مجلة الرسالة/العدد 307/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 307/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 05 - 1939



دراسات في الفن

الغناء بين الارتجال والربط

بمناسبة ذكرى عبده الحامولي

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

أشير على وزارة المعارف أن تفكر في إحياء ذكرى عبده الحامولي فحدث أن استجابت للإشارة وفكرت. وجمعت وزارة المعارف - كعادة الوزارات كلها حين تعزم التفكير في جلائل الأمور - حزمة الرؤوس المفكرة كانت درتها المتألقة رأس معالي وزير المعارف الأديب الفنان. وطرحت مسألة الذكرى أمام هذه الرؤوس المفكرة ففكرت فيها وفكرت، ساعة أو ساعتين، فكرت ثم خرجت بتفكيرها أو خرجت من تفكيرها بأن المسألة عقدة معقدة، وإنها ليست من المسائل التي يحلو التفكير فيها للرؤوس المفكرة بحيث تطيق أن تستوعبها وأن تلم بأطرافها أو تعتصرها في جلسة واحدة فأفسحت للتفكير فيها من وقتها خمسة شهور تبدأ في مايو هذا وتنتهي في أكتوبر المقبل تنفرط فيها حزمة الرؤوس المفكرة لتملك كل منها التفكير فيها، وهي على حدة في مسألة ذكرى الحامولي المعقدة ثم تجتمع بعدها ليقول كل رأس منها لاخوته: أي حل يَسَّره، أو أي تيسير قدَّره

وأخشى ما نخشاه هو أن تعود حزمة الرؤوس المفكرة بعد هذا الاجتماع فتنفرط، ثم تعود فتجتمع، ويطول بها الانفراط والاجتماع حتى تصبح ذكرى الحامولي من مشكلات الدولة المستعصية كما استعصت على الدولة قبلها مشكلة الأوقاف الاهلية، ومشكلة مياه الشرب في القرى، ومشكلة تعليم اللغة العربية وغير ذلك من المشاكل الملعونة الجاحدة التي طالما أجهدت - في غير رحمة ولا استحياء - حزماً من الرؤوس المفكرة

على إننا لا نزال مستبشرين خيراً، فإنه لا يبعد على الله، ولا يكثر على الله، أن يسأل رأس من هذه الرؤوس المفكرة نفسه في بحر هذه الشهور الخمسة عن عبده الحامولي: من هو؟ فعندئذ لا بد أن يجيب هذا الرأس نفسه بأن عبده الحامولي كان مغنياً. وقد يحدث بعد أن يطرب هذا الرأس المتسائل لتوفيق الله الذي مكنه من إصابة هذه الحقيقة البعيدة النائي أن يذكر أن عبده الحامولي كان مغنياً من نوع كاد ينقرض من بين أهل الحرفة اليوم، لا لأن أهل الحرفة قد سمن إحساسهم، وإنما لأن الحياة نفسها استدعت هذا الانقراض، وهي لا تزال تستدعيه.

فقد كان المغنون في الجيل الماضي يغنون في اجتماعات عامة من حيث إقبال الناس عليها، ولكنها كانت خاصة من حيث الأنفاق عليها والدعوة إليها، وكانت الأفراح هي الفرص المتلاحقة التي كان يدعى فيها المغنون إلى الغناء، وكان صاحب (الفرح) هو الذي يختار المغني الذي يدعوه، وكان يرهق نفسه في إكرامه إرهاقاً كانت تستلزمه روح التفاخر التي كانت شائعة في ذلك الحين بين المصريين أغنياء وفقراء، وكان يبذل له العطاء كما كان يتأنق في إعداد المائدة له ولأفراد فرقته؛ فكان يطعمهم طعاماً شهياً خفيفاً حتى يكتفوا، وكان يسقيهم خمراً سائغة مشعشعة حتى ينتشوا؛ وكان يصبر عليهم لا يطالبهم بعزف ولا غناء حتى يستخفهم الطرب، فيعمد منهم صاحب القانون إلى قانونه، وصاحب العود إلى عوده، وصاحب الدف إلى دفه؛ والمغني لا تزال روحه تترنح من الشرب والطرب والبهجة والفرح حتى يطيب له أن ينطلق فينطلق

