مجلة الرسالة/العدد 309/من برجنا العاجي
مجلة الرسالة/العدد 309/من برجنا العاجي
في حياتي الفنية جانب مجهول أردت ألا أعترف به ورأيت أن أقصيه وأن أسدل عليه الستار، لأنه في نظري اليوم لا يتصل بأدبي ولا يجوز أن يدخل في عداد عملي. ذلك هو عهد اشتغالي بكتابة القصص التمثيلي لفرقة (عكاشة) حوالي عام 1923. غير أن المصادفة شاءت أخير أن ألتقي بمن يذكرني بهذا العهد، ويعرض عليّ طرفاً مما كنا نعمل في ذلك الحين. ذلك روائي اشترك معي في قطعة موسيقية قام بتلحينها المرحوم كامل الخلعي. ثم انقطع عن الفن منذ ذلك الوقت وشغلته شئون الحياة ثم اختلينا فجعل ينشد لي بعض أغاني رواياتنا القديمة وأنا في ذهول! شد ما تغيرت نظرتي للفن مرات ومرات خلال تلك السنوات! ولكنه هو باق كما كان على احترام تلك القواعد والمثل التي كانت هدفنا ومرمى أبصارنا في الكتابة المسرحية. إنه فيما خيل إلى لم يقرأ شيئا مما أكتب وأنشر اليوم. فهو لا يعترف بعملي الآن. وهو إذ يحادثني في شئون الفن لا يبدي اهتماماً ولا إعجاباً إلا بما كنت أصنع قبل خمسة عشر عاماً. أما اليوم فأنا في نظره غير موجود. إنه يذكرني بأشخاص رواياتنا الغابرة كمن يذكر بأناس من أهل الحسب والنسب والكرم والشهامة لن يجود بمثلهم الزمان. فهو يترحم عليهم ويقول: (مضى كل شيء! ولن نرى مثيلهم أبداً على خشبة مسرح من مسارح اليوم!). هذا الصحيح. وجعلت أتأمل قوله لحظة فخامرني شك في أمري اليوم وقلت في نفسي: (ألا يكون هو على حق؟ وأكون أنا قد ضللت وانحرفت عن طريق الفن الحق! إن فن المسرح فن مرجعه السليقة السليمة لا الثقافة الواسعة. إنه شيء والأدب شيء آخر. أتراني محتاجاً إلى خمسة عشر عاماً أخرى لأكر عائداً إلى ذلك النبع الذي بدأت منه ونأيت عنه؟).
توفيق الحكيم
صلوات فكر في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
6 - الأعشاش
الأشجار تتوجها الأعشاش المعمورة بالحب والرحمة والحنين. . . عليها أجنحة كاسرة، وفيها جوانح مشبوبة، ويطعم الحب فيها منقارا بمنقار
فيها دنيا من عالم القلوب. . . قلوب الطير ذوات الأطواق والسراويل والريش الملون والعيون الصافية التي استمدت صفائها من إدامة النظر للسماء
أعشاش مبنية من الأعواد وأوراق الشجر. . . تعبت في بنائها الأمهات والأباء لأداء الأمانة التي في صدورها للحياة. . . بناها هؤلاء بالمناقير التي يزق بعضها بعضاً بها حين الحب. . .
في كل عش فرخان يعين أحدهما الآخر على العزلة والنظر إلى الآفاق البعيدة. . .
خرجا من بيضتين متجاورتين، يحركان رأسيهما مغمضين أجردين من الريش معرضين لعوامل قاتلة من البرد والحر وأفواه الشر
من البيضتين انبثق حب دائم ربط بين قلبين صغيرين منسوجين من الهواء والضوء والصفو. . . هو حب اخوة وحب اجتماع في ظروف واحدة، وحب خوف من عالم النور والظلام، وحب زوجية. حديثهما حول هذا الطائر الكبير الذي ينهض من الشرق في الصباح ويملأ الدنيا وقلبيهما بالحرارة والدفء وعيونهما بالنور الذي يكشف لهما عن الأغصان والأفنان. . .
ألم تروا مرة أم فراخ بين أفراخها في عشها؟ ألا ترون الصبر والجد والصرامة واللهفة واليقظة لكل نامة حول العش؟
تصيح الصغار صياحاً ساذجاً بحناجر جديدة الانشقاق رطبة الأوتار. وحين تصيح الكبار تجد الجد والوقار والشعور بالمسؤولية وعبء التربية. لو اقترب الأسد من عش الطير لاعتراه خوف وخشية. . . فإن القبرة تهاجمه هجوم الغائب عن وعيه الحفيظ على أمانة الحياة في صدره. . . لا تبالي الموت ولا تحفل أدواته
إن غضب الطير للمأوى شيء مقدس جليل رائع. إنه ينفش ريشها ويجعلها تنفث أنفاساً من نار، ويدفع بمنقارها في صدر المهاجم. ليت بعض الخونة لأوطانهم ومأواهم يفهمون تلك الأسرار المقدسة في صدور العباد فيعملوا لها ولو بجهد الطيور الضعيفة
7 - ذعر نحلة
كنت جالساً على الأعشاب أكتب وأمامي محبرة، فجاءت نحلة تبحث عن رحيق الأزهار فحطت على فم المحبرة ووقفت لحظة تنظر إلى تلك اللجة السوداء المسحورة، ثم فرت وتركتني في دوار
أتراها أدركت عمق هذه اللجة حين وقفت على شاطئها؟ أتراها أدركت بعينها الصغيرة ما ندركه نحن حين نقف على هذه البئر المسحورة؟
أتراها أدركت أن هذا الإناء دن كبير طالما سقط الناس صرعى سكرهم بخمره الأسود؟
لقد سكرنا به عن كل شيء. . . ومضينا في دنيانا نرى الحياة من خلال كلماته كما يرى السكير الدنيا من خلال حبب الكئوس
سُكْرٌ وسُكْرٌ يصرعان ألباب ذوي الألباب، والمدمنون على الخمر يتهمون المدمنين على الحبر بالغفلة والعمى عن اللذة. . . وكذلك المدمنون على السكر بالحبر يبادلونهم نفس النعوت والألقاب، (وكل حزب بما لديهم فرحون)
لابد للأفكار أن تغتسل في هذا الإناء نحلة، قبل أن تخرج إلى الوجود. . . إن ماءه يسجد المعاني ويطلسم أفكار البشر
المخ والمداد. . هذا البياض وهذا السواد يتلاحقان فيلدان أشرق وأبقى ما في الدنيا: عالم الفكر!
