مجلة الرسالة/العدد 304/استطلاع صحفي
مجلة الرسالة/العدد 304/استطلاع صحفي
الأندية الأدبية في مصر
كازينو باب الخلق
لمندوب الرسالة
باب الخلق أو باب الخُرْق كما يسمى في الخطط القديمة، ميدان يقع من القاهرة في الصميم، وكأن الحكومة رأت فيه هذا المعنى. فأقامت به دار المحافظة لتكون في الوسط لكل مواقع المدينة يخترق شارع محمد علي، وهو مجاز المواكب الرسمية والعسكرية بين القلعة والعتبة، والقلعة والعباسية، والقلعة وعابدين. ويمر به الطريق الواصل بين الحسين والسيدة والإمام، فما تكاد تنقطع منه جموع القرويين الذين جاءوا إلى مصر يوفون بالنذر لأهل البيت، ويستعطفون الأسياد بالنظرة. وفيه تقوم دار الكتب المصرية وهي كعبة يحج إليها طلاب الثقافة والمعرفة من أبناء الأزهر، وشباب الجامعة، وتلاميذ المدارس، ومن في نفسهم الرغبة في الأدب والعلم من مختلف الهيئات وشتى الجهات. . .
وكأن وجود دار الكتب في هذا الحي هو الذي صبغه من قديم بالصبغة الأدبية، وجعله مهوى كثير من الشعراء والأدباء والصحافيين، وكم لهم في هذا الحي من سهرات عامرة، ومجالس حافلة، وذكريات كلها البهاء والرواء، والأدب والشعر، والمضاحيك الحلوة الخالدة، وناهيك بمضاحيك حافظ ونسيم وإمام العبد وصاحب (الصاعقة) ومنشئ (الحمارة) وإخوانهم من الذين ذهبوا في الذاهبين، أو تخلفوا إلى حين!
في هذا الميدان الأدبي العامر، وفي المثلث الحادث من تقاطع شارع محمد على بدرب الجماميز وأمام جامع الحين الذي لا أعرف إلا اسمه، يقع كازينو باب الخلق. ولهذا الكازينو تأريخ قديم، وذكرى غابرة، فكل ما فيه من مظاهر الأبهة، فهو طريف مستحدث، قضى به العصر، وتطور به الزمن، عن أصل كان هو المظهر السائد في مصر القديمة!
كان هذا الكازينو من قبل يسمى (قهوة باب الخلق) وكانت هذه القهوة بين غسق القرن الغابر، وغلس القرن الحاضر، ندياً من أندية الأدب في مصر، على ما يحكي الصحافي العجوز، فكان يجلس فيها الشيخ أحمد الفتاح، والشيخ محمد المهدي، والشيخ الحملاوي، ومحمود بك أبو النصر، وحفني بك ناصف، والشيخ محمد الخضري، تحيط بهم نخبة من طلاب الأزهر ومدرسة المعلمين الناصرية - أي دار العلوم - فيأخذون في أمشاج من أحاديث الأدب واللغة والدين والسياسة في بعض الأحايين.
ثم فعلت الأيام ما فعلت وقامت دولة مكان دولة واحتل القهوة الشيخ محمود حسن زناتي، والشيخ طه حسين، والشيخ أحمد حسن الزيات، والشيخ إبراهيم مصطفى، ومن على شاكلتهم من تلاميذ المرصفي والمهدي والشنقيطي ممن تمردوا على حوشي الأزهر ومتونه وهوامشه، فلما شب عمرو عن الطوق انصرف كل إلى شأنه في الحياة وقد بقي في نفسه شيء من تلك الحياة. أما الدكتور طه فسخر بماضيه وتمرد على إخوانه وراح ينعتهم (بأدباء باب الخلق) زراية عليهم وغضاً من شأنهم. وأما صديقنا الشيخ محمود زناتي فما زال يذكر تلك الأيام بالخير، وما زال يتشهى شطير الجبن والعجوة الذي طالما تناوله من يد عم أحمد - هو وصاحبه طه - في ذلك المكان. وأما أستاذنا الزيات فإذا ما سألته الخبر في ذلك نظر إليك ساهما وهو يقول: تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. صحيح صحيح! لقد كان ما كان!
