مجلة الرسالة/العدد 300/وليم بتلر يايتس

مجلة الرسالة/العدد 300/وليم بتلر يايتس

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1939



الفنان الذي أوجد لأمة أدباً

1865 - 1939

للأستاذ عبد الكريم الناصري

في الثامن والعشرين من شهر فبراير، وفي روكبرون من كاب مارتن من أعمال فرنسا، فقدت أيرلندا وفقد معها العالَم عبقرياً من النسق الأعلى: وليم بتلر يايتس، زعيم حركة (الإحياء السلتي) وعميد الأدب الأيرلندي، وشاعر أيرلندا الأكبر، ومؤسس مسرحها الأول، وخالق نهضتها الأدبية والفنية، وعميد المذهب الرمزي في الأدب الإنجليزي الحديث. . .

كتب النقّادة (روبرت لِنْد) بعد وفاة يايتس يقول: (ما كان الفقيد فناناً عظيماً فحسبُ، وإنما كان إلى ذلك رسولاً عظيماً من رسل الفن؛ جعل حياته في سبيل خلق حركة أدبية ومسرحية أنزلت أمته أكرم المنازل بين الأمم)

ولعلّ أغلب الذين رأوه في صدر شبابه ورأوا ذلك الشعر الأسود الفاحم وتلك (الربطة) وتلك اليد الشاحبة، لم يكونوا ليروا فيه إلاّ أخا خيالات وأحلام لا قدرة له على عمل ولا صلاح فيه لتنظيم

بَيْدَ أن (يايتس) كان يشتمل على طاقة روحية وقوة حماسية لا حدَّ لهما، وكان في الوقت نفسه (عملياً) لا يقل عن غيره من أهل التنظيم والإنشاء، والمعنيّين بمسائل الجمعيات وإدارتها، حدّة ذهن وسرعة خاطر) - (وإذا كان (البعث الأيرلندي الأدبي) حدثاً من أشهر أحداث زماننا هذا فإنه إلى حماسة يايتس ودعايته ينبغي أن يُوّجه أكثر المدح والثناء)

- 2 -

ولد المستر (وليم بتلر يايتس) في (سانديماونت) من (دبلن) في 13 يونية سنة 1865، وكان أبوه مصوّراً معروفاً وكان جدّه لأمّه تاجراً قديراً. أُدخل وهو ابن تسع (مدرسة غودلِفنْ) بلندن، وحين بلغ الخامسة عشرة دخل (مدرسة إراسموس سميث). ثم دخ الجامعة وتخصّص في التصوير، ثم انصرف إلى الشعر. وكان في العشرين حين نشر في (مجلة جامعة دبلن) أولى قصائده وهي (جزيرة التماثيل)

ويايتس نفسه يصف انصرافه إلى الشعر بأنه أكثر من استجابة لدافع من الطموح الشخصّي (فما كان موضوع أحلامه يومئذ) كما يقول النقّادة فورست (بأقلّ من خلق أدب لأيرلندة كامل. ففي تلك الأحلام تستقُّر بذور (الحركة الأيرلندية) الحديثة؛ ومع أن فكرة إنشاء مسرح قوميّ كانت لا تزال بعيدة، فإنها هي أيضاً لم تك إلا تطوّراً لطموح غلام لا يتجاوز العشرين)

كيف استطاع ذلك الفتى الصوفي الحالم، الذي كان فيما روت أديبة ناقدة في كتاب لها عنه عنوانه: (ذكريات خمس سنين) يظلّ ساعات من النهار يقرأ الشعر، ويترنم به في زاوية من الدار وهو في شبه غيبوبة، ولا يتذكر الجوع أبداً إن لم يذكّر به؛ أو ينهضُ في الهزيع الأخير من الليل ليقضي ما تبقى منه في الغناء والإنشاء، والذي كانت الراوية المذكورة تسلمه الرسالة ليُلقيها، وهو المطيع أبداً في صندوق البريد، فيتناول الرسالة ويضعها في سلة عظيمة، ويحمل السلة إلى دار البريد، والرسالة المسكينة تعلو وتنخفض، وتقوم وتقعد هنالك! والذي اتفق له مرّة أن كان واقفاً وهي إلى جانبه على الرصيف في الليل، ينتظران عربة، والمطر ينهمر مدراراً، والطريق موحل، والماء إلى الركب، فتذكر قصيدة شلي الطويلة: (النَّبتة الحساسة). فاندفع يصب الشعر في أذنيها وقد مالت المظلة التي كانت بيده بحيث لا تقي أيَّاً منهما! والذي شاهده أحد أصدقائه الشعرّاء مرة يرسم صورة لغابة أمامه، في وهج الظهيرة، والشمس تذيب الصخور؛ فلما دنا من الصورة، وجد المشهد هو مشهد الغابة ولكن الألوان. . . هي أشعة القمر!

