مجلة الرسالة/العدد 31/دراسات أدبية

مجلة الرسالة/العدد 31/دراسات أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1934



بلاسكو ايبانيز

نقل رفاته من منفاه إلى مسقط رأسه

بقلم محمد أمين حسونة

رأت الجمهورية الأسبانية وقد تحققت أطماع رجالها السياسية واستقرت حركتها الانقلابية الدستورية، أن تمجد الرجل الذي تقدم الصفوف ونفخ في بوق الثورة، فذهب ضحية مبادئه، بعيدا عن البلاد التي لبث نصف قرن ونيفا يخلص لها الحب، حتى كانت (إسبانيا) آخر كلمة لفظتها شفتاه، وهو يعاني الآم الموت في منفاه. فلم تجد أليق من أن تعبد رفاته إلى وطنه ليضمه ثرى (بلنسية) وهي البلدة التي انبثق من نواحيها فجر هذه العبقرية الفذة التي نتحدث عنها.

فمن أسابيع خلت، احتفلت الحكومة الأسبانية رسميا بنقل رفات الكاتب الشهير (بلاسكوايبانيز) من مدينة (منتون) بفرنسا، على ظهر بارجة حربية حملته إلى مسقط رأسه، وقد كان الاحتفال بوصول رفاته يوما مشهودا في تاريخ إسبانيا، ساهم الشعب فيه بإظهار عواطفه السامنة، نحو الرجل الذي لبث يجاهد ويناضل ويذكي في وطنه من حرارته وفتوته، لتظل فوهة البركان أبدا مشعلة وهاجة!

عاش ايبانيز طيلة حياته متمرداً ثائراً، لا يهدأ ولا يستقر ولا يعرف لبدنه عليه حق، كأنه موكل بتسخير قوى الطبيعة لخدمتة حتى قيل: إنه سحابة من نار.

طالع في فجر شبابه كل كل ما كتب عن الثورة الفرنسة، وكان يشبهها (بالهرة) عندما تجوعلا تلبث أن تأكل صغارها، ولكن الثورة لم تأكل صغارها، بل أكلت زعماءها: دانتون، ومارات وروبسبير. وكان مفتوناً بروسو وفولتير، يعجب بهما ويقول: هما اللذان مزقت أفكارهما وثائق العبودية، وبفضل مبادئهما اشتدت روح الثورة، غذاها الاول من ناحية القلب، والثاني من ناحية العقل.

ولد بلاسكو فيسنت ايبانيز في 29 يناير سنة 1876 بمدينة بلنسية، وهي حاضرة المقاطعة المسماة باسمها، وقد اشتهرت بكتدرائيتها الأثرية ومنها خرجت طائفة من اعظم فنان إسبانيا في القرن الرابع عشر، وقبل أن يبلغ العشرين من عمره، اصدر صحيفة أسبوعية كانت تبث المبادئ السياسية المتطرفة في ذلك الوقت، كالجمهورية، والدعوة إلى الاشتراكية ونحو ذلك، وحدث أن قدم ايبانيز إلى برشلونة - مهد الثورة - ليخطب في حفل سياسي، فتناول في خطابه الجمهورية والملكية، وأخذ يفاضل بينهما، فقبض عليه رجال البوليس، ولكنه قاومهم واعتدى عليهم فحكم عليه بالسجن، غير أنه خرج من السجن وقد ازداد إيمانا بمبادئه وتحفزاً إلى تحقيقها، فكون (الحزب الجمهوري الحر) وتقدم في ضوء هذه المبادئ إلى الانتخابات، ففاز بالإجماع وانتخب نائبا في البرلمان الإسباني عن مقاطعة (بلنسية) ولم يمنعه اشتغاله بالسياسة من ان يتفرغ للأدب والكتابة، وهو بلا شك أعظم كاتب ظهر في إسبانيا إلى اليوم، خلف وراءه ثروة أدبية زاخرة، تبلغ الثلاثين كتابا، كل صفحة منها مشرقة إشراق النجم!