وكان المغني يصيح وهو يعلم أن بين مستمعيه مغنين ومطربين خفوا إليه ليمتعوا أنفسهم بحلاوة ترتيله وبهاء نشوته. والذين حضروا أمثال هذه الحفلات يروون لنا أن محمد عثمان كان يجري وراء عبده الحامولي ليسمعه، وأن عبده الحامولي كان يلاحق محمد عثمان ليستردّ منه الدين متعة وطرباً، وهم يقولون أيضاً أن محمد عثمان كان يسمع من الحامولي الدور فلا يتحرج من الاستيلاء على نظمه وكلامه فيلحنه تلحيناً جديداً ويغنيه غناء يجبر الحامولي على أن يترك له الدور مسلماً فيه أمره الله ولصناعة محمد عثمان المنظمة المنسقة

وقد كان محمد عثمان يختلف عن الحامولي اختلافاً بيناً. فقد كان الحامولي أقرب إلى الطبيعة من صاحبه، فكان أكثر غنائه ارتجالاً لا يعدُّه ولا يهيئه، وكان صوته الممتاز الحلو النقي، ونفَسه الطويل المشبع، وروحه الصافية المرفرفة. . . كان هذا كله يمكنه من السيطرة على نفوس سامعيه والتحكم فيها والخروج بها من حال إلى حال بما لم يتح بعده إلا لسيد درويش الذي أغناه صدقه وعوضته قوة روحه عن حلاوة الصوت وعذوبته أما محمد عثمان فكان يربط ألحانه قبل إنشادها، وكان لا ينطلق ولا يتحرر مما ربطه إلا في فترات من ليلته ثم يعود بعد ذلك إلى ما ربطه وقيده. وانقسم المغنون والمطربون في ذلك الحين إلى مدرستين: مدرسة الارتجال التي كان يتزعمها عبده الحامولي وكان من أساطينها محمد سالم العجوز؛ ومدرسة الربط التي كان يتزعمها محمد عثمان وكان من أساطينها يوسف المنيلاوي ثم سيد الصفطي. على أن الربط في ذلك الحين لم يكن مقيداً مكتوفاً كل الكتف وإنما كان - كما تقدم - يفسح للمعنى مجال التصريف والتخليق، متى أتيح له التصرف والتخليق

والذي نريد أن نصل إليه من تقرير هذه الحقائق كلها هو أن مجالات الطرب في الجيل الماضي كانت تعنى بتهيئة جو الغناء للمطرب، فكانت تتملقه بالأجر المغري، وتتزلف إليه بالكأس والطاس، وتحفزه بالتشجيع من جانب المستمعين، والتحدي من جانب المطربين، وهذا كله كان يلهب المغني إلهاباً ويشعل روحه إشعالاً وينقل روحه إلى حال من حالين: فإما نشوة ورضى، وإما ركوداً وغماً. فإذا ما أصابه التوفيق بالنشوة والرضى فقد غنت روحه ورقصت؛ وإذا ما ركد وتخاذل فإنه كثيراً ما كان يعتذر عن الغناء ويتهرب منه. ولا يزال هواة الطرب من المخضرمين يذكرون لنا أن عبده الحامولي كان يفسح في تخته مجالاً لمحمد عثمان ويدعوه إلى الغناء في بعض لياليه، كما انهم يذكرون لنا أن عبد الحي حلمي كان يضرب الغلاظ من مستمعيه أحياناً بطربوشه ويبكي ويصر على إبعادهم عنه وإلا يروغ من (الفرح)

