مجلة الرسالة/العدد 306/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 306/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
أما عن ذهاب الجيش على تلك الصورة إلى عابدين فالمسئول عنه الخديو ووزراؤه، فلقد كانوا يعلمون ما في صفوف الجيش من تذمر وهياج ثم كانوا يعلمون مع ذلك مبلغ مقدرتهم على المقاومة فبدل أن يطفئوا النار زادوها بأساليبهم اشتعالاً، هذا فضلاً عن ذلك الموقف المزدوج الذي وقفه الخديو تجاه الضباط وتجاه الوزارة ولقد كان القصر أمام الجيش خلواً من أية قوة. فروعيت حرمته أحسن مراعاة؛ وروعي كذلك مقام الخديو، فلم يخرج أمامه ذلك الجندي الثائر عن طوره، بل تمالك نفسه فترجل وأدى التحية لمولاه. ثم ذهب فأعرب له عن ولائه، وشكره حينما أجيب إلى ما طلب باسم الأمة. . . ألا إنا لتعجب بذلك ونفخر به إذ نكتبه، وما نجد من الأدلة التي نسوقها على رجولة عرابي وشهامته وبعده عما رميه به خصومه أقوى من هذا الذي نشير إليه.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كان يدبر في خبث من الدسائس في ذلك الموقف الرهيب، وذكرت كيف أحبطها عرابي بمزيج من البسالة والصبر يدعو إلى الإعجاب، ازددت لا ريب إكباراً لموقفه في ذلك اليوم. ولقد كانت أية كلمة نابية أو أية إشارة يساء فهمها كفيلة بأن تسيل الدماء في تلك الساحة. قال عرابي: (لو حاول الخديو قتلي لأطلقت النار عليه).
ولن يفوتنا أن نذكر أن عرابياً قبل ذلك كله قد اتصل بقناصل الدولة، وأفهمهم قبل أن يتحرك نحو عابدين أنه يقصد بعمله هذا مظاهرة سليمة، وأكد لهم بالغ حرصه على الأمن.
كما أنه كتب إلى الخديو قبل أن يذهب. فكان بذلك كله حكيماً موفقاً لا يدع مسلكه غميزة، أو يهيئ سبباً لملامة. . .
نجحت حركة عرابي إذاً أتم نجاح وأجمله وتهيأت البلاد لأن تستقبل عهداً يسود فيه الإصلاح والنظام؛ فلقد كان قبول الخديو مطالب عرابي التي أشرنا إليها ينطوي على معنى عظيم ألا وهو مرافقة حاكم البلاد على التخلص من الحكم الاستبدادي الرجعي، والعودة إلى حكم الحرية الدستورية الذي سبق أن وافق عليه يوم تبوأ عرشه ثم عاد فتنكر له حين اطمأن في مصر إلى كرسيه.
وقد عارض شريف باشا أول الأمر في قبول الوزارة، وكانت حجته في ذلك أنه بقبوله الحكم دون قيد ولا شرط إنما يضع نفسه تحت سلطة الحزب العسكري، الأمر الذي لا يستطيع أن يحمل نفسه على قبوله؛ ولذلك دارت بينه وبين رجال هذا الحزب مفاوضات استمرت بضعة أيام تحرجت الأمور فيها حتى أوشك أن يتنحى شريف عن قبول الوزارة نهائياً.
ولكن لاحت بوارق الأمل عقب ذلك، وكم كان جميلاً أن تلوح من جانب ذاك الذي لا يزال نفر من المصريين حتى وقتنا هذا يرمونه بالفوضى ويعودون بأسباب ما لحق مصر من ويلات إليه، فيقيمون الدليل بذلك على أنفسهم أنهم إما ذووا أغراض أو أولو جهل معيب بحقائق الأمور.
كان جميلاً أن يبرق الأمل من جانب عرابي، فلقد دعا يومئذ أعضاء مجلس شورى النواب المعطل وعرض القضية عليهم وكان على رأسهم سلطان باشا ذلك الذي كان يعتبر في تلك الأيام من أكبر زعماء الحركة الوطنية.