أم تقتصر ثورته على الأوضاع السياسية التي كانت تشكو منها بلاده فحسب، بل عرف أنه كان هداما في دائرة الأدب أيضاً، ليبني على أنقاض القديم وجموده، أدبا جديدا حيا له طابعه ومميزاته الخاصة، والحقيقة أن العصر الذي بدأ فيه ايبانيز حياته الأدبية، كان في حاجة إلى من يقوض أركانه، وكان يقول: نحن في حاجة إلى الثورة الأدبية التي تدفعنا إلى كشف مواطن الجمال وتؤدي بنا إلى النور.

ولكن هل أثرت تعاليم ايبانيز حقا فأخرجت الأدب الأسباني من الظلمة إلى النور؟ أن من يتذوق ذلك الفن العميق الرائع الذي خلده ايبانيز في قصصه الممتعة، أمثال: في ظل الكنيسة، وامرأة (جويا) العارية، وفرسان الرؤيا الأربعة، وفاجعة البحيرة، وبحرنا، وزهرة مايو، وأعداء المرأة، ورمل ودم، والأراضي المجهولة الخ، ذلك الفن الذي كان يعتمد في إبرازه على جمال التنسيق ودقة الوصف، وإرهاف العاطفة ويكسوه بإشعاع الروح الدرامي الغامر، حتى يجتهد في أن يجعل من أدبه مرآة صافية لفنه الجميل، تنعكس عليها مختلف الصور والأحاسيس، فتشعر وأنت تطالع قصة له أن شعورك ووجدانك مرتبطان تماما بحوادثها، وأنها تمثل بلاده ونفسيتها أبلغ تمثيل، وقد لا يصرفه كلفه باللوحة ومحاولة إظهار مكامن الفتنة في الصورة، عن العناية بالإطار نفسه، فتجده يقتنص المعاني ويصقل الألفاظ كما يصقل النحات الأحجار قبل البناء، وولعه بالطبيعة يدفعه إلى ان يجاري (زولا) فيرسم أبطاله وهم يعيشون بين مهادها بعيدين عن تلك العاطفة الزائفة التي تولدها الحياة المصطنعة في المدن، كما أن، إعجابه بالبحر المتوسط - مهد جميع البطولات والأديان - يوحي إليه أن يمجد من أعمال رجاله. عوليس، وبركليس، وهنبيبال، والاشادة بشجاعة فرسانه، ولك في قصته الخالدة

لفت ايبانيز أنظار العالم الأوربي إلى فنه خاصة والى الأدب الإسباني عامة، فترجمت مؤلفاته إلى اللغات الحية وأولع الفرنسيون بقصصه فقلدوه وسام (جوقة الشرف)، وهتف له شيوخ النقدة، فوصفه كورتوس النقادة الألماني (بأن فيه عباره عن مأساة الخير والشر)، وقال أحد القصصيين الأمريكيين (لقد بدأ ايبانيز ينافسنا في صناعتنا، والاوفق أن نحطم أقلامنا ونبحث عن صناعة غير الأدب لنعيش)!

وقد غرست مبادئ فولتير في نفسه كراهية رجال الدين والسخرية من أعمالهم، ففي قصته المسماة ' (في ظل الكتدرائية)، يصور لنا مفكرا اشتراكيا هو (جبريل لونا)، يطالب بالإصلاح الاجتماعي فيكون نصيبه الاضطهاد من الكنيسة، فيثور على رجالها ويحتج ويغادر بلده بعد ان يؤمن بأن لا كرامة لنبي في وطنه! ويطوف باوربا ليبشر بمبادئه، غير أن السلطات تطارده أينما حل، فيعود أخيرا إلى بلده مقصوص الجناح كسيرا، ويضطر إلى ان يعيش متخفيا مع أخيه الذي يعمل خادما (بالكتدرائية)، أي يعود فيأكل من خبز الكنيسة التي يضمر لها البغض، حتى إذا ما اشتد ساعده اخذ يكفر بنعمتها ويؤلب الجموع عليها، يتخذ من خدامها تلاميذ له، ويبث مبادئه بينهم، فلا تلبث هذه المبادئ أن تسري كالسم في أبدانهم، يحملهم على سرقة أموالها وتحفها، ولكنهم في خلال السرقة يقتلونه ويمثلون به اشنع تمثيل!

ولعل فن ايبانيز يبدو قويا واضحا، وأفكاره مستوية ناضجة في القسم السادس من القصة، عندما يحمي وطيس المناقشة بين جبريل واحد اتباعه، فيبسط أمامه حالة إسبانيا وجمود الكنيسة، ويتعرض للفترة الذهبية من تاريخها، فيذكر ان الإسبانيين اعظم من اليونان والبيزانطين، فهم الذين اهدوا البشرية (الدنيا الجديدة) وهم أرستقراطية الشعوب وسادة البحار، قادوا الرواد في سياحاتهم حول الكرة وجابوا الآفاق وبعثوا المدنية من مرقدها، ولو أنصف التاريخ لجعل بلادهم وطن العالم الأول! أما في قصته (رمل ودم) فهو المتهكم اللاذع، صاحب الأسلوب المتدفق الفياض، يرسم لنا في لياقة وسحر، حياة مصارعي الثيران فلم يحاول أن يقلل من خطر هذه المصارعة الوحشية، ولكنه هاجم الأرستقراطية التي تبني مجدها وتسليتها على شقاء هؤلاء المصارعين الذين يطلقون عليهم اسم (التربادور). فبطل هذه القصة (جوان جالا رادو)، فتى يخرج من صفوف الشعب ليشق طريقه إلى المجد بقوة ساعديه فيتمرن على مصارعة الثيران ولا يلبث أن يبذ أقرانه ويتألق هجمه، وتمكنه شهرته وحياته الجديدة من ان يستمتع بكل ما كان يصبو إليه في صغره، يحارب الفقر والجوع وينعم بالزواج ووفرة المال، ولكن القوة والشهرة لا تدومان، فهو يخشى ان يفقدهما عندما يقف في ساحة المصارعة حاملا حياته بين ذراعيه، ويرسم ايبانيز إلى جانبه صورة أخرى يحملنا على التهكم والازدراء بها: صورة (كورنتيس) وجدانية الحس متقلبة الأهواء تدعى (دوناسول)، بعد أن تنتزع (جالارادوا) من أحضان زوجته، تحبه، وتعبده كبطل وتحاول أن تقرن نجمها بمجده وشهرته، ولكن عندما تحس بالفارق بينهما كامرأة أرستقراطية تنحدر أصلاب الأشراف، وبينه كرجل من عامة الشعب. تحتقره وتتخلى عنه، فيهوى نجمه ويفقد توازنه وهو في ساحة المصارعة فينشب الثور قرنيه في صدره ولا يلبث أن يقع مضرجا على الأرض حيث تسيل دماؤه وتمتزج بالرمال، يحملونه إلى الخارج جثة هامدة ولكن الجمهور لا يلبث بعد قليل أن يصفق ويصيح طالبا مشهدا جديدا ليشبع نهمته ويرضى غريزته التي طبعت على ذلك، منذ أن شهدت الدماء الأولى وهي تجري على الأرض: دماء هابيل.

وايبانيز قوي الإيمان بروح الحضارة العربية التي سادت إسبانيا وظلت ترفرف فوق ربوعها زهاء ثمانية قرون؛ تلك الروح المتوقدة التي نفذت إلى الغرب فعلمته كيف يخلق من الحب أدبا عاليا ومن المرأة صنما معبودا، ما برحت تمد المعجم الإسباني بربع مفرداته وان تشع أنوار خيالها فتلهب قرائح كتابها وتسعر بحرارتها دماءهم فتدفعهم إلى كتابة، دون كيشوت، وكونده لوكانور، وغيرهما مما نرى آثار الفروسية العربية كامنة بين سطورها، بل أن أثر هذه الروح ليبدو واضحا تماما في مؤلفات وأشعار سلفادور، رويدا، والفريدو بلانكو، وبيرس فالنتي وغيرهم ممن نراهم متأثرين بالخيال العربي الباهر.

