مجلة الرسالة/العدد 31/صحائف المجد والخلود
مجلة الرسالة/العدد 31/صحائف المجد والخلود
الفن المصري القديم
- 3 -
مصر ملتقى ثقافات العالم:
مرت بمصر في مدى نيف وسبعة آلاف من السنين، من عهد ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا، أربع مدنيات عظيمة: المدنية المصرية أو الفرعونية. وهي عصر قدماء المصريين وملوكهم حتى دخول الإغريق مصر واتخاذهم الإسكندرية مقراً للحكم، والمدنية الإسكندرية، وهي عصر الإغريق والرومان الذين كانت الإسكندرية في عهدهم عاصمة البلاد. والمدنية المسيحية (أو القبطية البزنطية) وهي عصر خضوع مصر للديانة المسيحية وظهور الأقباط. ثم المدنية الإسلامية، وتبدأ بدخول العرب وتغلب الديانة الإسلامية على البلاد.
ومن ذلك تجمع مصر لنا في آثارها أعظم سجل للحضارات البارزة، وأجل كتاب يقرأ عن العصور المتعاقبة في تاريخ الإنسانية. دع عنك ما شهدت مصر من مختلف الشعوب التي تتابعت على أرضها في الفتوح المتوالية، وما تركت هذه الدول في وادي النيل من صور للثقافات المتباينة. حتى لتكفي مصر وحدها أن تعطي لمن يرغب في دراسة الفن كل شيء، وتكفية المؤونة في كل ما يريد عمله. وإننا إذا وضعنا تحت عيني القارئ بأن أديم مصر قد كان مسرحاً كبيراً لغالب الأمم التي عرفها التاريخ، مثلت فيه كل واحدة دورها، وصرعت عليه أمة بعد أمة. وإذا أشرنا إلى أن كل أمة من هذه الأمم تركت على هذا الأديم أثراً من ثقافتها، وأثراً من نفسيتها، إن كان كبيراً أو ضئيلاً. فقد تكون مصر وحدها أجدر دول التاريخ بالدراسة. فضلاً عن أنها المصدر الأول للمدنيات جميعاً.
ويكفي لنقرر كيف جمعت مصر في أرضها حضارات العالم بأجمعه بان نشير إلى العناصر التي دخلت فيها من الحروب والفتوح، مدى التاريخ القديم حتى يومنا هذا. فقد تعاقب على مصر من عناصر الأمم المختلفة: الساميون. والهكسوس (البدو الرعاة). واللوبيون. والأتيوبيون (النوبيون). والآشوريون. والفرس. والإغريق. والرومان. والعرب. والمغاربة. والأكراد. والشراكسة. والأتراك. والفرنسيون. والإنجليز. وقد احتك بها فوق ذلك من الأمم الأخرى: الحثيون. والكلدانيون. والفينيقيون. فلا عجب أن تكون مصر خير أمة يجب دراسة تاريخ الفن فيها. بل ما أجدرها أن تجتمع حولها الدنيا الحديثة لترقب في آثارها وسجلاتها صوراً خالدة من الدنيا القديمة. وتقرأ في مظاهرها المتباينة جليلا من كتب المجد لم تجمعه أمة غير مصر.
وقد يجب أن تعتبر مصر ملتقى ثقافات الشرق بالغرب. بل إن ثقافة مصر ذاتها نشرت على البلاد المجاورة لها نوراً كان له الأثر الأهم في حضارتها وتفكيرها.
ونأخذ دليلاً على ذلك فتوح مصر القديمة على يد جيوش (تحوتمس الثالث) و (رمسيس الثاني) مثلاً. فان أمثال هذه الفتوحات قد ترك في كل مكان، من الغرب للشرق، ومن المال للجنوب، أثرا، لا تزال بقاياه تشاهد في الآثار الموجودة حتى أقصى الفرس، وحتى أقصى بلاد المغرب، وحتى أواسط أفريقيا.
ولكن مصر ظلت مدى هذه التطورات التي مرت بها محافظة على قومية خاصة في فنها لم تعرف لها ظاهرة في أي أمة أخرى. ففي عهد المدنيات الأربع المتعاقبة على تاريخها، التي ذكرناها، وفي عهد الاقتباسات الفنية القليلة التي دخلت على الفن المصري في بعض فترات من التاريخ، كان للفن عندها طابعه الخاص. لا يخطئ قوميته أو روحيته الملازمة له. فهي إن كانت في إبان المدنيات الأربع قد انتقلت من عصر إلى عصر، يكاد يكون كل واحد منه غريباً عن أخيه في ثقافته ونظامه، حتى ليظهر جديداً كل الجدة عما كان مألوفاً من قبل. وان كانت الحياة قد تطورت عندها، من مصرية فرعونية، إلى إغريقية ورومانية، إلى مسيحية وقبطية، إلى إسلامية، إلا أن الفن في إبان هذه الثقافات الطارئة كان مصرياً. مصري الشخصية والروح. أو أن البلاد تمصر فيها الفن، أو هي مصرت فن كل مدينة من تلك المدنيات، وذللته ليلائم طبيعة مصر، ويتمشى مع ذوقها.
وان كان من شاهد يطلب على ذلك، فقد نشير إلى آثار الفن في العصر الذي حكمت في مصر فيها الإغريق والرومان مثلن ونقارنه في نفس الوقت بما كان من اثر الفن الإغريقي والروماني في بلاد الإغريق والرومان ذاتهما. فلاشك سيظهر ذلك الفرق واضحاً بين روحية الفن في المكانين في الإغريق والرومان متشحاً بذلك الوشاح الظاهر من الإجهاد والتعمق. وفي مصر بسيطاً وديعاً رشيقاً.
وكما نطبق هذه الحال على العصر الإغريقي والروماني، نطبقها أيضاً على العصر المسيحي القبطي، الذي كان فاشياً فيه نوع الفن البيزنطي. فان نفس تلك الظاهرة التي بيناها ستفرق ما في مصر عما كان مألوفاً في ذلك العهد من نفس نوع الفن في القسطنطينية مثلاً، مهبط الفن البيزنطي.
وهكذا أيضاً الفن الإسلامي. فقد يكفي بلا كبير عناء مقارنة ما في مصر من آثاره بما هو موجود في بلاد المغرب مثلاً التي نقلت إلى مصر الأسلوب الفاطمي. أو ما هو موجود منه في بلاد العراق وسوريا اللتين ارتبطت مصر في طويل من الزمن معهما في عصر من الأسلوب والشكل. فقد خضع الفن الإسلامي نفسه في جو مصر لمزاج أهل مصر، وللروح المصرية. في حين أن له في كل مكان، وفي بلاد الإسلام جميعا، صبغة عالمية. فاضطر الفن لذلك أن يتكيف في الأرض المصرية بالطابع الذي تتميز به مصر دائما، وهو طابع الاحتشام والبساطة والرقة الذي يعطي مع ذلك أروع وألطف ما يكون من التأثير.
وحينئذ فقد بقي لمصر فنها الخاص بها، المنطبع بالطابع المصري الصميم، الذي لم يخطئ غرضه، ولم يشذ عن طريقه، منذ أخذت مصر مكانها تحت الشمس. وفي ذلك سر من أسرار عظمة مصر الفنية التي نعترف لها بها التاريخ.
وإذن فالفن المصري جدير بالدراسة قبل كل الفنون الأخرى. إذ هو فضلا عن كونه فنا محليا غير مقتبس في اصله من أي بلاد أجنبية، بخلاف غيره. وفضلا عن انه الفن الوحيد الذي احتفظ مدى التاريخ بشخصيته الخاصة التي اقترنت باسم مصر. فانه المرأة التي تعكس علينا ثقافات الأجيال المتعاقبة مجتمعة في سجل واحد، هو الآثار المصرية القديمة.
ودون ذلك يجب إلا ينسى فضل الفن المصري على فنون العالم، في انه المصدر أو المدرسة الأولى التي تلقنت عنه دروس الفن أمم الأرض جميعا.
(يتبع)
أحمد يوسف
بالمتحف المصري