مجلة الرسالة/العدد 302/يا غازي. . . عليك رحمة الله!

مجلة الرسالة/العدد 302/يا غازي. . . عليك رحمة الله!

مجلة الرسالة - العدد 302
يا غازي. . . عليك رحمة الله!
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 04 - 1939



للأستاذ علي الطنطاوي

عليك رحمة الله (يا غازي) الحبيب، يا فخر الشباب، يا من لم يمتع بالشباب! يا سيد العرب، يا من روع فقده العرب. يا بدر العراق الآفل، يا أمل الشام الذاهب يا دنيا من الفتوة والبطولة والنبل طواها كف الموت (يا غازي) عليك رحمة الله!

بالأمس استصرختك وأنت أملنا وملاذنا، وأنت عوننا على الدهر الظالم، والعدو الغاشم، أفأقوم اليوم لأرثيك يا أملنا ويا ملاذنا؟ أأقف على قبرك الطريّ مودعاً وباكياً، وقد كنت أقف على بابك العالي مستغيثاً ومستصرخاً؟ أأخاطبك اليوم من وراء القبر وقد كنت بالأمس ملء الكون حياة وقوة وشباباً؟ ليتني ما عشت حتى أرى هذا اليوم! ليت يدي ما طاوعتني حتى أكتب هذا المقال! ليتني ما بقيت حتى أرثيك يا غازي! (يا غازي) جل المصاب وما لنا فيه يدان! (يا غازي) عظم الخطب وضاقت الحيلة! (يا غازي) لو كان يفتدى ميت لفداك العرب بأنفسهم! (يا غازي) قد فقدناك فعليك رحمة الله!

على شبابك الكامل، على بطولتك النادرة، على أيامك الحلوة، على ذكرياتك الخالدة، على روحك الطاهرة (يا غازي) رحمة الله!

أفي عشرة أيام يدور الفلك، وتتبدل الدنيا، ويستحيل عيد مولد الملك الشاب الحبيب، إلى مأتم الملك الشاب الحبيب؟

أفي عشرة أيام تمر دنيا كاملة، تبدأ بأعظم عيد عرفه هذا الشعب هو عيد ميلاد (غازي) وتختم بأجل مصاب رآه. وهو المصاب (بغازي)؟

من كان يظن وهو يشهد أفراح هذا الشعب في (21 آذار) يوم الربيع الطلق، ويوم (غازي) الذي كان أمرع من الربيع وأبهى، أن الفجيعة الكبرى كامنة في الغد القريب، وان هذا الشعب سيلطم وجهه ويمزق ثوبه حزناً على (غازي)؟ أأحسست بالغد القريب فذهبت تستعجل القدر لتهيأ لأمتك كل شيء قبل أن تمضي، فعرضت جيشك يوم الثلاثاء لتؤكد لها القوة والأيد، وفتحت السدة يوم الأربعاء لتضمن لها الحضارة والخصب، وعطفت على آلام سورية لتنشئ لها الوحدة والعزة، وأجريت الخيل يوم الجمعة لتعلم وليدك الصغير كيف يكون فارساً قبل أوانه، كأنك شعرت أنا سنفجع فيك قبل الأوان؟ لقد كنت قريباً منك يوم (عرض الخيل) فرأيت في عينيك وأنت تراقب أبنك معنى من معاني الغيب ولكنا ما أدركته، ومن أين يخطر على بالي أنك كنت تودعه، وتفكر فيه كيف يفقد أباه ويجد الملك، فلا يدري ما الملك ولا بني ينادى: بابا. . .؟ من كان يظن أن الملك الشاب أبن الخمس والعشرين يموت؟

من كان يظن أن هذه الهبة الكبرى إنما هي استعجال للقدر، وأن هذه الأيام العشرة إنما هي الخاتمة البارعة لتلك الحياة البليغة؟: ولكن هل تم كل شئ حتى تستريح (يا غازي)؟ لقد وعدت (وفد العروة) أن تشرفهم بلقائك وما عهدناك أخلفت قبل اليوم وعداً. لقد كمل الجسر العظيم الذي لم ينشأ مثله في عهد الرشيد والمأمون، فأين أنت لتفتحه بيدك، وتخطو فيه أول خطوة؟ لقد وصل الخط الحديدي إلى الموصل أفلا تفضلت فرعيته وافتتحته؟ لقد أجمعت أمه الشام على نصبك ملك، وتسليمك عرش أبيك على رغم الظالمين، فأين أنت لتسكن قصر أبيك في دمشق وتحتل عرشه فيها؟ لقد تهيأ العرب ليمشوا تحت لوائك إلى قمم المجد وذرى العظمة، فتقدم يا قائد العرب يا مليك؟

وأين قائد العرب؟ أين المليك؟

لقد مشى إلى رحمة الله، فإنا لله وأنا إليه راجعون!

أحين اشتدت المعظلة، واستحكم الأمر، ورجوناك للخطب لا يرجى فيه إلى أنت. .؟

أحين تعلقت بك الآمال، وأقبلت عليك القلوب، وغدوت حبيب الشعب المفدى. .؟

أحين تمت بك الأفراح، وكادت تتحقق بك المنى. . .؟

اللهم لقد حرمت كل شيخ منا ابنه، وكل فتى أخاه، وكل صبي أباه، حين أخذت سيدنا وحبيبنا وملكنا غازي!

