مجلة الرسالة/العدد 303/صلوات فكر في محاريب الطبيعة
مجلة الرسالة/العدد 303/صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
يا أرض الرستمية!
عليك السلام من عيني اللتين تدوران فيك دورات زائغة زئبقية مروعة وتلقطان الصور من حياتك ومواتك وآفاقك وذراتك. . .
ومن قلبي الذي قدست أسراره وقدس أسرارك وخلدته وخلدك. . .
ومن فكري الذي صقلتِه وأرهفتِه وجعلتِه يتصل بأصول الحياة ويرتبط بوثيق الأسباب. . .
لقد توسعت نفسي من رحبك وتعددت بتعدد مرائيك، ورقرق خواطري نهرك الوديع اللعوب، في ابتسام الفجر وبكاء الغروب، وأحسست سلامة النبات وهدوءه وصبره وصمته ونموه وإشراقه يدب في جسدي. . .
لقد اختلطت فيك الرؤى بالأحلام، والصحو بالذهول والمنام، فتوسع عالمي ورأيت في دنياي وفي نفسي مخابئ وعجائب ومدخرات وكنونات. . .
لقد خلدت في خيالي صور الأعواد الجافة والخضراء، والربى والوهاد والزهر والمطر حتى لأوشك أن أعد كل أولئك واحداً واحداً من ترديد النظر وانطباع الصور. . .
وهل أنسى كئوس النور والظلام التي أدرتها على عيني مخضبات بأصباغ الشفقين، مشعشعات بالندى والطل، مطيبات بنفح الزهر وأنفاس السحر؟
لقد شربت عيناي فيك من النور والظلام فسكرت سكراً أبدياً أفرغ في كل خلية من خلاياي نشوة وفتوناً
لقد دخلتك كارهاً فراق بغداد. . . فكنت كالذين يقادون إلى الجنة بالسلاسل!
ثم انطلقت في رحابك انطلاق رياحك وأطيارك، أحمل قلبي إلى كل مكان كما تحمل الطير قلوبها على الأغصان، أقف على كل ما فيه حياة ونبض لآخذ لقلبي منه وطاقة يستعيض بهما عما يبذله ويسرف في بذله
فإني حين رأيت عيني عاجزة أن ترى (سر الوجود) جعلت أرمي بنفسي في مواضع يده. وكأنه عندما بدت مني لهفتي الدائمة إليه أوسع لي من عطفه فأخذني إلى قطعة فاتنة من الطبيعة المكشوفة التي لا حجاب بينها وبين حواسي الداخلية والخارجية، لأرى يده دائماً من وراء ستر شفاف فقادني إلى الرستمية
وقد عشت مختنق الحواس في المدن، لا أرى إلا حجارة ميتة موضوعة بهندسة الإنسان، ولا أرى من الطبيعة إلا قطعة من السماء في سمت شارع أو من نافذة دار. وهيهات كان تيقظي إليها. . .
وكنت لا أتذكر الطبيعة إلا برؤية شجرات في الشوارع تكاد تنكر وجودها في هذه الأماكن الصناعية، وتكاد عيني تحسبها صنعة إنسانية كالأثاث في وجهات الحوانيت، وكنت أزور الطبيعة المكشوفة التي في خارج أرياض المدن كما يزور السائح الأمريكي متحفاً للآثار في الشرق. . .
وحقاً استحالت الطبيعة البكر المكشوفة كمتاحف للآثار التي كان يستعملها أجدادنا وصارت لانقطاعنا عنها غريبة علينا. وصرنا لا نرى مشاهدها إلا من عدسة التصوير أو من ريشة فنان أو ألفاظ قصيدة. . .
ثم قصر الناس صلاتهم على الأنصاب والهياكل والأماكن المظلمة الضيقة التي لا يرون فيها إلا أجسادهم، وتركوا المحاريب التي بناها رب الحياة بيده هو لعبادته بالفكر والقلب. . .