ثم كان بين الغابر والحاضر فترة من الزمن للتمول والتمور، فقد وفد على مصر وافد الرقي والحضارة، وقامت في رؤوس القوم النية في تنسيق القاهرة وتجميلها، وكان لا بد لباب الخلق من أن يتسع فناؤه ويعلو شراعه وأن يصير إلى نظام أنيق يلائم روح العصر، وكان لابد أيضاً لقهوة باب الخلق أن تتطور وتتحور وأن تلبس لباس الجديد، فأصبح اسمها الكازينو بدل القهوة، وصار بناؤها من الزجاج الشفاف وقد كان قبل من حجر المقطم، وغدت وهي في عصمة شاب مصري ناهض من صميم الريف وقد كان يقوم عليها من الذين ابتلى الله بهم مصر حيناً من الدهر
واليوم يقوم الكازينو في باب الخلق نادياً أدبياً يقصده كثير من الأدباء والشعراء ورجال الصحافة والفن، فتجد السيد حسن القاياتي يهبط عليه في الفينة بعد الفينة؛ وإذ يجلس السيد القاياتي فإنما يحفل مجلسه بالأدب والشعر والرواية والتاريخ والمواليا والزجل، وما ينفض المجلس إلا وقد تحمل الشيخ لحسابه ما ينوء به جيب الأديب. ولكن الله قد بارك في جيب الشيخ وبين الحين والحين يعرج على الكازينو صديقنا الأستاذ الشاعر أحمد الزين وهو عائد من عمله في دار الكتب، فإذا وجد موضعاً للحديث تحدث كعادته حديثاً شاملاً يتناول كل الأدباء والشعراء في مصر، وإلا أخذ فنجاناً من القهوة وانصرف في صمت رهيب!
وفي ركن من الكازينو يجلس الأستاذ إسماعيل صبري الشاعر ومؤلف الأغاني لشركتي أوديون وبيضافون، فيظل في مجلسه طول النهار وبعضاً من الليل منفرداً كأنه يستوحي شيطانه ويستلهم وجدانه. وفي ركن مقابل يجلس صديقنا الشيخ رفعت فتح الله في جمع من إخوانه يحقق رأياً لسيبويه، أو يحدثهم فيما كان بينه وبين الرافعي من مناظرة، على كركرة النارجيلة ولعب الشطرنج
ولما مات الهراوي رحمه الله، انفضّ سامره في الحلمية، ولم يتحمل إخوانه الجلوس حيث كان يجلس، فجاء بعضهم إلى الكازينو، فتجد الأستاذ مرتضى الخطاط يجلس ساهماً شارداً كأنه في غمرة من ذكر صاحبه
ويستبد بصدر الكازينو طائفة من شباب الأدب وفتيان العصر الذين أصيبوا بدائه وانطبعوا على غراره، وما داؤهم إلا كما وصف ألفرد ده موسيه في اعترافاته، فهم ينطلقون على سجيتهم، ويستقبلون الحياة بروح يقظة طليقة متمردة على كل القوانين والحواجز، وبهذه الروح الحرة يشدون الأدب، وينظمون الشعر، ويأخذون في النقد، وإنهم لفي ثورة دائمة على الأدباء في مصر وفي الأقطار العربية، ولقد ينقلبون بالثورة على أنفسهم، كالنار تأكل نفسها إذا لم تجد ما تأكله، ولكنهم يخلصون من هذا كله بالمرح والضحك والمزاح الصريح
تجد في هذه الحلقة من الشباب، شاعر الفنون والإذاعة أحمد فتحي، وشاعر البؤس والشقاء المهدي مصطفى، والشاعر البوهيمي طاهر أبو فاشا، والشاعر النحوي الفقيه حسن جاد وشاعر البيت الأباظي أحمد عبد المجيد الغزالي، والشاعر المقل أحمد مخيمر والأستاذ أحمد حمدي المحرر بالبلاغ والشيخ طه أفندي حراز محرر مجلتي الراديو والبعكوكه، والرفيقان عبد العليم عيسى والسعيد علوش؛ يجلس هؤلاء في حشد من إخوانهم وإضرابهم من طلاب كلية اللغة العربية والجامعة ودار العلوم، فينفض كل منهم ما في جعبته، ويتقدم بآخر ما أحدث في الأدب والشعر، وما من يوم يمضي إلا ولهم حدث في الأدب والشعر. . .
