مجلة الرسالة/العدد 30/القصص

مجلة الرسالة/العدد 30/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1934



أمير النوبة

بقلم الأديب حسين شوقي

عاد أمير النوبة إلى (نباتا) بعد أن قضى سنوات طويلة في مصر، على زعم أنه يتلقى الدروس بجامعة (عين شمس) الدينية العظيمة، ولكن الواقع هو أنه قضاها في مغازلة وصيفات الإله (رع) الحسان، وما كاد الأمير يرجع إلى وطنه حتى شعر بحنين شديد إلى مصر، وطنه الثاني، فتذكر في حسرة شوارع منفيس الواسعة، وحوانيتها الفخمة، وبائعاتها الرشيقات، ومراقصها. . أما هنا في (نباتا) فكل شيء يضايقه: فقصر أبيه الملك لا يزيد شأناً على الأعشاش التي يقيمها بعض وجهاء المصريين - في المصايف - على شاطئ البحر، والنساء كلهن بدينات متزينات بالريش والودع، دميمات المنظر مثل (سحمت) الإله المصري الذي يلتهم المذنبين في العالم الثاني. . أما أصدقاؤه من النوبيين فكلهم خشن الطباع، يلتهمون الطعام بأيديهم في وحشة وقذارة. . إنه يؤثر عليهم العزلة ليخلو إلى خياله فيتذكر أصدقاءه المصريين المرحين في (عين شمس) الذين قضى معهم أياماً سعيدة في قصورهم الشامخة على ضفاف النيل. ما أبهج تلك الليالي التي قضاها معهم في احتساء (الجعة) اللذيذة المخصصة لقرابين الإله رع، والتي كانوا يحصلون عليها خفية!. أما النوبيون فكانوا لا يميلون اليه، بل كانوا يسخرون من عاداته التي اكتسبها من مصر، ويرمونه بالخنوثة. .

حقاً! إنآلام الأمير النفسية كانت شديدة، خصوصاً وهو لم ينس قط (تايا) الحسناء بنت معلمه الكاهن (منتو)، كم ود أن تصحبه هذه الفتاة إلى (نباتا)، ولكن ماذا يعمل أمام رفض والدها الكاهن وهو رجل يحافظ على التقاليد. لم يرض أن تتزوج ابنته من أجنبي دنس في نظر الدين. .

وبينما هو سابح في هذه الأحلام، يذكر هذه المناظر المصرية خلال الدخان المتصاعد من (غليونه)، إذا بأبيه الملك يدخل عليه فجأة فيقول:

ولدي! أتحب أن تعود إلى مصر؟

فأجاب الأمير وقد تهلل وجهه: ما أشد سروري بذلك يا أبت! هذه غاية مناي

الملك - ولكنك ستعود هذه المرة طالباً ملكهم لا علمهم!

فستقود الجند الذين سيزحفون على مصر في الغد، لأن الوقت مناسب لهذا الهجوم، أما أنا فصحتي لا تسمح لي بالسفر، أنظر إلى ساقي، إن ورمهما يزداد كل يوم. . هذا بلا شك أهر لسحر تلك الجارية التي طردتها في الأسبوع الماضي، آه من السحر! كان يجب أن أدق عنقها بدلاً من أن أطردها، ومع ذلك فأنت تعرف مصر جيداً، ولا بد أنك مغتبط بهذه المهمة. .

قال الأمير (في غضب) - كلا يا والدي! لا أريد أن أذهب إلى مصر جلاداً. .

فصاح الملك متعجباً ماذا تقول يا ولدي؟ من علمك هذه الترهات؟

إني آمرك بذلك. أفهمت؟

قال الأمير - إني آسف يا والدي إذ لا أستطيع أن أرافق جيشك في هذه الغزوة!

فصاح به الملك - (في غضب) - إني آمرك حقاً لقد أخطأت في إرسالك إلى مصر لتتعلم، إن القوم مهرة في علم السحر، فهم قد سحروك. .

الأمير - أجل! إنهم سحروني بحضارتهم!

الملك - (يضحك بصوت عال) - حضارتهم! أين هي؟

أتسمي حضارة هذا (الغليون) الذي يكتم أنفاسي بدخانه؟

الأمير - ولكن يا أبت ما الفائدة التي نجنيها من هذه الحرب؟ إن المصريين أقوياء وجيشهم مجهز بأحدث الأسلحة. .

الملك - ولكنهم منقسمون، يحارب بعضهم بعضاً، إنها فرصة ثمينة لغزوهم الآن. .

الأمير - ولكن ألا تخشى غضب آلهتهم العظام؟

الملك - (يضحك) - ليست آلهتهم إلا ضفادع المستنقعات وقطط الحيطان. . (ثم قال في جد) كفى الآن مزاحاً، إذهب! فارصد أهبتك للرحيل

الأمير - لن أذهب يا أبت!

الملك - (محتداً) - بل ستذهب أنها الولد العاق!

غادر الملك الحجرة فشعر الأمير بعد أن هدأت ثورته بحزن عميق، لأنه لا يستطيع بحال أن يحارب المصريين الذين تعلم في ديارهم، وتثقف بثقافتهم، واتخذ من بينهم أصدقاء كثيرين. . انه لا يستطيع أن يتصور الني مصبوغاً بالدماء، ورياضه وخمائله جرداء، وقصوره تلتهمها النيران. . كلا! هم ان المصريين لم يعتدوا من جانبهم على النوبة حتى يكون هناك مبرر لهذا الزحف، كلا! هذا أمر فظيع! إنه يؤثر عليه الموت. .

ألقى الأمير بنفسه على السرير واخذ يبكي طويلاً، ثم نهض فتذكر قنينة السم التي أعطاها إياه معلمه الكاهن (منتو) عندما ذهب ليودعه يوم سفره، كما تذكر قول الكاهن وقتئذ:

(ولدي! إن في الحياة أوقاتاً يفضل الموت فيها، وأنتم معشر الملوك والأمراء معرضون لأخطار كثيرة كالأسر أو المنفى، ثم إن هذا السم لا يحدث ألماً وإنما يشعر شاربه كأنه في الفردوس. .)

قصد الأمير دون تردد زاوية من الحجرة حنث كانت حقيبته التي صحبته في رحلاته إلى مصر، فنظر بعين ملؤها العطف إلى البطاقات الكثيرة التي تحملها الحقيبة من الفنادق الكبيرة في منفيس وطيبة والحجر، فأخرج منها قنينة السم ثم شربها جرعة واحدة وتطرح على السرير. .

وفي صباح اليوم التالي خاء خادمه لإيقاظه من النوم كالعادة، ولكنه امتنع هذه المرة عن تأدية هذا الواجب لأن وجه سيده كان يفيض بشاشة، فلم يشأ أن يعكر عليه أحلامه اللذيذة. .

حقاً! إن الكاهن (منتو) لم يكذب حين قال أن شارب سمه يحلم بالفردوس، ولكن الواقع أن روح الأمير كانت فعلاً في الفردوس، لأن الآلهة أرادوا مكافأته على تضحيته وإنقاذه مصر فردوسهم الثاني في هذه الأرض. .

حسين شوقي