تركوا المعبد المفروش بالأعشاب والرمال، المسقوف بالمصابيح الزهراء، القائم على جدران من سامقات الجبال وأعمدة من بواسق النخيل وفارعات السرو، المغسول بشعاع الشمس والقمر؛ وكأنهم بنوا معابدهم لتحمي أجسادهم من فيضه وفيض طبيعته، وتركوا قلوبهم تختنق فيها بالبخور والعطور والأصوات الفردية التقليدية
أما أنا. . . فورب الحياة لأعبدنه في الطبيعة تحت الهواطل والصواعق، في حرارة الهواجر وبرودة الأسحار، في وضوح النهار وانبهام الليل، في جمرات الظهيرة وفحمات العَتمَة، ولو طارت بي الريح. . . ولو وقع عليّ سقف الدنيا!
ولأُنادينَّ على اسمه: الصلاة جامعة أيتها الأحياء. . . إلى الإحساس بالحياة ورب الحياة. . . قومي مصطفة في أماكنك المحدودة الموزونة. . .
فيسجد كل كائن في مكانه ويسجد قلبي معه. . .
وسأعود إلى أحضان الطبيعة أغني في أذنها كطفل يغني في أذن أمه ويدفعه قلبه العاشق الراهب إلى التمسح فيها والاحتماء بها. . .
وسأحمل قلبي إلى كل مكان فيها كما تحمل الطير قلوبها إلى كل شجرة. . .
وسأسجل خواطري عنها في كل ساعة تتعرض لي فيها بفتنة من فتونها، وأرصدها وهي يقظة أو نائمة، خَفِرة محتشمة أو عاهرة متبرجة، ضاحكة أو باكية، حبلى مكدودة تعاني آلام الحمل والطلق والوضع أو فارغة خفيفة. . .
لقد احتكرتني لنفسها ولم تدع في قلبي مكاناً لحب غيرها إلا يكون مَرَدُّه إليها وجماله من جمالها
فيا ابن الإنسان! هلم معي إليها. لقد كنت تتخذ الحجارة وكثيراً من الأشياء التافهة آلهة من شدة شعورك بها فتسجد لها. أفلا تصلي معها الآن لربها الذي اهتديت إليه؟
هي لا تزال شاعرة بربها كما كانت وكما تكون. وذهب شعرك أنت بها وبربها. وصرت تسجد لنفسك. فمن يعبدك معك؟ لا شيء. . . أن الحجارة تأبى أن تعبدك كما عبدتها أنت في ضلالك القديم!
1 - قبيل الربيع
الطبيعة تلد من كل جسمها. . . جاء ابتداء دورة زمنية. . . الأجنة تتحرك للانفصال من العالم الغائب. . . الأنواع من نباتها وحيوانها تزدحم لتسير في المواكب. . . يستعرضها صاحب الوقت القائم على الزمان.
أنا لا أشترك في الموكب لأني عقيم لم أقدم قرباناً ما للحياة بإلقاء بعض الأحطاب إلى شعلتها؛ ولذلك جعلتني من الواقفين على هامش طريقها يهتفون لها بالقصائد اللفظية.
لعلها غاضبة عليّ، لأني عاق لها بالعمل، وأن كنت باراً بها في الشعر. أما أبناؤها البررَة فقصائدهم: شجرة أو ثمرة أو ورقة أو زهرة أو فرخ بيضة، أو كتلة لحم تصرخ في أذنها وتتكلم! يقدمون ذلك لها في كل عرس من أعراسها كبرهان ولاء وطاعة وشعر حقيقي. . .
قد يخاف الفيلسوف من موت الثمرات أو مرضها أو فسادها. . . ولكن الطبيعة تود الثمرات ولو كانت معطوبة. تود حياة الأمل والألم لا حياة العقل الجامد. تود أن تسمع عويل الثكل وصوت النعي، كما تود أن تسمع صوت البشير وضجيج الميلاد.
تريد دائماً أَمَّا أن تصرخ في أذنها إما من الطلق والوضع، وإما من الفقد والثكل. تريد جنيناً محمولاً في ظلمات البطن، ورضيعاً ملفوفاً في لفائف القماط، أو محمولاً في بطن النعش ملفوفاً بلفائف الكفن. . .
