مجلة الرسالة/العدد 301/يا للجلال الصريع!

مجلة الرسالة/العدد 301/يا للجلال الصريع!

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 04 - 1939


الملك غازي. . .

في ذمة الله نبعةٌ فواحة من أرومة الحسين، ذوت في ازدهار الربيع وغيَدان الصبى وفوران الأمل، ثم أسقطها الجفاف والري موفور والخصب شامل!

كان الملك غازي - تغمده الله برضوانه - مهوى قلوب العرب ومعقد رجاء العراق؛ لأن شبابه يرافيء شباب النهضة، وطموحه يجاري طموح العروبة؛ ولأنه من بعدُ وريث فيصل باني العروش وقائد الثورة. وكانت تباشير الصباح المسفر تنبئ عن الضحى الجميل والنهار الصحو، لولا أن للقدر أحكاماً لا تجري على أقيسة العقول ولا تسير على رغائب الأنفس

عرفت خليفة فيصل وهو لي عهد، ولم أنل شرف لقائه وهو ملك؛ لأنني تركت العراق وأبوه لا يزال على عرش الرشيد يدبر الأمر بذكاء على ودهاء معاوية. وكانت جلساتنا الليلية في حديقة البلاط المزهرة المقمرة، حيناً في حضرة الملك وحيناً في حضرة خاله، تكشف لي قليلاً قليلاً عن مصاير هذه النفس الرغيبة الطيِّعة التي نبتت في هجير مكة وأزهرت في ظلال بغداد، فكنت لا أنفك منها أمام طبيعتين مختلفتين: طبيعة تتأثر بحاشيته فتسامح وتساير وتمرح، وطبيعة تتأثر بأبيه فتصعب وتسمو وتطمح. ولكن المقرر في الأذهان كان أن الشبل سينتهي بالضرورة إلى طبيعة الأسد مهما أثر فيه طبع الناس ونال منه قفص الحديقة

قلَّ في الشباب الملكي من كان كغازي في سماحة نفسه وسجاحة خلقه ونبل شعوره وسمو تواضعه وظرف شمائله. وتلك هي الصفات الهاشمية التي تنتقل في بني الحسين بالإرث، وتقوى إذا ساعدتها القدوة وساعفتها البيئة. ولكن ما ورثه هو عن أبيه صقر قريش من الجناح الزَّفاف، والبصر النفاذ، واللب الحصيف، كان يتيقظ رويداً رويداً مع الزمن والخبرة؛ فلم يكن بعدُ قد توثقت آرابه للاضطلاع بالعبء الفادح الذي ألقي على ظهره فجأة. والعبء الذي كان يحمله فيصل من أمور العراق هو العبء الذي قسمه الدستور على سلطات الدولة الثلاث فجمعه هو على عاتقه. من أجل ذلك لم يضع غازي يده من سياسة العراق العليا موضوع يد أبيه للتعديل والموازنة، وإنما تركها في أيدي الزعماء ت سفينتها على مشيئة الريح، تضطرب حين تثور، وتستقر حين تسكن. ومن أجل ذلك امتحن الله الفراتين بالقوة الغشوم، فحكم الجيش، واستبد الطيش، واضطرب العيش، وسطت الأيدي المجرمة على عباقر الأمة. ومن أجل ذلك لا نتوقع لسياسة العراق بعد غازي ما توقعه لها الناس بعد فيصل. والغالب في الظن أنها ستجري في عهد فيصل الثاني كما كانت تجري في عهد فيصل الأول. فإن نوري السعيد الذي يقبض على سكانها اليوم هو تلميذ أبي غازي؛ وضعا معاً سياسة العراق الحديث على أساس من المرونة اللبقة، ثم ساساه بنوع من الدكتاتورية المعتدلة التي تسير مع النزاهة وتقف عند حدود العدل. ولعل هذه السياسة الفيصلية هي التي تقتضيها الحال اليوم بعد ما فت في أعضاد الشعب توزع الرأي وتقلب الهوى وتوقح الخصومة

إن مصرع الملك الشاب على هذه الصورة الأليمة فاجعة تدمى العيون وترمض الجوانح.

وإن العالم العربي كله ليشاطر العراق الحزين أساه على سيد شبابه ومناط أمله؛ ولكن للدواهي النُّكر صدمات تهز الشعور وتوقظ الفطنة، فتنبه على قدر ما تُذهل، وتوجه على أثر ما تُضل. والشعب العراقي من الشعوب الكريمة الحرة التي تصقلها الخطوب وتلمها الأحداث فتقف بفطرتها السليمة أمام الخطر هوىً واحداً ورأياً جميعاً وعزيمة صادقة. وسيرى الذين يتخيلون ويتقولون أن إرادته الصارمة الحازمة ستَثبت لدواعي الشقاق ونواجم البغي، وتُثبت أن عصر فيصل الثاني سيكون عصره الذهبي الثاني، فيشتد بنيانه ويمتد سلطانه ويتسع عمرانه وتهبُّ من جوف الهلال الخصيب عبقريات غفت في أحضان الخلود ولكنها لم تمت!

في ذمة الله نبعة فواحة من أرومة الحسين ومن دوحة فيصل، سقاها النبل الخالص، وغذاها الكرم المحض، وتعهدها الحفاظ الحر؛ حتى إذا أوشك الكم أن ينشق عن الزهر المثمرة قصفها الموت المفاجئ، فكان ذُوِيها حسرة في نفس شعب، وقرحة في قلب وطن!

برد الله ثرى غازي بالصيب الهتون من رحمته، وشعب قلب العراق بالصبر الجميل عن مصيبته، وجعل عهد المليك الطفل على العروبة والإسلام عهد سلام ووئام وبركة!

أحمد حسن الزيات