مجلة الرسالة/العدد 306/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 306/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 05 - 1939



غرفة ولسون

اتجاهات حديثة في العلم التجريبي - هذه أنابيب النيون عيون خير من عيوننا - كيف كشف أندرسون االبوزيتون - غرفة ولسون هي أقصى ما بلغه العلم التجريبي من العظمة والدقة.

للدكتور محمد محمود غالي

دعوت ذات مرة العالم الكبير جييه أستاذ السوربون لمشاهدة بعض تجارب كنت أقوم بها خاصة بدراسة ميوعة السوائل، فلبى دعوتي وشرفني بحضوره من السوربون إلى معهد باستير، وظل ردحاً من الوقت يروح جيئة وذهاباً أمام الحوض الزجاجي الذي أعددته لإجراء هذه التجارب.

مضت أيام صعدت بعدها سلم السوربون واستأذنت في زيارة الأستاذ، وعندنا دخلت معمله وجدته يقوم ببعض التجارب العلمية الخاصة بالميوعة أيضا، ولا أدري إن كانت زيارته السالفة هي التي جعلته يهتم بهذه الناحية التجريبية من البحث العلمي، التي أعلم أنها عند الأستاذ أقل شأنا من غيرها، ولا سيما في وقت كنت أعلم درجة اهتمامه بالخطوات التجريبية الخاصة بالمرناة (التلفزيون).

أما موضوع دراسة الميوعة الذي شغل الأستاذ جييه فهو خاص بالطيران، ذلك أنهم يؤملون أن تتمكن الطائرات يوماً ما أن تطير في الطبقات العليا من الجو التي يسمونها (ستراتوسفير) ويزيد ارتفاعها عن 14 كيلو متراً، وقد دلت التجارب على أن الطائرة في هذه الحالة تخترق طبقات من الجو تزيد درجة الحرارة فيها عن 50 درجة، وطبقات أخرى تنقص فيها درجة الحرارة عن الستين، وهو ما حدث للعالم بيكار، عندما صعد في كرته التي صنعها من الألمنيوم.

ويتحتم مع هذا الاختلاف في درجة الحرارة دراسة خواص الزيوت المستعملة في الطائرات: أي دراسة ميوعتها مع درجة الحرارة، والعوامل الطبيعية الأخرى، وإلا صعب استعمال هذه الزيوت في محركات الطائرات.

وجدت الأستاذ أمام بندول بسيط من الخشب من صنعه أو صنع عامل في معمله، وهذ البندول يوصل تياراً كهربائياً ويقطعه في كل مرة يهتز فيها، ورأيت أمام العالم أنبوبة صغيرة من أنابيب النيون التي شاع استعمالها الآن في الإعلانات ليلاً في الشوارع، وكرة نحاسية معلقة بسلك يحمل في أحد أطرافه مؤشراً يدور دوران السلك فتدور معه الكرة في السائل المراد اختباره، وكلما أكمل البندول هزة اتصل أحد أطرافه بحوض من الزئبق، فيمر التيار الكهربائي وتتوهج الأنبوبة التي لا تلبث أن تنطفئ بمبارحة البندول للزئبق، وهكذا كلما كان السائل مائعاً تأخرت الكرة قليلاً في دورانها عن السلك الحامل لها أي عن المؤشر، وهذا المؤشر لا يظهر للعين إلا في الفترات القصيرة التي تتوهج فيها أنبوبة النيون.

التفت إلى الأستاذ وقال مشيراً إلى أنبوبة النيون: (هذه عيون أحسن بكثير من عيوننا)، وهو بهذا التعبير الصادق يلخص لنا الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، الذي بات لا يعتمد على حواسنا كما كان الحال في زمن قريب بقدر ما يعتمد على الوسائط الطبيعية.

والواقع أن العين وهي أعظم ما نملكه من حواس هي جهاز متوسط لا يعد شيئاً مذكوراً بجانب الوسائط العلمية الأخرى التي تفوقها حساسية وتعظمها دقة، ولو أن الإنسان اعتمد في كل ما يرجوه من تقدم في أعماله التجريبية على حواسه، لما تقدم العلم للحد الذي هو فيه اليوم، ولما اختلف كثيراً العهد الذي نعيش فيه عن أقدم العهود.

