مجلة الرسالة/العدد 300/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 300/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1939



في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

- 3 -

يعلم الله أننا ما نقصد بنقدنا هذا تجريح الأستاذين الفاضلين والعالمين الجليلين العوامري بك، والجارم بك. فإن حقهما علينا مرعي، ومقامهما لدينا كبير. وإنما أشفقنا على العربية التي وقفنا حياتنا على خدمتها أن يشيع في طبقات أهلها ما اعتقدناه مجانباً للصواب ومتجانفاً من الحقيقة التي ننشدها وينشدها معنا صاحبا العزة الشارحان للكتاب

أشفقنا على الحقيقة أن يضل الناس في أمرها، وقد شاع الكتاب وذاع وانتشر في شرق وغرب، وتناوله كل أديب واحتواه قمطر كل طالب. فأحببنا أن يصحح كل قارئ نسخته ليقرأه بعد ذلك سليماً وليجعله إلى الصواب محجة لا أمت فيها ولا عوج

ودليلنا على حسن النية أننا لا نعترض إلا على خطأ لا سبيل إلى التماس الصواب فيه، فأما الذي يحتمل الصواب ولو بوجه من الوجوه، وأما الخطأ الذي لا يوجب ارتباكاً في الفهم، فقد تركنا كل ذلك اتكالاً على فهم القارئ واجتناباً لأن نتهم بالاستكثار من عدالتهم والرمي بها جزافاً

في ص33 في رسالة سهل بن هارون التي يخاطب بها بني عمه يقول:

(وما أردنا بما قلنا إلا هدايتكم وتقويمكم، وإلا إصلاح فسادكم وإبقاء النعمة عليكم. ولئن أخطأنا سبيل إرشادكم فما أخطأنا سبيل حسن النية فيما بيننا وبينكم)

والكلام واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن حضرتي الشارحين يأبيان إلا شرح ما لا يحتاج إلى شرح فهما يقولان:

(قوله (فيما بيننا وبينكم). (في) هنا للسببية أي بسبب ما بيننا وبينكم من صلة القرابة أي إن عدم خطئنا سبيل حسن النية إنما هو بسبب ما بيننا وبينكم من صلة)

وهذا كلام ظاهر التكلف: فيه تكلف في اللفظ بإخراج لفظة (في) عن معناها الأصلي إلى معنى السببية، وفيه تجوز في معنى الكلام وعدم إجراء له على وجهه المتبادر. وإنما المعنى المفهوم الذي تدل عليه الألفاظ بوضعها الحقيقي الأول هو: إننا لم نكن غير حسني النية في الأمر الذي نحدثكم فيه وهو تصويب الرأي في البخل وعده حزماً وحيطة

هذا هو الأمر الذي بينهم وبينه وهو الذي بني عليه رسالته من أولها إلى آخرها. أفرأيت أيها القارئ أننا لم نكن بحاجة إلى جعل في للسببية وتفسير ما بينه وبينهم بالقرابة وهي لم يجر لها ذكر في الرسالة؟

في ص 34 يقول سهل: (إن من أعظم الشقوة وأبعد من السعادة أن لا يزالُ يتذكر زلل المعلمين)

وفي الشرح يرتكب الشارحان خطأ ظاهراً بجعلهما أن في قوله (أن لا يزال) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا يزال خبر لها. وقد تبع ذلك أن ضبطا الفعل يزال بالضم لأنه في نظرهما لم يسبق بناصب ولا جازم، كما تبع ذلك أيضاً أن فصلا أن من لا في الرسم لأنها حين لا تكون ناصبة تفصل من حرف النفي

ولسنا بحاجة إلى الإطالة في شرح هذا المقام وبيان ضرورة جعل أن مصدرية ناصبة للفعل، لأن شرط جعلها مخففة من الثقيلة أن تكون مسبوقة بيقين أو ظن، ولم يسبقها هنا شيء من ذلك

وهذه قصة صغيرة وردت ضمن رسالة سهل نوردها لحسنها في ذاتها أولاً، ولنذكر بعدها تعليقاً للشارحين على جملة منها أعرباها إعراباً غريباً ثم شرحاها شرحاً مضطرباً ينقض آخره أوله

وهذه هي القصة ص 46

(حدث أحمد بن رشيد قال: كنت عند شيخ من أهل مرو لا تريده، هو مالح! قلت: هات من كذا وكذا قال: لا تريده، هو كذا وكذا، إلى أن عددت أصنافا كثيرة. كل ذلك يمنعنيه ويبغضه إلي. فضحك أبوه وقال: ما ذنبنا؟ هذا من علمه ما تسمع. يعني أن البخل طبع فيهم وفي أعراقهم وطينتهم)

