مجلة الرسالة/العدد 301/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 301/من برجنا العاجي

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1939



ليس على الأرض أخطر ولا أقوى من آدمي يعيش من أجل فكرة. هذا

الآدمي يركز كل وجوده في فكرة كما تتركز أشعة الشمس في عدسة

ليستطيع أن يحدث مثلها حريقاً مخيفاً أو نوراً وهاجاً ساطعاً. إن أغلب

الأنبياء والرسل وقادة الفكر وعظماء التاريخ الذين قلبوا العالم أو ملئوه

ضوءاً وجمالاً كانوا كذلك: أشعة متجمعة في عدسة فكرة. إنهم لم

يعيشوا للحب والحياة؛ إنما عاشوا من أجل فكرة.

ذاك خاطر مر برأس في لحظة من اللحظات. ولست أدري أأنا مصيب فيه أم أنه عزاء جميل أدخله على نفسي كلما ذكرت وأيقنت أني أنا أيضاً آدمي لم يخلق كي يعيش للحب والحياة. لماذا أعطى دائماً الفكرة ثمناً أغلى من حياتي، دون أن أشعر ودون أن أريد؟ آه. . . لو أتيح لي أن أعيش حياتي كما أحب؛ ولو سمح لي أن أقدر الحياة كما يقدرها السعداء من الآدميين! لقد منحني الله من أسباب النعيم ما لم يتيسر مثله للكثيرين، فلم أبسم ولم أسعد؛ فقد عافت نفسي مائدتي المنمقة وسيارتي اللامعة ومسكني الرحب. آه. . . إن أجمل أفكاري ما ظهرت إلا أثناء سيري البطيء على الأقدام. وإن ألذ أكلة عندي ما اقتصرت على لون واحد من الطعام. وإن خير مسكن لي هو حجرة واحدة أضع فيها كل ما يربطني بالوجود من كتب وورق وفراش وثياب. لقد صحت يوماً من أعماق نفسي: (اللهم أتم نعمتك عليّ وجردني من كل هذا النعيم الذي لا أفهمه، واملأ قلبي بحب نورك وحده، فبه تزهر كل فضائلي الآدمية كما يزهر النبت تحت الشمس الحارة البارة!). وكان لي ما أردت، وانقطعت للفكر وتجردت. ولكن. . .

لكن هل كل من تجرد من حياته في سبيل الفكر ينظمه الزمن في سلك العظماء؟ لست أظن. وهنا الكارثة. هنالك رجال خلعوا رداء الحياة دون أن يلبسوا الفكر ثوباً وضاءً. أولئك هم التعساء في الدارين. أخشى أن يكون قد كتب عليّ مصير هؤلاء!.

توفيق الحك