إنما ذكرت تجارب جييه واستعماله غاز النيون والظاهرة المعروفة باسم (الستروبوسكوبي) لأبين للقارئ الاتجاهات الحديثة في العلم التجريبي، فلا ترجعن المسائل للمحسوسات وحدها، وإلا عدنا لعصر الإغريق عندما كان الدليل الفلكي لا يزيد عن بضع مئات من النجوم، أو عصر العرب عندما كنا نقضي عشرة أيام لكي نسافر من القاهرة للإسكندرية، حيث كنا مجبرين أن نتبع فوق ظهر الإبل حركتها الدورية أكثر من مائة ألف مرة، وهي الحركات الناشئة عن خطوات الجمل الذي يحملنا بتثاقل لقطع مثل هذه المسافة البعيدة جداً في العهد المنصرم والتي أصبحت على طرف الثمام في العهد الذي نعيش فيه.

وهكذا في معظم التجارب الطبيعية اليوم لا تأتي العين إلا في المرحلة الأخيرة منها. ولعل أحسن ما أقدمه من مثال للقارئ هو أن أشرح له (غرفة ولسون)، وهو جهاز يرسم لنا مسارات الأشعة الكونية، وهي الأشعة التي قدمنا أنها آنية من عوالم بعيدة لا نعرف مصدرها، وتخترق طبقات الجو وما يقابلها من مادة، والتي قدمنا أنها مكونة من إلكترونات وبوزيتونات سريعة، وهي أصغر ما نعرفه من الجسيمات المكونة للذرة.

هذه الغرفة يتضاءل مجهود العين بجانب ما يدور فيها من حوادث جسام، لا تدركها العين إلا بعد أن تصبح لهذه الحوادث آثار تدل عليها، وهو نوع من التحايل التجريبي، وفق إليه العلماء كل التوفيق.

ويتكون الجهاز من وعاء بداخله مكبس يغير ضغط ما بداخله من غاز أو بخار، فعند مرور جسيم من جسيمات الأشعة الكونية يحدث عدد من الأيونات في هذا الغاز وتساعد حركة المكبس في نفس الوقت على تكاثف قطرات الماء الرفيعة على الأيونات الحادثة وذلك من تخفيف الضغط دفعة واحدة - وهذا التكاثف الذي يحدث عند مسار الجسيمات الكونية يمكننا من رسمها على اللوح الفوتوغرافي فنرسم بهذا في الواقع مسارات الجسيمات الكونية وتسمى هذه الطريقة بطريقة ولسون أو طريقة الضباب لولسون. ولا يفوتنا أن نذكر أن سنة 1929 كان أول من قام برسم مسارات لجسيمات تفوق طاقتها طاقة جسيمات المواد الراديومية، فكان أول من استعمل طريقة الضباب المتقدمة في أبحاث خاصة بالأشعة الكونية، وطريقة ولسون هذه تسمح بمعرفة الطبيعة والطاقة التي عليها جسيمات الأشعة الكونية من درجة انحناء مساراتها واتجاه هذه المسارات ودرجة التأين الحادثة من هذه الجسيمات، وذلك بتعريض الغرفة لمجال مغناطيسي قوي.

وكم كان عظيما للعلم ورافعا للعرفان أن تتقدم الأبحاث الخاصة بغرفة ولسون للحد الذي سمحت فيه للعالم الكبير الذرة الموجبة للكهرباء التي نسميها بوزيتون منحه المجمع السويدي من أجل هذا الكشف جائزة نوبل للطبيعة.

لقد استعان أندرسون في بادئ الأمر في تجاربه التي قام بها

في باسادينا، تجاربه التي قام بها في روستوك، بمجال

مغناطيسي قوي يبلغ 18 ألف جوس، فوجدا أن مسارات جميع

الجسيمات المكنة للأشعة تنحني في مثل هذا المجال القوي،

وبفرض أن كتلة هذه الجسيمات هي كتلة الإلكترون فإن طاقتها تقع بين 108، 106 إلكترون فولت، بل تبلغ طاقة

بعضها 1010 الإلكترون فولت، وقد وجدا بادئ الأمر أنه

بينما ينحني نصف هذه الجسيمات في اتجاه معين داخل غرفة

ولسون، ينحني النصف الثاني في الاتجاه الآخر، مما يدل على

أن شحنة نصف عدد هذه الجسيمات سالبة وشحنة النصف

الآخر موجبة.

على أن استمرار البحوث في دراسة المسارات المنحنية في اتجاه الجسيمات الموجبة الذي قام به أندرسون أدى إلى كشف غريب بعد من أهم اكتشافات العلوم الطبيعية الحديثة، ففي إحدى الفوتوغرافيات العديدة التي قام بها أندرسون ظهر بوضوح مسار لجسيم اخترق لوحة معدنية موضوعة داخل الغرفة ففقد هذا الجسيم باختراقه اللوحة جزءاً من طاقته لدرجة وضح فيها اتجاه الجسيم الذي دل باتجاهه على أن شحنته موجبة. ولقد كان مساره طويلاً للحد الذي لا يمكن اعتباره مع طول هذا المسار (بروتوناً) (نواة الهيدروجين) وكتلة هذا الأخير، أي البروتون، تساوي 1850 مرة قدر كتلة الإلكترون، عندئذ اقترح أندرسون إمكان وجود جسيم موجب الشحنة قائم بذاته يختلف عن البروتون، وهذا الجسيم الذي كشفه تقرب كتلته للإلكترون عن البروتون وقد سمى فيما بعد (بوزيتون).

ولقد ثبت رأى أندرسون هذا بتجارب أخرى عديدة قام بها اللذان توصلا لتحسين طريقة غرفة ولسون كما توصلا لإثبات ما هسر أندرسون عنه الستار.

وينحصر عمل بلاكت وزميله أوشياليني في أن تمكنا من أن يجعلا الجسيمات الكونية هي التي تقوم بنفسها بعمل الفوتوغرافيات لها في الوقت الذي تمر فيه، وذلك بأن تمر أولاً هذه الجسيمات في عدادين من العدادات التي سبق أن شرحناها، فينتج عن التأين الحادث في هذه العدادات زيادة في فرق الضغط الكهربائي وبالتالي حركة ميكانيكية، هي التي تقوم بتحريك المكبس في غرفة ولسون، بحيث أن الغرفة لا تعمل إلا عند مرور جسيم كوني.

عندئذ بات من المؤكد ألا تحصل هذه الفوتوغرافيات إلا عند مرور الجسيمات الكونية، ومما يجدر بالذكر أنه قبل استعمال هذه الطريقة كان يلزم أن يقوم الباحثين بعمل مئات الفوتوغرافيات ليحصل على واحدة أو اثنتين من الصور التي يرى عليها مسارات هذه الجسيمات الكونية، لأنه عندما يقوم الباحث بتحريك المكبس والجهاز الفوتوغرافي لا يعلم إذا كان يمر في نفس الوقت جسيم من الأشعة الكونية، أما الآن فإنه في كل مائة صورة ترى حوالي 75 صورة مرسوماً عليها مسارات هذه الجسيمات المتناهية في الصغر.

ويتلخص الموقف اليوم أنهم توصلوا لعمل أجهزة تسمى عدادات الإلكترونات وتوصيلها بعضها ببعض، بحيث لا تتأثر إلا بمرور جسيم كوني يخترق العدادات معاً، وأنه بتأثر هذه العدادات يتحرك المكبس الموجود في جهاز آخر، يسمى جهاز ولسون، كما يتحرك الجهاز الفوتوغرافي، بحيث أن أصغر مكونات الكون وهو الإلكترون عند مروره أو مرور شقيقه البوزيتون بسبب كل منهما حركة كل هذه الأجهزة، فتسمعه أولاً ثم ترى مساره ثانياً، بل ترى أثر ما أحدثه من تهدم وتفتت في ذرات المادة التي اخترقها.

وفي الشكل (1) ترى غرفة ولسون وترى حزمة من الجسيمات تظهر في الجزء الأعلى من هذه الغرفة كما ترى حزمة من الجسيمات المطرودة من لوحة الرصاص الموضوعة داخل الغرفة. وفي الشكل (2) يرى القارئ زوجين إلكترون، وشقيقه البوزيتون، الجسيم المكتشف حديثاً، يظهران فجأة في غرفة ولسون، وتعد غرفة ولسون، وما يدور فيها من حوادث جسام أعظم ما توصل إليه العلماء في البحث التجريبي.

وإلى اليوم الذي قد يتاح فيه القيام بتجارب أعظم أثراً من التجربة السابقة، عندما يتاح للعلماء أن ينتفعوا مثلاً بالطاقة والنشاط الموجودين في المادة في مرافق حياتنا المختلفة، عندما لا نعتمد فيما نحتاج إليه من طاقة إلى ما هو معروف من الفحم، والوقود والكهرباء، عندما يصبح مصدر ما نحتاج إليه القليل من المادة والتافه من الأشياء؛ فأن التجربة الخاصة بغرفة ولسون ستظل حتى هذا الوقت من أعظم وأدق التجارب العلمية التي تحققت في وقتنا الحاضر.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة