مجلة الرسالة/العدد 309/حول نظام الطبقات

مجلة الرسالة/العدد 309/حول نظام الطبقات

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1939


فلاحون وأمراء!. . .

جلست كعادتي في عصر كل سبت أفكر في موضوعيَ الأسبوعي للرسالة، فتردد على خاطري المكدود معانٍ شتى من وحي الساعة وحديث الناس وحوازِّ القلوب، كمأساة حلحول في فلسطين، وصلة الجديد بالقديم في الأدب، فكنت أذودَها بالفتور والإهمال، لأن معنى من المعاني القوية كان قد استبد بذهني منذ الصباح فهو يراوده ويعاوده ويلح عليه حتى لم يكن من الكتابة فيه بُد. ذلك بيان النبيل عمرو إبراهيم رئيس نادي الفروسية الذي بعث به إلى الأهرام وطلب إليها أن تنشره (كاملاً) في عدد اليوم. والذي استفزني من هذا البيان لَهجته الأميرية المنتفخة في الرد على رئيس الوزراء، والطعن في بعض الكبراء، والدفاع الظنين عن نظام الطبقات، والتفسير المجازف لكلمتي الفلاح والديمقراطية، والتلميح المختزل إلى الساميَّة والطورانية؛ فإن هذه مسائل دقيقة ما كان ينبغي للنبيل أن يعرض لها بهذا الاستكبار، في بيان دفاعيّ لا يجوز أن يخرج فيه عن التنصل أو الاعتذار!

لست والحمد لله من طبقة أولئك النادين إلى هذه (الكُلبِّات) التي

تتضاءل فيها الديمقراطية بين أرستقراطية الدم أو المال أو المنصب فلا

أزعم أني سمعت الأشداق الملوية تأمر، ورأيت الأنوف الوارمة

تمتعض؛ ولكني قرأت كما قرأ الناس ثورة رئيس الشيوخ وزارة رئيس

الحكومة، فعلمت والأسى يحز في الصدر أن بعض الذين جعلناهم

أمراء ونبلاء لا يزالون على عقلية ذلك التركي الفقير الذي كان يقرع

الأبواب مستجديا فإذا أجابه المجيب الفزِع قال له في عنف وصلف

وأنفة: (هات صدقة لسيدك محمد أغا). ولا أدري ما الذي سوغ لهم أن

يعتقدوا أن الله خلقهم من المسك للمِلك، وخلقنا من الطين للطين؛

وجعلهم للثروة والسيادة، وجعلنا للخدمة والعبادة؟ إن كانوا مسلمين

فالإسلام قد محا الفروق بين الطبقات إلا البر والتقوى؛ فالعرب والعج سواء، وقريش وبأهلة أكفاء. وإن كانوا وطنيين فالوطن لا يعرف

التفاضل بين أبنائه إلا بأثرهم في تقويته وترقيته وخدمته؛ فالفلاحون

على درجته العليا لأنهم عماد ثروته وعدة دفاعه وقوة سلطانه؛

والأمراء على درجته السفلى لأنهم فيه معنى السرف الذي يفقر،

والترف الذي يوهن، والبِطالة التي تميت! وبين هاتين الدرجتين

تتفاوت مواقف الوزراء والزعماء والكبراء على حسب ما لكل منهم

عليه من فضل.

لا يا سيدي النبيل! ليس نظام الطبقات هو القائم في مصر وأوربا كما تقول؛ فإن جَعْلك نفسك ونُظراءَك طبقة متميزة لها حدودها الأربعة وجهاتها الست لا يجعل نظام الطبقات حقيقة واقعة. إن مصر كلها من أعلى شلالها إلى أسفل دالها طبقة واحدة فيها الغني والفقير والمالك والأجير والصحيح والمريض والعالم والجاهل، فهل تجعل كل حال من هذه الحالات طبقة؟ وهل تستطيع أن تعين لي الفرق بين طبقتك المرفوعة وطبقتنا الموضوعة إذا كان الدستور الذي تخضع له طبقتان يستطيع أن يجعل ابن الخادم الذي ينظف لك الحذاء جليسك ورئيسك؟ لقد كان امتياز طبقتك على طبقتنا أنك تمسك (الكرباج) ونحن نمسك الفأس، وتأكل الذهب ونحن نأكل التراب، وتعبد الشيطان ونحن نعبد الله، وتتكلم التركية ونحن نتكلم العربية. فلما قيض الله لمصر العظيمة فؤاداً العظيم فتزوج منا وحكم بنا وسعى لنا ونشَّأ على خلائقه المصرية المحض شبله الموموق فاروق، شعرنا بأن العرش يستقر على كواهلنا، والعلم يخفق على معاقلنا، والسلام يتردد في شعورنا، والحكومة تقوم بأمرنا، والنيل يجري بخيرنا؛ ورأيناكم حين أخذكم - رضوان الله عليه - بأدب الإسلام والشرق لذتم بأطراف الغربة، وقبعتم في زوايا العزلة، وكنتم من مصر وثروتها مكان البالوعة تطفح بعرق الفلاح ودمه لتصب في مناقع البلدان الغريبة!

لا يا سيدي النبيل! ليس المصريون في الجنسية والوطنية بمنزلة سواء؛ فإن منهم من تمصر بالقانون لا بالأصالة، وتوطن للمنفعة لا للعاطفة. وكيف يستوي في الميزان الوطنية من يقف على مصر يده وقلبه وكسبه ودمه، ومن لا يعرفها إلا معرفة الغرماء ولا يعيش فيها إلا شهور الشتاء، ولا يعنيه من أمورها إلا أجرة العامل وسعر القطن؟

كذلك ليس من خالص الحق قولك: (إن حق الشخص في الانتساب إلى أمة إنما يناله بما يؤديه إلى وطنه من الخدمات سواء أكان ذلك بنفسه أو بأفراد أسرته من آبائه وأعمامه وأبناء أعمامه وأجداده وأجداد أجداده) فإن أموال أبيك لك، ولكن أمجاده له. والوطني الصميم هو الذي يرفع ما بنى أبوه، ويتمم ما بدأ جده. ولا ينفع المرءَ عند الوطن أن أباه وطني وهو خائن، ولا عند الله أن أباه مسلم وهو ملحد!

أيها الأمراء والنبلاء! إن لكم في سيدكم الفاروق أسوة حسنة. فخذوا أخْذَه الجميل في سيرته ومصريته وشعبيته ودينه؛ فإن ذلك يكفل لكم رضا الشعب في الدنيا ورضا الله في الآخرة!

احمد حسين الزيات