مجلة الرسالة/العدد 309/قصة الحرير

مجلة الرسالة/العدد 309/قصة الحرير

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 06 - 1939



بقلم أحمد علي الشحات

دلف نوح علية السلام إلى الصين يسعى بعد الطوفان، وله في الاشتغال في هذا البلد بالحرير ذكر، إذ يقول بعض المؤرخين إنه هو أول من اهتدى إلى الحصول عليه. وسواء لدينا أكان هو أم كان غيره - مادمنا لم نثبت من ذلك بعد - إلا أن الذي لا ريب فيه أن (الصين) هي أول بلد اشتغل بالحرير؛ بل واسم بلاد الصين ذاته معناه بالصينية (الحرير).

ويعزو التاريخ الفضل الأكبر في انتشار الحرير بالصين إلى زوج الإمبراطور الصيني (فوهانج عام 2500 قبل الميلاد)؛ ويسند التاريخ إليها أيضاً اختراع (المنوال) ونسج الحرير.

ومنذ القدم والحرير يقدر بقيمة عالية. فلقد كانت الممالك: كالهند وإيران واليونان وروما تدفع فيه للصين عن طيب خاطر ما يزيد على وزنه من الذهب.

وكانت الصين تسعى جهدها ألا تتمكن مملكة أخرى من الاهتداء إلى طريقة الحصول عليه. ومن الطريف أنه إذا استعلم الأجانب منهم عن ذلك مكروا بهم وأجابوهم بأن الحرير هو من (وبر الغنم) خلطت به ألياف رفيعة ووضع في الماء تحت أشعة الشمس في فصول معينة من السنة. حتى إذا ما سويت هذه الخيوط بعد ذلك إذا بهم يحصلون على الحرير.

ومما يثير الدهشة أن تمكن الصينيون من كتم هذا السر عن العالم لحقب طويلة إلى أن كان القرن الثالث بعد ميلاد المسيح. وكانت اليبان بطبيعة موقعها وجوارها للصين ترى تلك التجارة العظيمة في الحرير التي تدر على الصين الخير كله، صح عزمها على اكتشاف هذا السر بالغاً ما بلغ الجهد منها، وكانت على اعتقاد جازم بأن الصين تمكر بالعالم إذ تذيع تلك القصة السالفة التي ابتكرها خيالهم بأن الحرير أصله وبر غنم. أوفدت جواسيس لها إلى الصين أسروا بنات أربعا يشتغلن بالحرير، واختلسوا ما تمكنوا من الاهتداء إليه من دود الحرير. وعادوا بالأسيرات إلى اليابان، وهناك علمنهم أن الحرير إفراز خيطي من ديدان الحرير في أحد أطوار حياتها، وعلمنهم أيضاً كيفية استغلاله.

ومن ذاك اليوم والسر عن نطاق الصين قد خرج والاتجار بالحرير في اليابان ينمو ويزدهر، ولعل اليابان اليوم أقوى أمم الأرض في التجارة بالحرير.

كيف اهتدت إليه الهند؟

أما كيف كان ذلك فيروي أن أميرة صينية اقترنت بأمير هندي في ذات التاريخ الذي عرفت فيه اليابان سر الحرير (القرن الثالث)؛ وحملت هذه الأميرة بعض دود الحرير إلى حيث مقامها مع بعلها، هناك ألقت إلى الناس بالسر الذي تكتمت عليه مملكتها أشد التكتم؛ ثم ازدهرت تجارته بعد ذلك بالهند.

دخوله القسطنطينية

في القرن السادس دخل راهبان كانا قد قضيا حقبة من العمر في الصين خبرا خلالها الحرير، بيزنطة (القسطنطينية) وأفضيا إلى إمبراطورها (جستنيان) بما يعلمان عن الحرير. فطلب إليهما أن يشدا رحالهما ثانية إلى الصين، ويحملا إليه بعد ذلك ما اتصل بما أسراه إليه عن الحرير مجزلاً لهما العطاء مسرفاً في الوعود والمنح. فامتثلا وقفلا راجعين إلى الصين وهناك تمكنا من تخبئة كمية من بيض دود الحرير في عصا مجوفة، وارتدا إلى الإمبراطور.

ولو قد استشفا ببصيرتهما الحجب، وعلما ما كمن في سطور الغيب لرأيا أن هذه العصا التي يحملانها ستكون سبباً في سعود نجم تجار كثيرين، وأن العالم الأوربي الآن وقد مضى على حمل هذه العصا أربعة عشر قرناً تأسست تجارته في الحرير على محتويات هذه العصا.

وانتعش الحرير في فرنسا كثيراً واتخذته العائلات المالكة هواية لها وكذلك الأشراف، بل وكانت الألقاب السامية تمنح لمن أفلح في إنتاج الحرير حتى إذا ما وافى القرن السابع عشر كانت فرنسا عن بكرة أبيها قد أجادته تماماً

ولقد كانت إنجلترا على النقيض من ذلك لم تلق بالاً إلى الحرير على رغم أن جوها يصلح لتربية الدود ويصلح لشجر التوت، بل وملكها جيمس الأول يحث الناس ويشجعهم على العمل في إنتاجه والاتجار به. ولكن الناس كانوا عن أمر الحرير غافلين وفضلوا أن يستمروا في تربية الخنازير والعمل على تسمينها واستخراج البيرة

ولكن كان لإنجلترا في الهند خير عزاء إذ أن الحرير بالهند والظروف المهيأة لنمو الدود هناك والشجر ليتغذى عليه قد بلغ ذلك كله مبلغاً جعل الهند في مصاف الأمم الأخرى التي أفلحت فيه، بل ولقد برزت هي في ذلك

واختلفت أمزجة الشعوب في النقش على الحرير، فبينما الصين كانت تكثر من رسم الأزهار كانت الأمم المسيحية ومن بينها بيزنطة (القسطنطينية) ترسم زخرفة بسيطة بها صليب. وكانت الهند تكثر من رسم الإنسان والوحوش والطيور ومناظر صيدها، وكانت العرب تكثر من الكتابات المتعلقة بسلاطينهم كقولهم العز والنصر والإقبال للسلطان والمتعلقة بالتوحيد كقولهم لا إله إلا الله.

احمد علي الشحات

كيميائي بالسكة الحديد