وذهب إلى شريف وفد من هؤلاء يرجون منه قبول الحكم، فعرفوا منه انه يشترط ألا يتدخل الجند في شيء، ويريد أن يرحل عرابي وعبد العال بفرقتيهما إلى مكانين يختاران لهما، وأن يترك قبل ذلك حراً في اختيار وزرائه لأن عرابي كان يطلب إليه إعادة البارودي وإدخال مصطفى باشا فهمي في الوزارة، وكان شريف يرفض ذلك لأنهما لم يثبتا على عهدهما فدخلا وزارة رياض عقب إقالة وزارته.
وتعهد هؤلاء الزعماء برياسة سلطان أنهم يضمنون لشريف خضوع الحزب العسكري، وكان بين هؤلاء من ذوي المنزلة في البلاد سليمان أباظة والشريعي والمنشاوي والمويلحي والشمسي والوكيل، وهم أهل جاه وسلطان يعرف شريف قيمة انضمامهم إليه.
وذهب عرابي بنفسه إلى شريف، قال عرابي: (وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة فأصر على الرفض فقلت له: (إن لم تؤلف الوازرة اليوم فسنطلب غيرك ولا تظن أن ليس بالبلاد سواك فيها بعون الله العلماء والحكماء ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. . . فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جواباً ثم خرجنا من عنده وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته) وقال إن الباشا قبل ما عرضته عليه).
وألف شريف وزارته الثالثة وكانت هذه أولى ثمار الثورة، وقد قبل الوزيرين اللذين أشار بهما عرابي، كما قبل ما رجا منه قبوله رجال العسكرية وهو النظر في القوانين الخاصة بالجيش وذلك في نظير أن يخضعوا لحكمه ويبتعدوا عن كل تدخل.
وراحت مصر تستقبل في تاريخها فترة من أسعد الفترات فلقد نالت أمانيها دون أن تراق نقطة دم، وخرجت سالمة آمنة من ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب أهم الثورات التي قصد بها الحرية في تاريخ الإنسانية؛ ثورة جديرة بأن توضع إلى جانب ثورة سنة 168 في إنجلترا وإلى جانب الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية الكبرى؛ ولولا ما كتبه المغرضون المبطلون من الأجانب عنها، وما ضربه الاحتلال على الآذان والقلوب فحال بين المصريين وبين تاريخ قوميتهم الحقيقي لكان لتاريخ هذه الثورة شأن غير هذا الشأن في هذا البلد المسكين.
ولقد كان المستر بلنت في مصر يومئذ فوصف تلك الأيام السعيدة بقوله: (إن ثلاثة الشهور التي أعقبت هذا الحادث لهي من الوجهة السياسية أسعد الأيام التي شهدتها مصر، ولقد أسعدني الحظ بمشاهدة ما جرى فيها بعيني رأسي فلم أتلق معلوماتي عنها بطريق السماع ولو كان ذلك لشككت في حقيقتها. إني لم أر في حياتي ما يشبه هذه الحوادث وأخشى ألا أرى مثلها في المستقبل إن كل الأحزاب الوطنية وكل أهالي القاهرة قد اتفقت كلمتهم هنيهة من الزمن على تحقيق هذه الغاية الوطنية الكبرى، لا فرق في ذلك كما يظهر بين الخديو والأمة، وسرت في مصر رنة فرح لم يسمع بمثلها على ضفاف النيل منذ قرون فكان الناس في شوارع القاهرة حتى الغرباء منهم يستوقف بعضهم البعض يتعانقون وهم جذلون مستبشرون بعهد الحرية العظيم الذي طلع عليهم على حين غفلة طلوع الفجر إثر ليلة مخيفة حالكة الظلام).
تقدم زعماء والعلماء إلى شريف بالعرائض يطلبون إعادة تشكيل مجلس شورى النواب؛ وما كان شريف في حاجة إلى مثل هذا الطلب إذ كان في مقدمة ما ينتويه تقرير مبدأ الشورى وتثبيت قواعد الدستور وليست هذه أولى محاولاته في هذا السبيل.