لقد صهر بلاسكو ايبانيز بنار عاطفته المشبوبة تخيلاته عن حضارة أجداده العرب، فأودعها في بعض قصصه ودافع عنها في حماسة ويقين، فهو وان كان يكتب بلغة أسبانية، إلا انه كان يفكر قبل كل شيء بروح عربي، وقد خلف وراءه أنصارا يحاولون اليوم جهدهم تحقيق ما كان يصبو إليه من إعادة الحضارة العربية إلى (الفردوس الإسلامي المفقود) كي تنتعش النهضة الحاضرة من تراثها الخالد، وإعادة التعليم باللغة العربية - مفتاح الثقافة الإسلامية في إسبانيا - ونشرها بين الجامعة ودراسة آدابها العالية؛ وسوف يكون شأنهم بالنسبة لها في أوربا شأن الموارنة عندما خدموها في الشرق خلال العصور الغابرة.

ينشر ايبانيز ظلال أفكاره هذه على صفحات روايته (في ظل الكنيسة) فتراه يمجد من شأن هذا الروح العربي ويصف شعوره على لسان أحد أبطال قصصه فيقول:

(إن تاريخ إسبانيا الباهر لم يأت إليها من الشمال ولا من الكنيسة، بل من الجنوب ومن العرب، هؤلاء الرجال سمر الوجوه الذين وصلوا إلى شواطئنا في القرن الثامن من شمال أفريقيا بعد أن سيطروا في انتصاراتهم على أرقى الشعوب، حملوا إلينا الحضارة والتمدن، حضارة أجيال امتزجت ببعض، قوامها فلسفة الهند وثقافة الفرس وآداب اليونان وفن البيزانطيين وأشياء أخرى من الشرق ومن الصين.

(احتضنت إسبانيا العرب، ومكنتهم في مدى عامين من أن يستولوا على حضارة سبعة أجيال، رحب الشعب بهم لأنهم فكوا وثاقه من استبداد ملوكه السابقين، وكان استعمارهم استعمار الحضارة والنور والتسامح الديني لا استعمار الوحشية والسلاح!

(وعندما استوطن العرب إسبانيا، جعلوها. . كالولايات المتحدة الأمريكية) في العصر الحاضر، تعيش فيها جميع الأديان في حرية ومساواة، من غير تحيز ولا تعصب، وفي الوقت الذي كانت شعوب الشمال تعيش في ظلمات الجهالة وتتطاحن في الحروب الدينية وتختلط بالأقوام البربرية، كان العرب والإسبان واليهود، يعيشون كتلة واحدة في وئام، يعملون في سبيل إسعاد إسبانيا ورفاهية شعبها، فتأسست دور العلم والجامعات وازدهرت الفنون وارتقت العلوم ونشطت المواردالاقتصادية وبدأت إسبانيا تستيقظ لتشهد أنوار فجر جديد!

(وماذا عمل ملوك الكثلكة الذين أتوا إلينا من الشمال بعد ذلك؟ نشروا الإرهاب ومحاكم التفتيش، أجلوا العرب واليهود، طردوا العبقرية والحضارة، واحلوا مكانهما: الدين والتعصب، أطفأوا مصابيح العلم التي كانت تضاء من المساجد الإسلامية والبيع اليهودية، ليضعوا مكانهما قناديل الجهل والجمود وخرافات رجال الكنيسة، وعندئذ بدأت إسبانيا تتلاشى من العالم وتموت).

يتشعب بنا الحديث لو شئنا ان نتحدث عن ايبانيز لنوفيه حقه، وخير لنا أن نرجئ هذا إلى فرصة يكون فيها المجال أكثر اتساعا، وإنما نختم هذه الكلمة بان نقول، انه لما شبت نار الثورة الإسبانية الأخيرة التي انتهت بإعلان الجمهورية، كان ايبانيز في مقدمة من يثيرون الخواطر ضد دكتاتورية الجنرال بيمودي رفيرا، فاشتدت الخصومة بينهما، وكان ايبانيز عزوفا عن الضيم فاتهم الملكية في وطنيتها، وكان هذا هو السبب في إبعاده عن إسبانيا ونفيه.

محمد أمين حسونة