مجلة الرسالة/العدد 305/المسرح والسينما

مجلة الرسالة/العدد 305/المسرح والسينما

مجلة الرسالة - العدد 305
المسرح والسينما
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939



قبل وداع الفرقة القومية

المال والبنون

حديثنا اليوم عن رواية (المال والبنون) وهي واحدة من الروايات التي فاز مؤلفها بجائزة في المباراة التي أقامتها الفرقة، وعن حظ هذا المؤلف، وقد مثلت له الفرقة في هذا الموسم أيضاً رواية أخرى اسمها طبيب المعجزات

الكلام عن الروايتين لازم واجب، أما الحديث عن الحظ فقد يجرنا إلى التساؤل، وإلى الحدس والتخمين، وإلى نقل ما يقوله الأدباء في مجالسهم عن الحظ والمحظوظين، وعن الوسائل التي توصل الأديب المغمور إلى الحصول على كلمة السر التي تجعل منكود الطالع سعيداً وإن كان جبل في الأصل من طينة فيها جميع خصائص الشقاء وعناصر التعاسة. ولذلك سنضرب صفحاً عنه لأن غايتنا من نقد الفرقة كما قلنا هي تقويم اعوجاجها وذلك أمر مستطاع لا شك فيه. وإن رجال الفرقة في زعمنا مهما تصاموا عن سماع كلامنا، وتغاضوا عن نقدنا، وأسرفوا في تأويل البواعث على متابعة الكتابة في إظهار العيوب التي أوصلت الفرقة إلى المنحدر الخطر، ومهما حاولوا المكابرة في احتمال سهام الحقيقة الجارحة فإنهم ولا بد راجعون إلى أقوالنا وإلى نصائحنا، وإن الغفوة التي تثقل أجفانهم سيعقبها ولا شك يقظة وانتباه. ورب دغدغة أو وخزه تنجي من خطر محقق، وسيان أكان المدغدغ أو الواخز حبيباً أو عدواً، فضلاً عن الناقد الذي لا يعرف الحب والبغض في الأدب والفن

لن نتكلم إذن عن حظ المؤلف بل نقصر كلامنا على الروايتين، فالرواية الأولى (طبيب المعجزات) لم تتحدث الصحف عنها بخير ولا شر، والإهمال أقصى عقوبة يجازي بها المؤلف الفاشل. وقد انفردنا بتلخيصها للقراء ولم نشأ أن نعلق عليها مخافة أن نرمي بحب الهدم الذي يضعضع الناشئين أمثال مؤلفها الشاب، ولكيلا يقال إننا نتخذ أمثلة عليا من أدب المسرح الغربي نقيس بها أعمالنا وما برحنا في دور التكوين بعد. وسألخص رواية المال والبنون) أيضاً فأضعها نصب عين القارئ، وليسأل هو عن الباعث على تمثيل روايتين هزيلتين في موسم واحد لمؤلف واحد؟ والرواية حكاية شاب طبيب يدعو الناس بحرارة إلى اعتناق مبادئه التي يؤمن بها، وهي تتلخص في أن البنين آفة الزواج، وأن كثرة الأولاد مسغبة وفقر، وأن منع الحمل يساعد على الزواج المبكر، وأن تربية النسل متعة يجب أن تقتصر على الأغنياء، وأن تكرار الولادة خطر على صحة الأم، وأن لابد من تنظيم الحمل، ومن إيجاد مركز لرعاية الطفل، ومن فرض ضريبة على العزاب

وهذا الطبيب صاحب هذه (التشكيلة) من المبادئ له أنصار من الفتيات اللواتي يستمعن إلى القائل لا إلى ما يقول، وله معارضون ممن تعلموا في مدرسة الزمن أن مثل أقواله هراء في هراء، والطبيب هذا يحب ابنة عمه ويرغب في الزواج منها؛ غير أن والدها يمانع في هذا الزواج ويصرح باستحالته للطبيب، وقد حضر ليطلب يدها من والدها، لأنه قد اتفق مع عمه على تزويجه بابنته، والفتاة تصغي إلى نصيحة أبيها ولا تلتفت إلى عواطف الشباب ونزواته وتقبل أن تتزوج من عم الدكتور وترفض الدكتور نفسه وتجابهه بهذا الرفض

وإذ يسمع الطبيب بانصياع الفتاة لأقوال أبيها ورضاها بالزواج من عمه الهرم يهرب من المدينة ويذهب إلى إنجلترا في بعثة يعود منها بعد خمس سنوات فيجد أن عمه قد مات وأن زوجة عمه رزقت غلاماً منه قد ورث كل ما تركه