ودعا وزير الحربية عرابياً، فأفهمه رغبة الحكومة أن يسافر بفرقته إلى رأس الوادي، وأن يسافر عبد العال إلى دمياط. فقبل عرابي ذلك، ولكنه اشترط أن يصدر أمر الخديو بانتخاب النواب قبل السفر، ولا ريب أن هذا الشرط من جانب عرابي خروج منه على ما أخذه على نفسه من عدم التدخل في شؤون الحكومة؛ وهي نقطة لا يسعنا إلا أن نحسبها عليه. بل ونلومه عليها مهما كان ما ينطوي عليه طلبه من خير للبلاد، ومهما كان في هذا الطلب من معاني حرصه على الدستور والحياة النيابية، وبخاصة إذا كان على رأس الحكومة رجل مثل شريف.
أما عن امتثاله لأمر الحكومة بقبول السفر، فهو أمر في ذاته - على الرغم ما أحيط به من اشتراط - يعد من محامد عرابي. إذ يدل على مرونة وكياسة ورغبة في التفاهم شتان بينها وبين ما يعزوه إليه خصومه وجاهلوه من الحماقة والنزق والعنف في كل ما يطوف بهم من سيرته. كما أنه يقدم بطاعته هذه دليلاً آخر على حسن طويته ونبالة غرضه فيما سعى إليه.
وفي اليوم الراب من أكتوبر سنة 1881 رفع شريف إلى الخديو مذكرة يلتمس فيها موافقته على دعوة مجلس شورى النواب، ولم يكن للخديو من إجابة رئيس وزرائه إلى ما طلب وما كان أغنى توفيقاً عن أن يعطل هذا المجلس لو أنه كان يحسن النظر في عواقب الأمور. إن البلاد اليوم لتحس أنها تصل إلى بغيها نيلا لا سؤالاً، ولسوف يكون لهذا الإحساس أثره فيما هي مقبلة عليه من الحوادث.
وخرج عرابي في اليوم الثامن من ذلك الشهر يقصد السفر بفرقته إلى رأس الوادي، وكان قد سبقه إلى السفر إلى دمياط عبد العال. وسار عرابي بطريق الحسينية حتى وصل إلى مسجد الحسين رضى الله عنه. (فوقف الآلاي مقابلاً للمسجد تعظيماً وإجلالاً لسبط الرسول علي الصلاة والسلام)؛ ودخل عرابي المقام الحسيني مع الضباط: (وأمر بيرق الآلاي على الضريح الشرف). ثم سار بعد ذلك نحو المحيطة. فما كاد يتوسط المدينة حتى ألفى الشوارع مكتظة بالناس، وإنهم ليهتفون باسمه في حماسة ويحيونه تحية الزعيم المنقذ، ويلقون في طريقه الزهر والرياحين.
وفي المحطة وجد عرابي جميع ضباط الجيش المصري وجمهوراً من الأعيان وذوي الحيثية وعدداً هائلاً من عامة الناس فاحتفوا بمقدمه، وكانت توزع الحلوى وتنثر الزهور في فناء المحطة؛ وكان يتسابق الخطباء والشعراء في تمجيد ذلك جرى اسمه على كل لسان في مصر؛ ووقف عرابي في هذا الجمع خطيباً فقال: (سادتي وإخواني: بكم ولكم قمنا وطلبنا حرية البلاد وقطعنا غرس الاستبداد، ولا ننثنى عن عزمنا حتى تحيا البلاد وأهلها، وما قصدنا بشعبنا إفسادً ولا تدميراً، ولكن لما رأينا أننا بتنا في إذلال واستبعاد ولا يتمتع في بلادنا إلا الغرباء حركتنا الغيرة الوطنية والحمية العربية إلى حفظ البلاد وتحريرها والمطالبة بحقوق الأمة، وقد ساعدتنا العناية الإلهية ومنحنا مولانا وأميرنا الخديو ما طلبناه من سقوط وزارة المستبد علينا السائر بنا في غير طريق الوطنية، وتمتعنا بمجلس الشورى لتنظر الأمة في شؤونها وتعرف حقوقها كباقي الأمم المتمدنة في العالم، ومن قرأ التواريخ يعلم أن الدول الأوربية ما تحصلت على الحرية إلا بالتهور وإراقة الدماء وهتك الأعراض وتدمير البلاد، ونحن اكتسبناها في ساعة واحدة من غير أن نريق قطرة دم أو نخيف قلباً أو نضيع حقاً أو نخدش شرفاً، وما أوصلنا إلى هذه الدرجة القصوى إلا الاتحاد والتضافر على حفظ شرف البلاد). وهتف عرابي بحياة الخديو واهب الحرية، وحياة الجيش، وحياة الحرية، ثم امتدح الوازرة ورئيسها ووصف البارودي بقوله: (رئيسنا الوطني الحر القائم بخدمة الوطن وأهله). وحذر إخوانه في الجهادية من الوشاة والحساد، وحثهم على الاتحاد قائلا: (البلاد محتاجة إلينا وأمامنا عقبات يجب أن نقطعها بالحزم والثبات وإلا ضاعت مبادئنا ووقعنا في شرك الاستبداد بعد التخلص منه). ولنا في هذه الفقرة الأخيرة في خطبته عودة كما أن لنا عودة إلى فقرة غيرها نكتفي الآن بالإشارة إليها وهي قوله: (وقد فتحنا باب الحرية في الشرق ليقتدي بنا من يطلبها من إخواننا الشرقيين على شرط أن يلزم الهدوء والسكينة ويجانب حدوث ما يكدر صفو الراحة).
واستقبل عرابي بحفاوة كبيرة في المحطات التي وقف بها القطار كما حدث في الزقازيق حيث كان على رأس مستقبليه فيها أمين بك الشمسي ووقف عرابي يخطب الناس هناك فكان مما قاله (أما القوة فنحن رجالها، ولا ننثني عن عزمنا في الجسم نفس، وأما الفكر فهو منوط بأميرنا الأعظم ووزرائه الكرام. وأما العمل فهو منوط بكم فإن القوة والفكر يعطلان بفقد ثروة تربتنا الطيبة المباركة، وقد طلبنا لكم مجلس الشورى لتكون الأمور منوطة بأهلها، والحقوق محفوظة لذويها).
وقال عرابي في خطبة أخرى بالزقازيق (وأنتم الآن مهيئون للانتخاب فلا تميلكم الأهواء والأغراض لانتخاب ذوي الغايات بل عولوا على الأذكياء والنبهاء الذين يعرفون حقوقكم ويرفعون المظالم عنكم) ولم يسه في هذه الخطبة عن امتداح الخديو ووزرائه وهتف في ختامها قائلاً (يعيش الجناب الخديو).
وفي الزقازيق دعى لوضع أساس المدرسة الأميرية فذهب ووضع الحجر الأساسي باسم الخديو قال (وتلوت على الحاضرين خطبة ذكرت لهم فيها فوائد التعليم ومنافعه وفضل العالم على الجاهل والبصير على الأعمى، وحرضتهم على الاهتمام بأمر تعليم أولادهم ليكونوا مستعدين لخدمة بلادهم في المستقبل).
ثم سافر عرابي إلى رأس الوادي بعد أن أولمت له عدة ولائم في دور بعض وجوه مديرية الشرقية مسقط رأسه، وليس يخفى ما ينطوي عليه من معان تكريم هذا الفلاح الذي نشأ في بيت متواضع، على أيدي هؤلاء السادة والكبراء؛ ففي ذلك أول مظاهر الديموقراطية الوليدة في هذا الوادي الذي خضع قبل ذلك زماناً طويلاً لمظاهر السيادة والأرستقراطية
(يتبع)
الخفيف