اللهم فارزقنا الصبر، وأين منا الصبر؟

(يا غازي) أرفع رأسك ساعة وانظر إلى شعبك. إنه يحار ماذا يصنع، فهو يسكن واجماً ثم يثور نادباً، ثم يستفزه الألم فيقرع الطبول ويرقص رقصة اليأس. إنه يحمل صورتك مجللة بالسواد فلا يراها أحد حتى يبكي. على أنهم حملوا صورتك في الأفئدة ونقشها على صفحات النفوس، فأنت من كل قلب حبته، ومن كل عين سوادها؛ اسمك آهة على كل لسان، ودمعة في كل مقلة، وخفقه في كل فؤاد، ومناحة في كل بيت عربي. . .

فيا غازي، عليك رحمة الله!

لقد لحقني اليوم طفل ما أحسبه بلغ الرابعة، فجعل يطلب مني بإلحاح ويشير بيديه؛ فأعطيته فلسين فألقاهما في وجهي، فزدتهما فرما الأربعه، فتفهمت قصده فإذا هو يطلب شارة سوداء كالتي أضعها في صدري ليعلن بها الحزن عليك، فدفعتها إليه فانصرف وهو يذكر اسمك ويبكي!

لقد رأيت عجوزاً تنظر إلى رسمك المجلل بالسواد وتبكي بحرقه كأنما تبكي فيك ولدها الوحيد، وهي تظن أنه ما يراها من أحد إلا الله!

لقد أغمي على كثير من الطلاب والطالبات لما سقط عليهم الخبر الأسود. لقد احمرت من اللطم صدور وخدود يؤذيها مس النسيم!

يا غازي، يا أيها الفتى القوي، يا أيها الفارس الطيار، ألم تعد تستطيع أن ترفع رأسك مرة أخرى لترى ما صنع شعبك؟

لقد مت من القضاء مرت ولكنا متنا من الحزن ألف مرة، وسنموت من الحزن ألف مرة، ولن ننساك (يا غازي)، مثلك ما ينسى! إن الشام الذي نادى بك مليكاً منذ أيام وكنت أنت أمله لم يبقى له أمل، فهو يبكي فيك اليوم كل شهيد من شهدائه. إنه كان يحبس دمعه من أجلك فلم يحبس الدمع من بعدك؟

إن العجوز التي كانت تتلقى أبنها وهي تهتف باسمك، لم يبقى لها من تهتف باسمه من بعدك!

(يا غازي) من لأطفال الشام، من لنسائه، من لضعافه الذين يسومهم القوي ألوان الخسف؟ (يا غازي) من لهم، وباسم من يهتفون من بعدك؟

(يا غازي) ما تيتم لفقدك فيصل الصغير وحده ولكن فقدك يتم كل عربي. ما يتم فيصل الصغير، أبداً ماتيتم، إن كل عربي له أب وخادم وصديق، إن له في قلب كل عربي مكاناً!

أحقيقة أنهم أودعوك جوف الثرى؟

(يا غازي) إني والله ما أصدق أنك مت!

(يا غازي) لقد سمعت الخبر فكذبته، ولعنت ناقله وانتظرت أن أراك طالعاً علينا، تمر مر النسيم الناعش، مرّ الرجاء الحلو بخيال الآيس الحزين، تحي شعبك، وتسبغ عليه القوة والحياة بابتسامتك المنيرة وفتوتك الباسلة؛ وطفقت أراقب الساعة أحسب الوقت فلم تمرّ، فشككت ولكني لم أصدق ما قال المرجفون، ورأيت النساء يبكين ويندبن، فبكيت والله ولكني لم أصدق ما قاله المرجفون. . . وشاهدت بغداد وملء شوارعها البكاء والحسرة والندب، ولبثت أشك ولبثت أرجو، حتى سمعت المدافع ووعيت صحيحة، فلم يبقى شك ولم يبقى رجاء. . . لقد تحقق النبأ فواحسرتاه. . . لن نراك (يا غازي) طالعاً علينا، لن نبصر من بعد موكبك ولا ابتسامتك ولا تحيتك، فيا غازي في ذمه الله وأمانه، يا غازي عليك رحمة الله.

يا أهل بغداد!

مات غازي فابكوا واندبوا، فعلى مثل غازي يحلو الندب والبكاء.

يا أهل بغداد!

ما فجعتم فيه وحدكم، ولكنها فجيعة العرب بسيد العرب. لقد كان منار رجائنا (معشر الشاميين) فانطفأ المنار. لقد كان لنا مناط الأمل. لقد كان لنا كل شيء. . . فيا أهل بغداد كلنا في المصيبة سواء ولكننا سنتبع طريق غازي، وسنمشي تحت لواء خليفته. حتى نبلغ الغاية التي سعى إليها ويقول التاريخ: إن العرب يبكون سيدهم الراحل لأن لهم عواطف وقلوباً، ولكنهم يخلصون لسيدهم الجديد لأن لهم مطامح وعقول. فيا غازي أذهب إلى رحمة الله مشيعاً بالحب والإكبار. ويا أبن غازي اعل العرش، وانشر اللواء واحمل التاج، فإنه ليسر روح غازي في سمائها، وعظامه في ثراها أن يخلص شعب غازي لخليفة غازي كما أخلص له.

يا غازي عليك رحمة الله. ويا خليفة غازي ابسط يديك فهذه بيعتنا، وسر بنا إلى الأمام فهذه سواعدنا وهذه أرواحنا. . . إلى الأمام. . . وعلى غازي رحمة الله والسلام.

علي الطنطاوي