قانونها هذا: أرحام تدفع، وأرض تبلع!! لأنها لا تدور على فراغ، ولا تسمح ببقاء دائم
2 - الربيع
أنظر بعينيك في كل مكان في السماء والأرض، وأحذر أن يشردا منك ولا يرتدا إليك. . .
أدرهما على كل طفل من أطفال الطبيعة. . . وأحذر الخاتلات الناعسات من عيون الأزهار.
العشب والزهر كأطفال خرجوا في صباح عيد. . . والصبح ممشوق القوام واضح الجبين، والليل فاتن الملامح. . .
أخلع نعليك وسر حافياً على جسم أمك، وتمسح فيها حتى يجددك ملمس الحياة الجديدة.
لاعب اخوتك الصغار الذين تفتحت عنهم الأكمام، وقذفتهم الأرحام، ونسجتهم ظلمات الأرض، ولونتهم أضواء السماء، وخذ لشفتيك قبلات من المواليد الجديدة.
أفتح حواسك جميعاً ليدخل شباب الدنيا إلى نفسك، واختزن في قلبك قوت سنة من الحياة والجمال.
أملأ عينيك بالأضواء والأصباغ، وأذنيك بالأغاريد والموسيقى السائلة الذائبة في الأجواء والأنهار.
ضاعف إحساسك بالحياة وتيقظ، واخلق لنفسك أعصاباً جديدة ثم امنع فكرك عن الدوران في الأرقام والحروف والعفونات القديمة. . . وألق كل قديم من قلبك وتجدد. . . وافتح فؤادك الجائع الذي لا يمتلئ، فإن كل هذا الجمال والحياة له. . .
أنظر إلى الربى والوهاد والتلاع والسهول والأغوار، تجد الزينة والأعلام في كل مكان. . . ما تركت السحب مكاناً بدون أن تفرشه بالسندس والأقحوان، وما تركت النسمات مكاناً بدون أن تمر عليه منبهة ما فيه إلى وجوب الطاعة لحركة الحياة بالتماثيل والحفيف والتصفيق. . . حتى شجرات العوسج والشوك أورقت وأزهرت!
ضع وجهك وجسمك بين الأعشاب والأزهار. . . واستقبل الأنداء والأشعة، وأهدب بأجفانك كالنرجس. . . ودر بعينيك مع الشمس (كعَّبادِها) ودع النحل والفَراش تقبل فاك وعينيك. . . أرسل نفَسك ندِيّاً خافتاً بسيطاً بدون تعقيد ليحمله النسيم مع العطور. . . ثم لا تفكر! حتى لا تحترق أوراق الورد، وتختنق أنفاس النسيم.
وانظر إلى المطفلات من البهائم، وإلى أطفالها بحنان، وهي ترعى سعيدة تخضم نبتة الربيع ثم تخور وتجتر حالمة. . .
فإذا جاء الليل فاخرج إلى الحدائق المعلقة في السماء، وانظر فيها حالماً ساهماً تحت ضوء القمر الباهت، ودر بعينيك في نفسك وفي أغوار الأزل والأبد. فلعلك أن ترى هناك الربيع الدائم. . .
نعم. فليس قلبك قانعاً بهذه اللحظات الفانية من ربيع الأرض. . . أن قلبك ليس ورقة من ورقات الأشجار تخرج ناظرة ساهمة بلهاء، ثم تفارق الكون مكرهة إلى غير رجعة. بل هو عقدة ثمرة خالدة في الربيع الخالد الذي لا يحرقه صيف ولا يحوله خريف إلى هشيم تذروه الرياح وتلوى به الصبا والدبور إلى الدثور.
ولئن عز عليك أن تفنى بين يديك وأمام عينيك أرواح الأزهار الأرضية، وتتساقط أجسادها جثثاً بالية ناصلة الألوان مسلوبة العطر. . . فأنظر إلى حدائق السماء ذات الزهور الخالدة التي تصل إليك ألوانها وعطورها من بعد. وتَعزَّ بهذا البقاءَ عن ذاك الفناء. وكن على يقين بأن قلبك مخلوق دائم لهذا الربيع الدائم الذي تراه في الحدائق المعلقة. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف