مجلة الرسالة/العدد 304/المرأة في حياة الأديب

مجلة الرسالة/العدد 304/المرأة في حياة الأديب

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1939



(على ذكر مقال للأستاذ توفيق الحكيم)

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كتب الأستاذ توفيق الحكيم مقالاً في مجلة الثقافة عن المرأة في حياة الأدباء، أو لا أدري ماذا كان العنوان على وجه الدقة فقد غاب عني عدد الثقافة تحت أكداس من الورق والكتب والمجلات. وفي هذا المقال يذكر (أو يقرر) أن كل أديب أو كل عظيم لا بد أن تكون في حياته امرأة؛ وهو يعنى بالمرأة (على ما يؤخذ من ظاهر المقال إلا إذا كان له معنى أعمق خفي علي) امرأة معشوقة، أي امرأة تكون علاقة الرجل بها جنسية، شرعية كانت أو غير شرعية. وقد ذكر من أبناء الشرق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام، ثم طوى كل هذه القرون التي مضت ووثب إلى الدكتور طه حسين ثم إلى الأستاذ أحمد أمين ثم إلى الأستاذ العقاد، وعين المرأة التي يراها في حياة كل منهم؛ ثم قال عني إن (الكذب) هبتي (يعني الخيال والاختراع وإن كان التعبير (بالكذب) غير موفق) وقال إن الخيال يختلط بالحقيقة في كتابتي حتى ليتعذر الاهتداء إلى المرأة التي كان لها تأثير في حياتي، ولكنه أعرب عن يقينه أن في حياتي امرأة (ما في هذا ريب عنده). وقد اغتنمت فرصة كتاب جديد له (راقصة المعبد) تفضل فأهدى إلى نسخة منه فكتبت إليه كلمة وجيزة في الموضوع على سبيل التصحيح؛ ولكني أرى هنا أن أتناول الموضوع من ناحية أعم

وأنا أولاً لا أرتاح إلى هذا التناول لحيوات الناس الخاصة. وليس كونهم أدباء أو مشهورين لسبب ما، بمجيز في رأيي أن نجعل من حياتهم الخاصة وأحوالهم الشخصية (معرضاً)؛ وهذا عندي فضول أكرهه وأقل ما فيه أنه يُفقد المرء حريته واستقلاله. وإذا كنت أروى كثيراً مما أكتب على لساني وأورده بضمير المتكلم فليس معنى هذا أن ما أرويه وقع لي وإنما معناه أني أرتاح إلى هذا الأسلوب في القصة وأراه أعون لي على تمثّل ما أحاول وصفه وتصويره. فليس فيما أروي شيء شخصي، وكثيراً ما نبهت إلى هذا، ولكني أهمله أحيانا اعتماداً على فطنة القارئ

ثم إني ثانياً لا أرى الأستاذ توفيق الحكيم موفقاً في رأيه، فليس ضروري أن يكون للرجل امرأة في حياته أو للمرأة رجل في حياتها، أي أن تكون هذه المرأة المعينة هي التي وجهت حياته وجهتها وأثرت فيها تأثيراً جعلها كما هي. والقول بذلك لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون مظهر تقليد لبعض ما يكتبه الغربيون. وقد ذكر الأستاذ توفيق السيدة خديجة ونبينا عليه الصلاة والسلام على سبيل التمثيل، واراه في هذا المثال مبالغاً فما تزوج النبي السيدة خديجة لأنه عشقها، بل الذي حدث هو أنه عمل لها في مالها وتجارتها فأعجبت بأمانته وسرها حسن سيرته واستقامته فرغبت هي أن يكون زوجها. وجاءه رسول يدعوه إلى ذلك أو يقترحه عليه وكان هو يعرف لها فضائلها فقبل. وكانت له نعم الزوجة الحكيمة الوفية الرزينة المخلصة. ولكنه ليس هناك عشق بالمعنى المعهود، ولا يمكن أن يقال إنها وجهته أو أثرت في حياته التأثير الذي يقصده الأستاذ توفيق حين يذكر المرأة في حياة الرجل، وإن كان غير منكور أنها كانت إلى حد عامل استقرارٍ وأمن وراحة في حياة النبي. وقد سألت الأستاذ توفيق في كتابي الخاص إليه عن المرأة المعينة في الحياة المتنبي أو أبي العلاء أو الشريف الرضي؛ ولا بأس من سؤاله أيضا عن هذه المرأة المعينة في حياة أبي نواس وبشار ومن إليهما. كلا. ليس من الضروري أن تكون في حياة الأديب امرأة معينة بالمعنى الجنسي وإن كانت حياة الرجل لا يمكن أن تخلو من المرأة على العموم. وفرق بين الأمرين. على أن كل شيء في الحياة ليس عند الأديب أكثر من (مادة) وإن كان الأمر في بعض الأحيان يبدو غير ذلك عند النظر السطحي أو السريع