استيقظ الحب الهائج في نفسه فعاد يطلب الزواج من أرملة عمه على الرغم أن لها ولداً، ولما تزوج منها أحب ولدها وصار يتمنى أن يكون له ولد من صلبه

كاشف زوجته بالأمر فناقشته في آرائه ومبادئه فأعلن تنازله عنها، واقتادها إلى طبيب أخصائي قال إن زوجته عقيم لا تلد قامت قيامة الطبيب يسائل من أين جاءت زوجته بابن عمه وهي عقيم، وثارت ثورته عليها فيلعنها ويصارحها بأنها امرأة عقيم مرذولة وأنها رضيت بالزواج من عمه لتستولي على ماله وتحرمه إياه. ويظهر أخيراً أن الولد الذي يقال إنه ابن عمه إنما هو ابنه قد استولده من فتاة خادمة أغواها وقد جاءت به جدته إلى هذه العائلة لترعاه، أما أمه فقد ماتت بعد الولادة

لقد أسميت مبادئ الدكتور بطل الرواية (تشكيلة) وقد افتن المؤلف حقاً في جعل وقائع الرواية تشكيلة تشبه (ألبوم) طوابع البريد فيه مجاميع مرتبة، هذه للدولة الفلانية، وتلك للجمهورية العلانية؛ أما قيمة الألبوم فلا يقدرها إلا المهووسون العاطلون الذين ليس للوقت عندهم قيمة

أنا لا أقول إن تقدير رجال الفرقة القومية لهذه الرواية ولأختها التي صنفها المؤلف ومثلتهما الفرقة في موسم واحد هو من نوع تقدير الهاوين لمجاميع طوابع البريد؛ ولكني أسأل هل الإفلاس حفزهم إلى تمثيل روايتين ضعيفتين عرضاً وموضوعاً، أنهم قدروا في مؤلفهما نبوغاً قصرت مداركنا المتواضعة عن فهمه؟

تدل المسارح القومية الناس في فرنسا وفي غيرها على تطوير الروح القومي، وعلى معيار فهمه للحياة، فهل مسرحنا القومي بمديره اللوذعي، ورجال لجنة القراءة، وأبطال التأليف، وما مثلته الفرقة خلال أربع سنوات يدل من قريب أو بعيد على تطور الروح القومي المصري، وعلى معيار فهمه للحياة؟

اللهم كلا!

من المفهوم (أن حياة الأب إن لم تتصل بنفس الأديب وروحه، وإن لم يظهر وحيها في آثار حياته كان الأدب فاتراً ضعيفاً. وهذا عين ما لمسناه من فتور وضعف في روايتي المال والبنون وطبيب المعجزات اللتين طاب للفرقة القومية أن تتحف الناس بهما في موسم واحد

ومن المعروف أيضاً عند الأدباء أن خير ما يكفل وضوح ذاتية الأديب في أدبه أن يتصل ما يكتب بقلبه وعقله وكل حياته، وليس ذلك بمستطاع إلا حينما نصف حياتنا وحياة آبائنا والبيئة التي أنبتتنا، والوراثة الكامنة فينا، فنصل بذلك حاضرنا بماضينا، ونصور حياتنا، وحياة قومنا ووطننا، وكل ما توحي هذه الحياة للعقل، والقلب، والحس، والشعور. فهل في هاتين الروايتين الموضوعتين ما يلمس هذه القواعد المعروفة عند كتاب الرواية؟

المفروض أن الرواية إنما تصور الحياة تصويراً صادقاً تمليه العاطفة، ويحلله العلم، ولكن مؤلف رواية المال والبنون إنما ترك الحوادث للمصادفات، ولم يلتفت ألبته إلى تحليل هذه الحوادث ومراقبتها، وتقدير احتمالاتها، واستشعار المستهجن فيها والنابي عن الذوق، والمتنافر مع الواقع، والبعيد عن الحياة المصرية وبيئتها

لم يبق مما تمثله الفرقة في موسمها الحالي سوى رواية واحدة. وأرى لزاماً علي، خدمة للفرقة التي يحرص على بقائها كل أديب يتمنى الخير لأمته ويفاخر بنهضة هذه الأمة الفتية، أن أواصل النصح في إظهار العيوب التي رآها الناس رأى العين وشعروا بها بارزة في أعمال هذه الفرقة التي أسموها قومية، فإن أفلحت في إيقاظ ما هجع من هم رجالنا فذلك حسبي، وإن لم أفلح فسأدأب حتى تفوز الفرقة القومية بالنجاح والظفر والمجد

ابن عساكر