يعجبني في هؤلاء الفتيان ذوق دقيق، وتقدير صحيح، ونظر صائب في الحكم على الآثار الأدبية، ووضع الأشخاص في مراتبهم اللائقة بهم، فلا يجوز عليهم الزيف، ولا تخدعهم الألقاب، ولا تغرهم الأسماء، بل إنهم لينظرون، ويتدبرون، فكثير من أعلام الأدب في مصر ليسوا في رأيهم بشيء، ولكل فيما يحاول مذهب!
لهم شغف بالاطلاع، فما يخرج كتاب من المطبعة حتى يكون في أيديهم، يقرءونه ويقدرون له قيمته، وما أعرف بحثاً أو قصيداً نشر في صحيفة أو مجلة قد فاتهم الاطلاع عليه، والنظر فيه، فإذا لم يعجبهم كان بينهم مادة للهزء والضحك والمعارضة بالمثل!
ولهم غرام بترتيب القالب، ولكنها المقالب الأدبية، كأن ينحلوا واحداً منهم قصيدة على صفحات الجرائد، أو يسرقوا أشعار بعضهم المطوية ثم ينشرونها بأسماء غير معروفة، أو يوقعوا بين أديب وأديب فينشروا لأحدهما نقداً صارماً للآخر، ولهم في أبريل كثير من الأكاذيب، ولكنها من الكذب الأدبي المقبول. ولقد كان كذبهم في هذا العام من النوع الطريف العجيب، علموا بأن فلانا الأديب قد أهدى إليه الشاعر إلياس أبو شبكة نسخة من ديوانه، وما رأى أحدهما الآخر قط، فراح هذا الأديب يفضل أبا شبكة على سائر الشعراء، فتخيروا واحداً منهم يجيد حكاية اللغة السورية، واتصلوا بذلك الأديب في بيته، وأخبروه بأن أبا شبكة قد حضر إلى مصر، وأنه يرغب في زيارته فحدد لهم الموعد على لهفة، وذهبوا إليه وكان ما كان من الإجلال والإكبار والاحترام، وخرج القوم على موعد بالغداء في يوم آخر. . . ولكنهم وقفوا في المسخرة عند هذا الحد
حتى أساليبهم في الدعابة إنما هي أساليب أدبية، كأن يقيموا لواحد منهم حفلة هجاء، أو حفلة رثاء. وآخر ما حضرت لهم من ذلك (حفلة تكريم من غير مناسبة) للشاعر المهدي مصطفى. وقد اشترك فيها جميع إخوانه وأصدقائه، وقام بتقديم الخطباء والشعراء الأديب الشاعر سيد قطب، وقد استطاعوا أن يوفوا صاحبهم حقه من التكريم، أقل من التهليس. وقام هو أيضاً يرد صنيعهم بمطولة يقول فيها على طريقتهم:
يا قلب كالقبقاب حيرك الجما ... ل فتارة تدعى وأخرى تزجر
صبحاً برجل فهيمة، وعشية ... في رجل سلمى والزمان تجرجر
إلى أن يقول لأصحابه: أو مكرميَّ؟ فشرتموا! الله يك ... رمني ويعرف قيمتي ويقدر
ليست قصائدكم بمغنية الأدي ... ب عن الفلوس إذا الجيوب تصفر
فتعلموا صوغ القروش فإنها ... تذر الكفيف مفتحا فتصوروا
لقد كان ابن أبي ربيعة قائماً بالحجر يصلي بعد أن نسك، فمر به فتيان جميلان، فلما فرغ من صلاته أدركهما ثم قال لهما: يا ابني أخي، لقد كنت موكلاً بالجمال أتبعه؛ وقد رأيتكما فراقني جمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.
فيا إخواني في باب الخلق: إن البقاء في هذه الدنيا قليل، والدهر يعدل تارة ويميل. فخذوا طريقكم، وامضوا في سبيلكم، واستمتعوا بشبابكم قبل أن تندموا علية.
(م. ف. ع)