أما الجملة التي نؤاخذهما على إعرابها وشرحها فهي (هذا من علمه ما تسمع) فقد أعرباها هكذا: هذا مبتدأ و (من علمه) جار ومجرور خبره وما بدل من ذا في هذا) وهذا الإعراب خطأ لا يبرره أي تمحك مما اعتاد المعربون أن يلجئوا إليه، لأن الإعراب فرع المعنى كما يقولون

فلننظر قبل في المعنى الذي فهمه الشارحان من الجملة. قالا: (أي هذا الذي تسمعه ناشئ من علمه ولم يلقنه بل هو من سجيته)

وهذا كلام متناقض، كيف يكون الذي تسمعه ناشئاً من علمه ثم يكون لم يعلمه ولم يلقنه؟ وهل العلم إلا بالتعليم، فكأنهما قالا: تعلمه ولم يتعلمه فيكونان قد أثبتا شيئاً ثم نفياه في حال واحدة

إنما المراد لقائل الكلام هو أن هذا الذي بدا من كلام الصبي لم يصل إليه من طريق التعليم ولا التلقين وإنما هو وحي الطبع وإرشاد السليقة؛ وإذا كان كذلك فهو غير داخل في باب التعليم وإنما هو إلهام وغريزة مركبة في النفس. وحضرتا الشارحين أولى منا بفهم الفرق بين الغريزة والكسب لأن هذا من مباحث علم النفس الذي طلباه في أوربا وبه امتازا على إخوانهما ونالا مناصبهما العالية

ومن أجل ذلك وجب أن تقرأ الجملة هكذا: (هذا من علمه ما تسمع) ويكون الكلام على الاستفهام الذي يراد به النفي وتكون الإشارة في (هذا) إلى الصبي. والمعنى أن هذا الصبي لم يعلمه أحد ما صدر منه في جواب الممتحن وإنما أجاب بما ركز في طبعه وثبت في نفسه من طبيعة البخل المتوارثة في قومه

في ص66 في حديث بخيل عرف فضل ماء النخالة في شفاء السعال وفائدته في الغذاء، فقال لامرأته: (لم لا تطبخين لعيالنا في كل غداة نخالة فإن ماءها جلاء للصدر وقوتها غذاء وعصمة، ثم تجففين بعد النخالة فتعود كما كانت فتبيعين إذاً الجميع بمثل الثمن الأول ونكون قد ربحنا فضل ما بين الحالين)

ويعلق الشارحان على عبارة (فتبيعين بمثل الثمن الأول) بقولهما: (الجميع أي دقيق القمح ونخالته. أما الدقيق فلأنه باق على حاله، وأما النخالة فلأنها عادت بالجفاف كما كانت)

سبحان الله! ما رأيت كتكلف هذا الشرح. من أين جاء الشارحان بالدقيق وهو لم يرد له ذكر في الكلام؟ ومن أين لهما هذا الخيال الذي تصورا به أن هذه الأسرة قد استغنت بماء النخالة عن كل طعام وشراب فلم تعد بعد بحاجة إلى الدقيق؟ إن أحداً لا يعقل هذا!! ولكن الأمر أيسر مما عسّرا وأبسط مما ركّبا، وذلك أن الرجل لما رأى في ماء النخالة غذاء وشفاء عرض له أن يستفيد من ذلك، فتقدم إلى امرأته بأن تطبخ للعيال كل غداة نخالة ليكون في متناول حسائها غنية عن أكلة من أكلات اليوم، ثم هو يوجهها إلى تدبيره المحكم بقوله (فتبيعين إذا الجميع بمثل الثمن الأول) يريد إنه إذا تجمع عندها مقدار صالح من مطبوخ النخالة بعد تجفيفه باعته بمثل الثمن الذي اشترته به لأن النخالة لم تتغير حالها بعد الطبخ عما كانت عليه قبله

فقد بأن مقدار التعسف في هذا الشرح بتصور القمح وطحنه وإبقاء الدقيق والاستغناء بالنخالة عن كل طعام آخر وأن أصحاب هذا التدبير قد وفقوا إلى أن يعيشوا حياتهم كلها بفرق ما بين النخالة جديدة ومطبوخة

فيا الله أيها الشارحان إذا كنتما جادين في هذا الخيال وقد اقتنعتما به، فلم أشتري الرجل وامرأته القمح وتكلفا طحنه ثم بيع الدقيق الذي بقي بحاله والنخالة بعد طبخها؟

أما كان يكفيهما أن يشتريا النخالة وحدها ليأخذا فائدتها ثم يبيعاها مسلوبة الفائدة فلا يكونان بحاجة إلى كل هذا التعب؟ ولكن تكلف الشارحين وتعسفهما قد جعلهما يكلفان الرجل والمرأة كل هذه المشقة في أمر معاشهما

(للكلام بقايا)

محمود مصطفى