مجلة الرسالة/العدد 31/النفس والرقص

مجلة الرسالة/العدد 31/النفس والرقص

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1934



للكاتب الشاعر الفرنسي بول فاليري

ترجمة الدكتور طه حسين

- 4 -

فيدر - لنستمتع لحظة أخرى في سذاجة بهذه الأعمال الحسان!. . . كأمها تقدم الهدايا عن يمين، عن شمال، إلى أمام، إلى وراء، إلى فوق والى تحت، من الطيب ومن البخور ومن القبل، وحياتها نفسها تهديها إلى كل مكان في الكرة والى قطبي الكون.

إنها ترسم ورداً وشباكاً، ونجوماً من الحركات، وأسواراً سحرية. . . . إنهاً تثب فتتجاوز الدائرة التي لا تكاد تغلق. . . إنها تثب وتجري في أثر الأشباح. . إنها تجني زهرة لا تلبث أن تستحيل إلى ابتسامة. . . ما أعجب ما تنكر وجودها في خفة لا تنقضي!. . . إنها لتضل بين الأصوات ثم يردها إلى الهدى خيط ضئيل. . . هو المزمار المعين الذي أنجاها! يا لعذوبة اللحن!. . .

سقراط - كأن ما حولها ليس إلا أشباحاً. . . . إنها تلد هذه الأشباح وهي تهرب منها، ولكنها إذا التفتت فجأة تخيل إلينا أنها تتراءى للآلهة الخالدين!. . .

فيدر - أليست هي روح الاساطير، وما ينفذ من جميع أبواب الحياة!

أركسيماك - أتظن أنها تعلم من هذا شيئاً؟ أو أنها تفاخر بأنها تنتج شيئاً إلا هذه الحركات التي تأتيها حين تغلو في رفع قدميها، وهذا التوقيع وهذه الالتواءات التي أتقنتها في مشقة حين كانت تتعلم الرقص.

سقراط - من الحق أننا نستطيع أن نلاحظ الأمر تحت هذا الضوء الذي لا سبيل إلى إنكاره. . . . فالعين الهادئة تنظر إليها في يسر كما تنظر إلى مجنونة. هذه المرأة التي اجتثت من اصلها اجتثاثاً غريباً، والتي لا تنفك تنزع نفسها من صورتها على حين قد جنت أعضاؤها فهي تتنازع الأرض والهواء، وعلى حين يستلقي رأسها فيجر على الأرض شعراً مفرقا، وعلى حين تظهر إحدى ساقيها كأنها أخذت مكان الراس، وعلى حين تخط صبعها في التراب علامات لا أدري ما هي!. . . . وبعد، فلم هذا كله؟ - يكفي أن تثبت النفس وان تمتنع فإذا هي لا تلاحظ إلا ما في هذا الاضطراب من غرابة تدعو إلى الاشمئزاز. . . فلو أردت يا نفس كان كل هذا سخيفاً.

أركسيماك - وإذن فأنت تستطيع حسب استعدادك أن تفهم وإلا تفهم، وان ترى الشيء جميلاً أو تراه سخيفاً كما تحب وتهوى؟

سقراط - يجب أن يكون ذلك كذلك. . . .

فيدر - أتريد أن تقول أيها العزيز سقراط أن عقلك ينظر إلى الرقص كأنه شخصغريب يحتقر لغته ويرى أخلاقه شاذة بل مؤذية بل فاحشة كل الفحش.

أركسيماك - يخيل إلي أحياناً أن العقل هو الملكة التي تمتاز بها نفسناً والتي تمنعها من أن تفهم جسمنا بأي حال من الأحوال!

فيدر - أما أنا يا سقراط، فان ملاحظة الرقص تمكنني من أن أتصور أشياء كثيرة وأتصور الصلات بين أشياء كثيرة. وهذه الأشياء تصبح فوراً فكرتي الخاصة وتكاد تفكر مكان فيدر. واجد ضوءاً ما كنت قط لأجده في الخلوة إلى نفسي وحدها. ولقد كانت اتكتيه منذ حين تخيل إلى أنها تصور لي الحب. - أي حب؟ - لا هذا ولا ذاك، ولا أي مغامرة سخيفة! - لم تكن تصور شخص الحبيبة من غير شك. . . لم تكن تخيل، لم تكن تمثل! كلا. كلا. لم تكن تخترع الخيال. . . ولم نتكلف أيها الصديقان حين نستطيع أن نتصرف في الحركة وفي المقدار وهما خير ما في الحقيقة من الحق؟. . كانت إذن حقيقة الحب ولكن ما هذه الحقيقة؟ ومم هي؟ وكيف تحديدها أو تصورها - ونحن نعلم أن روح الحب إنما هي الفرق الذي لا يقهر بين العاشقين، على حين أن مادة الحب الرقيقة إنما هي اتحاد رغبتهما فيجب إذن أن يلد الرقص بدقة معالمه، وبجمال وثباته، وبرقة وقفاته، هذا الكائن الكلي الذي ليس له جسم ولا وجه، ولكن له منحاً وأياماً ومصائر ولكن له حياة وموتاً بل ليس هو إلا حياة وإلا موتاً، فان الرغبة إذا نشأت لم تعرف نوماً ولا هدنة.