أقول كيف استطاع هذا الشاعر الصوفي الحالم الذي ما سقنا الأمثلة السابقة من حياة صباه إلاّ لنبّين أنه ذاتيٌّ منطو على نفسه، أن يتزعم الجمعيات الكبرى، ويترأس حركة قومية وأدبية فنية تعدُّ (من أشهر أحداث زماننا هذا؟ لست أدري؛ فذلك سر من أسرار العبقرية والوراثة

ولكن الذي أدريه أن حياته كانت سلسلة باهرة من الفتوح (يتضح مَداها) كما يقول المستر روبرت لند، (لكلّ من يقارن بين مركز الأدب الأيرلندي في اللسان الإنجليزي قبل أن يبدأ يايتس في الكتابة والنظم، وبين مركزه عند وفاته، لقد كانت أيرلندا قبل يايتس لا وجود لها على خريطة العالم الأدبية، ولكنها بقيادته أضحت مثوى للعبقرية. فليس لأديب من أدباء هذا العصر أن يفخر بعمل أجلّ من عمله وأبرز)

- 3 -

لقد التقت في (يتس) تأثيرات أيرلندية وإنجليزية وأوربية، فهو فنان رمزي، أو لعله شبه رمزي، يستمد الوحي والمادة من تقاليد أيرلندا القديمة، ومن أساطيرها البعيدة، ومن مشاهد أريافها وأرضها وسمائها، وقلما التفت إلى أهل البلاد أنفسهم، (ولكن أليست عبقرية البلاد ساكنيها؟) ويقوم شعره وخصوصاً في شبابه - وشعر شبابه قد يكون أروعَ من شعره فيما بعد، وأصدق عبارة عن طبيعة عبقريته - على صوفية رقيقة تذكر في غرابة أحلامها وشدة أسرها بصوفية (بلايك) وقد تميل إلى الرمزية وخصوصاً في مجموعته الموسومة (بالريح بين القصب) وقد ظهرت قبل بدء هذا القرن وبعد اتصال الشاعر (بملارميه) كما يقوم شعره على الألوان الغاسقة والأضواء الخافتة بوجه عام

ولفظه صقيلٌ نقيٌ بسيط. وهذه الصفة وإن غلبت على الشعر الرمزيّ والصوفيّ على العموم، لكنها في شعر يتس ترجع أيضاً إلى تأثره (بمدرسة ما قبل رفائيل). وهي مذهب في الشعر يتعلق بمذهب في التصوير تقدَّم عليه، وأساسه الرجوع بالأسلوب إلى أبسط الصور الممكنة مع العناية المبالغة بجماله وروعة إيقاعه، ثم قَصْرُه على التعبير عن معانٍ عاطفيّةٍ أو خياليّةٍ خالية من تعقيد الفكر والفلسفة. (فالفن) فوق كل اعتبار، والفنّ هو دينُ هذه المدرسة التي لا تدين بغيره. ومما يلاحظ ههنا أن أساطين هذه، ومنهم يتس، جمعوا بين فن التصوير وفن الشعر.

ولعلنا لا نغلو إذا نحن قررنا أن هذا الحس بجمال الشكل بلغ في يتس حدّاً هو إلى الإعجاز أدنى.

وليس فهم يايتس بالمطلب الهين الداني؛ ولكنك إن فهمت معنىً من تلك المعاني (الضبابية) القصية الحاملة لجو (اللاشعور) السحريّ الغاسق، ارتد جزءاً من أجزاء نفسك لا يتجزأ، وعنصراً من عناصر حياتك لا ينفكّ يعمل فيك عمله.

وليس يايتس بشاعر من (شعراء الطبيعة) - إن قصدنا بالطبيعة الطبيعة الخارجية - وإنما هو كما سبق القول وبينت الأمثلة صوفي ذاتي (وما العالم الذي نجده في شعره إلا عالم مرَّ في دنيا خياله فتلفع بالغسق المخيم هناك). وما الطبيعة عنده إلا بحزن للرموز والحالات النفسية. فصيحة الطير رمزٌ لحبٍ مفقود، أو لقب هام على وجهه في طلاب حُبّ. وعويل الريح رمز للأسى وشهادة بالألم، وجَريَان الماء مثلٌ لذويّ الحسرة ومضيّ الزمن:

(لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:

كل شيء يحول،

ولسوف نقضي واحداً إثر واحد، ونمضي

. . . وكانت لهم أيد كالمخالب، وكانت سوقهم ملتوية كأشجار الحسك القديمة، القائمة بجانب الجدول

لقد سمعت الشيوخ الطاعنين يقولون:

كل جميل يمضي،

كما يمضي الجدول. . .

وخيال (يايتس) يبدو على الدوام كأنه خيالُ إنسانٍ (متعبٍ) وما هو على ذلك بمتعب، أو خيال إنسان يعيش في (التخوم) بين عالم الإنس وعالم الجن (على أني في الواقع لا أستطيع أن أعبر عن مقصدي بعبارةٍ أَبين)

خيال يايتس يتّجه إلى (حيث تخوّضُ النجاد الصّخرية في البحيرة، فهنالك جزيرة وريقة، فيها الأطيار ترفرف وتصدح، فتوقظ فيران الماء الناعسة. . .) وهنالك تخفي الجنيات سلالهن المليئة بالتوت، وبالكريز الأحمر المسروق. . . هنالك:

(حيث الرسالة المعتمة الشهب

تلتمع تحت نور القمر،

وبعيداً غاية البعد عن أرض (روسن)،

سرينا، نحن معشر الجنيات،

راجلات،

نرقص قديم الرقصات،

فتختلط منا الأيدي وتختلط النظرات حتى اختفى القمر. . .

فأنثينْا نثب هنا وهناك

ونطارد الفقاقيع الراغية،

بينما الدنيا مترعة بالآلام

والإنس قلقون حتى في المنام). .

(البقية في العدد القادم)

عبد الكريم الناصري