مجلة الرسالة/العدد 31/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 31/الكتب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1934



كتاب ابن خلدون

للأستاذ محمد عبد الله عنان

لقد ظهرت للأستاذ عنان مؤلفات شتى في اللغة العربية تختلف في

موضوعاتها، وتجول في أنحاء مختلفة من نواحي الأدب، ولكنها جميعا

تنضوي تحت لواء واحد، وهو لواء البحث، وتقصد إلى قصد واحد

وهو إحياء التراث القومي العربي، وإغناء التأليف في اللغة العربية.

ولعل الأستاذ من أغنى المؤلفين المصريين إنتاجا، فله كتب في الأدب، وأخرى في التاريخ، نذكر منها كتب: قضايا التاريخ والمحاكمات الكبرى، وكتاب (مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام) وكتاب (تاريخ الخطط المصرية) وكتاب (تاريخ الأندلس) وها نحن اليوم نتلقى منه كتاب (ابن خلدون) في ترجمة حياة ذلك المؤلف العربي الكبير وأثره في الحياة الفكر العالمية.

وليس لأحد أن يبحث في السبب الذي دعا الأستاذ إلى تأليف كتابه الجديد، فليس من العجيب أن يوجد في اللغة العربية كتاب في ترجمة حياة ذلك العالم الإسلامي العظيم، وإنما العجب أن تكون اللغة العربية خالية من مباحث شتى فيه وفي تحليل آرائه ودراسة مؤلفاته. فعلى أهل العربية شكر الأستاذ عنان على أن قام بأداء ذلك الغرض وكان أداؤه له أداء كريماً.

ولقد بين الأستاذ في مقدمة كتابه الدافع الذي دفعه إلى تأليف الكتاب فقال (أن هذه الدراسة التي أقدمها اليوم للتعرف بابن خلدون وتراثه، إنما هي وفاء التلميذ لاستاذه، التمست لكتابتها هذه الذكرى الستمائة لمولد المؤرخ والفيلسوف العظيم).

وقد قسم الأستاذ كتابه إلى أقسام: كل منها يتعلق بناحية من نواحي دراسته. فأولها يتعلق بحياة أبن خلدون وتطورها في مختلف الظروف والتقلبات وفيه ذكر للدول التي كانت له بها علاقة. وقد أفاض في وصف حياته في مصر وأثره في مجتمعها. والقسم الثاني وصف لما خلفه أبن خلدون من المؤلفات ولا سيما مؤلفه الأكبر (المقدمة) والقسم الثالث عرض لآراء الغربيين في أبن خلدون وأثره في مؤلفات أوربا في العصور الوسطى.

وقد حرص الأستاذ عنان في القسم الأول من كتابه على أن يصور المؤرخ الإسلامي الكبير تصويرا دقيقا تلمح فيه تفاصيل الملامح، ودقائق الأوصاف فتحس وأنت تقرأ وصفه أنك حيال رجل حي ينبض قلبه بأقوى المشاعر وتتحرك نفسه مع عوامل الحياة المضطربة حوله، ويفكر في كل مواقفه تفكيرا متناسقا متوافقا منطقيا مع نفسيته.

وانه لمن الأمور المعتادة في كتابة المترجم أن يقع الكاتب في خطأ المبالغة إذا كان بمن يترجم له، فان الكاتب إذا كان معجبا بالرجل الذي يصف حياته كان من السهل عليه أن يؤول كل أعماله وكل آرائه تأويل المعجب. ولكن الأستاذ عنان كان فوق هذه المرتبة، فان إعجابه بعقل ابن خلدون وقوة تفكيره لم يحمله على أن يتغاضى عن وزن مسلكه الخلقي في حياته، فكان في حكمه عليه من هذه الناحيه قاضيا غير محاب، لا يحمله الإعجاب على الإغراق والمبالغة. ومن ثم نراه يصفه بعد النقد والتمحيص وصفا فيه اللوم إذا كان في مسلكه ما يدعو إليه فيقول مثلا: (فكانت كسابقتها دليلا على ما تجيش به نفسه من الأثرة ونكران الصنيعة وانتهاز الفرص السانحة مهما كان انتهازها ينافي الوفاء والولاء والعرفان. كان ابن خلدون ينطق في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي اعجب به ميكافللي فيما بعد الخ) غبر أن الأستاذ عنان وأن لم يحمله الإعجاب على المبالغة لم ينس أن يعطي ابن خلدون حقه في التقدير الفكري فكتب فصلا بديعا في وصف عزلته ومؤلفاته وآخر في وصف ولاية للتدريس والقضاء. ويمكن أن يعتبرا آية من آيات التأليف الحر والبحث الدقيق. ثم ختم بحثه بفصل بين فيه أثر ابن خلدون في التفكير المصري صور فيه صورة واضحة للرجل والعصر حتى ليكاد الإنسان يرجع حيا إلى ذلك العصر، ويحس ما كان الناس يحسونه فيه من تنازع في العواطف بين صديق معجب وحاسد كاره وناقد متجن وهو في كل ذلك يبين الأسباب التي تحت المظاهر ويرد الأمور إلى عللها وأساسها. وقد عاد الأستاذ عنان بعد تحليل شخص ابن خلدون إلى تحليل آرائه فختم بحثه بالكتاب الثاني وهو في وصف تراث ابن خلدون الفكري والاجتماعي، فبين مجمل آرائه ووجهة نظره فيها، ثم بحث تطور آرائه الاجتماعية فتتبعها فيما كتب المؤلفون من قبله، ثم عقب بما كتب من بعده في الموضوع نفسه. وكانت خاتمة هذه البحوث فصل طريف عن رأي النقد الحديث في ذلك المؤلف وهو باب قلما يعني به الكتاب عند كلامهم على مؤلفي الإسلام.

ولعله لم يسبق أحد إلى الإفاضة في المقارنة بين آراء ابن خلدون وآراء ميكافيللي الإيطالي مؤلف كتاب (الأمير) المشهور وقد خرج من تلك المقارنة إلى رأي طريف في مقدار الصلة التي بين المؤلف الأوربي والمؤلف العربي الذي سبقه بنحو قرن من الزمن.

فكتاب الأستاذ عنان كتاب شامل على صغر حجمه دقيق على سهولة مأخذه وسلامة أسلوبه. وإنني لأهنئ الأستاذ به وأرجو منه المزيد في هذه البحوث التي ظهر فيها فضله إلى هذا المدى.

م. ف