومع ذلك خاب برغم قرب المساس عن اقتباسها واستعارتها؟ أم الحقيقة هي التي نقول، أن العنصر وحده غير كاف لخلق المدنيات واستنباط الحضارات.

بدأت الحضارات في مصر والعراق والهند وشرق البحر الأبيض، ومشى التاريخ قدماً فانتقلت مراكزها إلى أواسط هذا البحر ثم إلى غربه، ثم مشى التاريخ خطوات أخرى فبلغت الحضارة بحر الشمال والمحيط الأطلسي، وعندئذ، وعندئذ فقط، بدأ العنصر الجرماني يظهر في التاريخ، فان كان العنصر وحده قميناً بكل شيء فكيف ظل الجرمان ابرة كل الأحقاب بينما كانت العناصر الأخرى، وهي وطيئة في زعمهم، تخترع الحروف وتبتدع الأرقام وتخط البحار بالتجارة وتبني الدول وتقيم الحضارات.

إن الجزر البريطانية تألفت سكانها في القرن الثاني عشر من نفس العناصر التي تتألف منها في القرن العشرين، إلا في اليسير الحقير، وقد كانت في أوائل القرن السادس عشر جزراً لا شأن لها ولا خطر، ولم يمض على ذلك العهد غير قرنين حتى وجدناها قوة عظيمة في دول العالم، فكيف جاءها هذا الشأن وذلك الخطر، والعنصر هو هو لم يتغير؟ أليست العوامل التاريخية والجغرافية إذن أبعد أثراً من كل ما عداها؟ كانت الجزر البريطانية في طرف أوربا، والحضارة متركزة في شرق البحر الأبيض أو وسطه، فلم يكن لبريطانيا ذلك المساس الذي لا بد منه لاشتعال الثقاب، لذلك لم يكن لها في الحضارة قول كبير ولا عمل خطير، ثم استكشفت أمريكا، وبين عشية وضحاها انقذفت بريطانيا في وسط المسرح العالمي، فلم يكن لها بد من تمثيل دورها، وانتقل مركز المدنية إلى غرب أوربا حيث بقي ويبقى سنين طوالاً، حتى أصبحت لفظة الغرب علماً على المدنية، وأصبحت إنجلترا قائدة الأمم، وإن كان لعنصرها الجرماني أثر في هذا الانقلاب، فهو لا يقارب في شدته الأثر الذي للحوادث والتاريخ والجغرافيا معاً. ولنفس تلك الأسباب زالت عن إيطاليا تلك السيادة التي كانت لها يوم تربعها في وسط المسرح العالمي، في وسط البحر الأبيض المتوسط حينما كان هذا البحر عظيماً لوقوعه في الطريق إلى الشرق وأممه، ولكن كشف أمريكا قذف بإيطاليا حفيدة الرومان من بؤرة الرقعة إلى طرفها، وفي الوقت نفسه كشفوا عن طريق الهند الآخر، فلم يكن بد من نزول إيطاليا حفيدة الرومان عن قوتها وثروتها وجاهها نزولاً سريعاً كسرعة الحوادث في ذلك المكان الغربي النائي من سطح الأرض. فهل ننسب هذا النزول إلى العنصر وهو الذي إليه نسبنا الصعود في سالف الدهور؟

ثم المخترعات الحديثة وعلى رأسها البخار، أحدثت في العالم السياسي والاجتماعي والاقتصادي أحداثاً أين منها أثر العنصر؟ أن التاريخ في القرنين الفائتين كتب بالفحم الأسود والحضارات قيست بعدد الأحصنة البخارية التي للأمم، حضارات بنيت على الفحم والحديد، فالفحم والحديد عاملان جغرافيان أين منهما أثر العنصر؟ فلو لم يكن في صخور إنجلترا وأمريكا ذلك الذخر الكبير من الوقود الصلب والسائل لكان للتاريخ الأخير مجرى غير الذي كان برغم العنصرية ودعاتها.

إن الأمم كالأفراد يتألف نجاحها من عاملين، عامل الوراثة وعامل البيئة، ومن عوامل البيئة العوامل الجغرافية التي ذكرنا مثلاً منها، ولعوامل البيئة هذه أثر لا يناهض في تقدم الإنسان أو تأخره، وهي على الأقل تضع حداً جازماً لتقدمه لا يمكنه تجاوزه. والحضارات أنتجت إنسانية نادرة نشأت من الأرض في بقاع متفرقة، كانت كلها نتيجة انفعال الإنسان لبيئته وتفاعله معها وتغيير نفسه وحاله وفقاً لها، وعلى هذا لا يمكن مقارنة مدنية ولا مقدرة شعب بشعب الا إذا قارنا بيئتيهما وهذا جد عسير، ودون هذا لا تمكن إقامة الدعوى على أن قوماً غير أهل لمدنية لأنهم وهم في بيئة خاصة خابوا فيما حاولوه. إن الماياس واليوكاتان قبيلان من الناس كبيران كانت لهما مدنيتان زاهرتان في أمريكا الوسطى قبل الفتح الكولومبسي بقرون فلو أنك قرنتهما بالإغريق فربما خرجت بأنهما دون هؤلاء عنصراُ، لأنهما لم يأتيا بمثل ما أتى الإغريق. ولكن إذا علمت أن هذين القبيلين كانا يعملان في عسر من الطبيعة شاق، فقد حرمتهما الدواب وحرمتهما الحديد، فلم يعرفا لهذه رسماً ولا لهذا اسماً، وامتحنت بعد ذلك ما خلفا لوقعا من نفسك موقعاً قد يناهض موقع الإغريق أو يعلوه.

أحمد زكي