وقد جعل الأستاذ توفيق مزيتي أو هبتي (الكذب) وأنا أشكر له أن رأى لي مزية أو هبة، ولو كانت (الكذب)؛ وإذا كنت أخلط الخيال بالحقيقة فإني أحسب أن هذا لا مفر منه، ولا أدب إلا به. وما أظن الأستاذ توفيق نفسه يفعل غير ذلك أو يشذ عنا معشر الأدباء (الكذابين) فما كان الأديب قط ولن يكون عدسة آلة تصوير. وإذا كان الأستاذ توفيق يظن أن الأستاذ العقاد لم يفعل في رواية (سارة) أكثر من أن يروي حادثة كما وقعت فإنه يكون قد ركب من الوهم شرَّ الحُمُر؛ فإن مزية (سارة) الغوص في لجة النفس لا الحكاية بمجردها، والكشف عن أخفى خفاياها، والتحليل الدقيق للخواطر والخوالج الخ. ولا قيمة لكون القصة حقيقية أو غير حقيقية وإلا هبطنا بالأدب إلى الإعلانات التي يقول فيها أصحابها إن القصص التي ينشرونها في مجلاتهم وقعت فعلاً

وليس ما يمنع أن تكون في حياة الأديب أو سواه (امرأة) معينة، ولكنه ليس من الحتم أن تكون هذه المرأة المعينة زوجة أو خليلة، أي معشوقة على العموم، ولا أن تكون العلاقة بها علاقة جنسية فقد تكون أمًّا أو أختاً أو صديقة أو بنتاً. وقد كانت في حياتي امرأة دللتُ الأستاذ توفيق عليها في رسالتي إليه وهي أمي، فقد كانت أمي وأبي وصديقتي، وليس هذا لأنه لم يكن لي أب، فقد كان لي أب كغيري من الناس، ولكنه آثر أن يموت في حداثتي، فصارت أمي هي الأب والأم، ثم صارت على الأيام الصديق والروح الملهم. وقد استنفدت أمي عاطفتَيْ الحب والإحلال، فلم تُبق لي حباً أستطيع أن أفيضه على إنسان آخر، أو إجلالاً لسواها. ومثلي في ذلك كمثل من يمص عوداً من القصب ويعتصر كل مائه، فلا يبقى من العود بعد ذلك إلا الحطب الذي لا يصلح إلا للوقود. ومن هنا عجزي عن الحب بالمعنى الشائع. نعم أستطيع أن أصادق واصفوا بالود، ولكن العشق على مثال مجنون ليلى أو كما يصفه لنا الشعراء حال لا قبل لي بها ولا طاقة لي عليها لأن ذخيرتي من هذه العاطفة نفدت وليس في وسع نفسي أن تبذل هذا المجهود مرة أخرى

ومع ذلك أقول إني أرى في عاطفتي لأمي غير قليل من جهد الخيال وإرادة النفس، وهي في الأصل ولا شك عاطفة صادقة قوية ولكنه يخيل إليَّ أني غذيتها وقويتها بالإيحاء المستمر إلى النفس، لأني كالخروف دائم الاجترار لما في جوفي. واحسب أن العاطفة قد راقتني وفتنتني إلى حد ما، أو أني وجدت فيها ريًّا لنفسي أنشده فأخطئه، فتعلقت بها وضخمت أمرها، وقويتها بالدؤوب في الإيحاء كما تقوى النار بالحطب حتى استغرقت نفسي كلها وعمرت صدري أجمعه وما أظن إلا أن هذا سبيل كل إنسان فإنه لا يفتأ يقوي عواطفه المختلفة من حب وبغض الخ بالإيحاء وإن كان هو لا يشعر بذلك ولا يفطن إليه

فإذا كان لابد من امرأة في حياة الأديب فهذه امرأة، أفلا تكفي الأستاذ الحكيم؟. ولست بعد هذا (عدواً للمرأة) كالأستاذ توفيق إذا صح هذا عنه، ولم يكن أكثر من إعلان على الطريقة الأمريكية - معذرة يا صاحبي - وأنا أنشدها أبداً ولا أرى الحياة تطيب، أو يكون لها معنى إلا بها، ولكني لا أطمعها في الحب المستغرق الآخذ بالكلْيَتين، لأنه لا قدرة لي على ذلك، ولأني أشد اعتزازاً بحريتي وحرصاً على استقلال شخصيتي من أن أسمح بأن تتسرب نفسي في نفس أخرى أو تفنى فيها أو تجعلها محور وجودها. ولكل امرئ منا طباعه وفطرته، وأنا في طباعي هذا التمرد الساكن الذي ليس فيه ضجة، وتغليق الأبواب التي تجيء منها الريح لأستريح. ثم أنه لا يعنيني أن تكون في حياتي امرأة أو سواها لأكون أديباً على ما يحب الأستاذ توفيق، وأنا قانع بنفسي، جداً. ولست بعد ذلك بأديب وإنما أنا رجل صناعته القلم، وقد قلت مرات - وأكرر الآن - إني كالنجار الذي فتح دكانا وعرض فيه بضاعة له مما صنع فذاك رزقه يكسبه بهذه الوسيلة، وكهذا النجار تجد عندي الخشب الجيد المتين، والصنعة الدقيقة والخشب الأبيض والقشرة والصقل المغني عن النفاسة حسب الطلب وتبعاً لحالة السوق ومبلغ استعداد الزباين للبذل. فضعني بالله حيث أضع نفسي واكفني شر الفلسفات، وإليك التحية وعليك السلام.

إبراهيم عبد القادر المازني