ولهذا تستطيع الراقصة وحدها أن تظهره للعيان بأعمالها الحسان. كلها يا سقراط، كان الحب!. . . كانت لعباً وبكاء وتكلفاً لا غناء فيه، سحر، سقوط، منح والمفاجاءات، ونعم ولا، وكل هذه الخطى الضائعة في حزن. . كانت تحتفل بكل أسرار المحضر والمغيب، وكأنما كانت أحياناً تمس الكارثة التي لا تمحي. . . ولكن الآن انظر إليها تقرباً إلى أفروديت. أليست تظهر فجأة كأنها موجة من موج البحر؟ طوراً أثقل؛ وطوراً أخف من جسمها، تثب كأنما تفصل عن صخرة، ثم تسقط في هدوء. . . هي الموج.

أركسيماك - مهما يكن من شيء فان فيدر يزعم أنها تصور شيئاً.

فيدر - ماذا ترى يا سقراط؟

سقراط - في أنها تصور شيئا؟

فيدر - نعم. أترى أنها تصور شيئا؟

سقراط - لا شيء أي فيدر العزيز. ولكن كل شيء أي اركسيماك - تصور الحب كما تصور الحياة نفسها وكما تصور الخواطر والآراء. . . إلا تشعران بأنها خلاصة التحول؟

فيدر - أي سقراط الملهم انك لتعلم أي ثقة ساذجة نادرة قد توثقت بنورك الذي لا نظير له منذ عرفتك. لا أسمعك إلا صدقتك، ولا أصدقك إلا استمتعت بنفسي التي تصدقك. ولكن القول بان رقص اتكتيه لا يصور شيئاً ولا نكون فوق كل شيء صورة لقوة الحب وظرفه قول لا أكاد أطيق الاستماع له.

سقراط - لم اقل - إلى الآن شيئاً يبلغ هذه القسوة! - أيها الصديقان إني لا أزيد على أن أسألكما ما الرقص، وكلاكما يظهر علماً بالجواب، ولكنكما تعلمانه على اختلاف بينكما! أحدكما يقول إن الرقص هو ما هو، وانه ينحل إلى ما ترى أعيننا هنا. والآخر يؤكد انه يصور شيئا، وإذا فليس هو كله في نفسه وإنما هو في أنفسنا قبل كل شيء. أما أنا أيها الصديقان , فما زلت احتفظ بشكي كاملا!. . خواطري كثيرة، وليس هذا علامة خير!. . . كثيرة مختلطة ومزدحمة حولي على السواء. . .

أركسيماك - أتشكو من الثروة!

سقراط - إن الثروة تضطر إلى السكون، ولكن رغبتي حركة يا اركسيماك. . . أنا محتاج الآن إلى هذه القوة الخفيفة التي تمتاز بها النحلة، كما تمتاز بها الراقصة. . . يحتاج عقلي إلى هذه القوة، وهذه الحركة المركزة اللتين تعلقان الحشرة فوق جماعة الزهر وتجعلانها حكما ناطقا فيما بين رحيقها من اختلاف. وتقدمانها كما تحب إلى هذه أو إلى تلك، إلي هذه الوردة البعيدة بعض الشيء وتسمحان لها بان تمسها أو تتركها أو تمعن فيها. . . هي تنأى فجأة عن الزهرة التي فرغت من حبها. ثم تعود إليها إذا أحست الندم لأنها تركت فيها بعض الرحيق الذي ما تزال ذكراه تتبعها، وما تزال لذته الماضية تنغص عليها طيرانها. أو يحتاج عقلي يا فيدر إلى هذا التنقل الدقيق الذي يتاح للراقصة، والذي إذا انسل بين خواطري أيقظها في رفق واحداً اثر واحد، وأخرجها من ظلمة نفسي وأظهرها لضوء عقليكما، في خير نظام بين النظم الممكنة!

فيدر - تكلم، تكلم. . إني لأرى النحلة على فمك والراقصة في نظرتك.

طه حسين