هذا يدل دلالة قاطعة على أن المغنين في الجيل الماضي كانوا يغنون لأنفسهم كما كانوا يغنون للناس، أو إنهم في الحق كانوا يغنون لأنفسهم في مناسبات يهيئها لهم الناس ويدعونهم إليها

ولعله لم يبق في هذا الجيل الذي نعيش فيه من أهل هذا المزاج إلا فئة من المقرئين فهم وحدهم الذين يرتجلون الترتيل، وهم وحدهم الذين (يتفاعلون) مع جمهورهم أثناء إنشادهم وقراءتهم. أما المغنون فكلهم كما نعلم يسترجعون في حفلاتهم ما علمهم إياه الملحنون، وأما الملحنون فكلهم يعدون ألحانهم إعداداً تاماً قبل غنائها أمام الجمهور إذا ما دعوا للغناء أمامه. وليس يشذ عن هذه القاعدة من ملحني اليوم إلا زكريا أحمد ومحمود صبح. فهما وحدهما اللذان ينطلقان في الغناء بما توحيه إليهما نفساهما. أما زكريا فتنساب نفسه في غنائه بأسلوب مصري رقيق، وأما محمود صبح فتجمع روحه في غنائه بأسلوب تركي متعجرف مكنته منه دراسته التي صرفته عن طبيعته المصرية فأصبح وله لون خاص به في غنائه، ليته كان مصرياً قريباً من نفسه ونفوسنا

ونعود الآن إلى غناء الماضي لنلحظ فيه ملحوظة تعزز ما ذهبنا اليه، ذلك أنه كان غناء شراب وفرح وبهجة؛ وقد نجهد أنفسنا في البحث إجهاداً كبيراً إذا حاولنا أن نعثر فيه على شيء غير الشراب والفرح والبهجة التي كانت تبعثها مناسبات الغناء في نفوس المغنين. وقد كان المغنون في الجيل الماضي يعيشون في أفراح متواصلة متتابعة ولعل القارئ يعجب حين يعلم أن موسراً من الموسرين أراد أن يحيي له ليلة فرحه المطرب الشيخ سيد الصفطي؛ فلما قابله أخبره الشيخ الصفطي بأنه مقيد بتسعين ليلة مقبلة لا يمكنه أن يتحلل من إحداها، فاضطر الموسر أن يؤجل فرحه ثلاثة شهور متتالية. فإذا كان هذا هو حال الشيخ الصفطي الذي لم يكن ملحناً ولم يكن أستاذاً لمدرسة في الغناء فكيف كانت حال عبده الحامولي، ومحمد عثمان؟ إنهما لم يكونا يملكان إلا أن يعيشا في أفراح بعد أفراح. ولقد نضحت أغانيهما بهذه الأفراح حتى ما كان منها يجنح نظمه إلى الشكوى والألم، فقد كانا يغنيان في فرح وفي مرح تستسيغهما المناسبة وإن كان الفن والمعنى يزوَرَّان عنهما

ولكن هذا ليس معناه انهما كانا يغنيان على وتيرة واحدة هي نمط البهجة، وإنما كانت روحاهما تنتفضان أحياناً بالأنين والألم. وقد سجل التاريخ لعبده الحامولي وقفة خالدة من وقفات الفن الرائعة إذ جاءه نعي وحيده في ليلة زفافه وكان عبده هو الذي يحييها بغنائه، فغنى عبده ليلتئذ غناء أسال قلوب سامعيه دموعاً، وعصر نفوسهم دماً، وطبع أرواحهم بطابع أسود خدرهم وهم في مقاعدهم ولم يخطر ببال أحدهم أن يسائل عن سره أو منشئه، حتى إذا طلعت الشمس شاع بينهم الخبر فلزموا مجالسهم حتى جهزت الجنازة فخرجوا بها مشيعين العروس الذي خفوا ليشاطروه الفرح

هذه هي حال الغناء في الجيل الماضي، وهذه هي حال إمامه عبده الحامولي، وهي كما ترى أقرب الأحوال إلى الغناء الطبيعي الذي يصدر عن النفس الصادقة في لون صادق من ألوان العواطف هو الفرح. فإذا قلنا أن الغناء يكاد ينقرض فإنما نقصد بذلك هذا اللون الطبيعي أو الأقرب من الطبيعة.

فكيف إذن يمكن أن يُحيا غناء كهذا، أو كيف يمكن أن نحيى بنوع من الغناء ذكرى مغن كعبده الحامولي؟

خطر لحزمة الرؤوس المفكرة التي اجتمعت في وزارة المعارف أن يغني مغن في حفلة الذكرى شيئاً من أغاني عبده الحامولي؛ فأشبه هذا الخاطر خاطر لذيذاً مر برأس صاحب لنا كان صوته يشبه صوت سعد زغلول، فرأى أن يلقي أحد خطب سعد زغلول في حفلة من حفلات ذكراه، ولم يمنعه من تنفيذ فكرته هذه إلا أنه عجز عن الاتصال بأصحاب الأمر والنهي في هذه الحفلات. ولعله لو كان قد وصل إلى أصحاب الأمر والنهي هؤلاء لكان قد استطاع أن يقدم للمحتفلين بذكرى الخطيب العظيم الراحل هذه (النمرة الكوميك). فيدخل على نفوسهم شيئاً من الراحة قد يشعرون بالحاجة إليه خلال ذلك الألم الذي ينتاب نفوسهم حين يذكرون الفقيد.

فهل تريد وزارة المعارف أن تكون لذيذة كصاحبنا هذا حين تريد أن تكرم رجلاً من أساطين الفنانين المصريين؟

أن عبده الحامولي لا يمكن أن يستعاد ولا يمكن أن يسترجع، وليس كل عظيم بمستطاع أن يكرم ذكره بتكريم من نوع موهبته وفنه. فالأمريكان إذا أحبوا أن يذكروا إديسون في حفلة فإنهم لا يستطيعون أن يعرضوا في هذه الحفلة مخترعاً يخترع أمام الجمهور اختراعات إديسون!

إنما هناك وسائل أخرى لتكريم أمثال هؤلاء الذين تتصل كرامتهم بأشخاصهم وذواتهم، فلأمثال هؤلاء يمكن أن تقام التماثيل، وبأسماء هؤلاء يمكن أن تتوج المسارح القومية ومعاهد الفنون. وأما ترجيع فنهم نفسه فمحال إلا إذا كان الفن مربوطاً مقيداً مثل فن سيد درويش فهو الذي تستطيع وزارة المعارف أن تحمل الفرقة القومية على تمثيل رواياته الخالدة.

أما إذا أصرت وزارة المعارف على أن تحيي ذكرى عبده الحامولي بغناء وألحان من المحفوظ عنه فإننا نرجوها أن تتريث كل التريث قبل أن تختار المغنين الذين ستعهد إليهم بإحياء هذه الذكرى الجليلة، وعليها أن تعرف أن عبده الحامولي كان مغنياً صاحب صوت قوي جميل كامل لا يمكن أن يجود الزمن بمثله إلا بين دهر ودهر، وأنه كان يسلط روحه الصافية على صوته هذا وحده فيتسلط به على سمع الزمن، فهل بين المطربين المصريين اليوم من أتيحت له هذه القوة؟

قد يكون الشيخ علي محمود وحده أشبه الأحياء به. . . فلو أنه راجع مع المخضرمين من المطربين أغاني الحامولي فقد يتاح له أن يوفق إلى صورة من الغناء هي أقرب الصور إلى غناء الفقيد الكريم. أما أصدق الصور وأشدها أمانة فهي لا ريب هذه الصور التي طبعها الفقيد بصوته على (الاسطوانات) القليلة التي عبأها، فأين هي؟. .

عزيز أحمد فهمي