نعم إن في لجج بعض المحابر ماء زائفاً وضلالات وتعقيدات وغروراً وتجديفاً وسموماً، ولكن على الأقلام الحساسة أن تتيقظ وأن ترد الصفو وتتجنب الأخلاط كما تيقظت النحلة فلم تذق ما لم تخلق له. . .
طيري أيتها النحلة في رحاب الدنيا غائبة عن عيني وانشدي (ن، والقلم وما يسطرون. . .) وما عليك أن تَفْنَىْ، فقد صرت كلمة خالدة على قلمي. . .
8 - منطق كلب
كنت جالساً بين الأزهار الطاهرة الجميلة أتطهر وأتأمل، فمر كلب وجاء إلى شجيرة ورد فيها ورفع رجله وبال عليها. . .
خيل إلى أن الشيطان تقمصه، وأراد أن يسخر مني ويريني كيف يحتقر هو وجنوده ما أقدسه وأستغرق فيه. . .
وأقول الحق! إنه زلزلني ونال مني، فوضعت القلم ونهضت إلى الحياة خاضعاً لمنطق الشيطان على الأقل في تلك الساعة. . .
لم يَرُق الكلبَ لون زهرة ولا عطرها ولا حريرها كما تروقه وتعجبه القاذورات. . .
ومما تعجبت له أنه رفع رجله خوف البلل؛ ثم مد فاه إلى القاذورات. . . تناقض عجيب! وكذلك نرى بعض الناس ينجسون أقدس ما فيهم وأحقه بالطهارة، ويطهرون ما لو تنجس لم يضرهم شيئاً. . .
إنهم كلاب في أفواههم وأحشائهم. . . ولكنهم يتطهرون في أذنابهم وأرجلهم. . . لن يرفعهم شيئاً ن أقدامهم طاهرة، ما دامت رؤوسهم نجسة دنسة. . .
9 - غضب البلابل
رأيت بلبلين في عراك على أنثى. . . وكانا في غضبهما عنيفين يخرجان صوتاً أجش خشناً، ولا تبدو عليهما تلك الشاعرية التي تكون وقت الإنشاد والتغريد. . . ويل للفنان من غضبه!
ويظهر لي أن أحدهما مسكين فريد يريد أن يأخذ أنثى الآخر، فهو يلحقها ويغريها باللحاق به. لقد جاء الغروب، ولم يسمع صوتاً يناديه إلى العش ويعبث بمنقاره في طوقه. . . هو يريد أن يسكب في أذنيها تغريده الضائع، ويسمعها غزل قلبه حين يرى فتنة الأزهار
والأنثى واقفة تشهد الصراع بدون اشتراك فيه. لماذا لا تهجم على الواغل في حياتها الزوجية فتضع حداً للطمع والأغراء؟ يظهر أنها مبلبلة الخاطر زائغة العين. . .
الأنثى دائماً هي كبرى مشاكل الطبيعة عند كل فنان.
10 - غزل الضفادع
أسمع في الليل زمراً من الضفادع في الغدران والسواقي تبدي كل فنها وقدرتها في إخراج أصواتها. سكون مطلق يصدعه ضجيج منكر. في كل مكان فيه ماء حنجرة تصرخ في زفير وشهيق منكرين. مقطع صوتي واحد يتردد دائماً في الظلام. علمت صوتاً واحداً ففرحت به وجعلت تغني به دائماً كما يغني الإنسان صاحب البيان للمرأة والدينار. . .
لذات خفية في ضمائر الخلائق! لماذا كل هذا الجهد يا بنات الماء؟ أكل هذا غزل وقصائد حب في مطارح عشق تحت الظلام؟ نعم، فهذه لغة أبناء لحياة من البعوضة للبعير، ومن الثعبان للفيل
هي لذة البلبل حين يمسح خديه بحمرة أوراق الورد لا يبالي أن يفقأ شوكة عينيه. . . وهي لذة الغراب حين يُنغض رأسه ويلوي عنقه ويخرج نعيقه في شناعة وإزعاج. . . وهي لذة الحمار حين يثور همه وحبه في صدره، فيخرجه صوتاً عميقاً خليطاً من البكاء والضحك. . . وهو عنده نشيد فيه فن وغزل وإغراء
وهكذا يملأ الغزل سمع الحياة من كل حي، والجميع في غفلة عن الغاية، إلا الذين ندُّوا عن حبال الشبكة المحبوكة الأطراف ووقفوا يديرون على أنفسهم وعلى الحياة وأبنائها.
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف