مجلة الرسالة/العدد 31/فلسفة سبنسر

مجلة الرسالة/العدد 31/فلسفة سبنسر

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 02 - 1934



للأستاذ زكي نجيب محمود

تمهيد

تستطيع أن تصور لنفسك الحركة الفكرية في أوربا في القرن الماضي بند ولا يتذبذب من طرف إلى طرف، ونقفز من النقيض إلى النقيض، وليس في ذلك نبو أو شذوذ، إنما هي الطبيعة الإنسانية، أو إن شئت فقل هي طبائع الأشياء جميعا، إذا ما تطرف بها الموضع، لا تستطيع أن تتوسط في مقر معتدل مطمئن قبل أن تجذبها الدفعة إلى أقصى الطرف الآخر. وهكذا خضعت الفلسفة في القرن التاسع عشر لما تخضع له الأشياء جميعا، فاهتزت بها الأرجوحة بين طرفي النقيض. ففي أوائل القرن الماضي طوح بها هجل في بيداء الغيبيات والتجريد فلا تكاد تقرأ شيئا منه، حتى تضل في عالم وراء هذا العالم المحس الملموس، فليست الطبيعة عنده شيئا، وما وراء الطبيعة هو كل شيء. ولكن لم يكد ينسلخ من القرن نصفه الأول ويضرب الناس في أحشاء النصف الثاني حتى نفر العقل الإنساني من ذلك الفكر المجرد، وسئم تلك الميتافيزيقا المعقدة الموحشة، وأعياه هذا العبء الثقيل. فألقاه عن كاهله غير أسف، وقفز الفكر إلى النقيض الآخر، فنهضت فلسفة جديدة تنكر غيبيات هجل وأشياع مذهبه، وتنتقل بالإنسان إلى ضرب آخر من ضروب الفكر، فبعد أن كانت تتناول بالدرس حياة لا يربطنا وإياها إلا الخيال الشارد، أخذت تعالج مظاهر هذا العالم الواقع المحسوس. نعم انتقلت الفلسفة إلى المعرفة اليقينية الإيجابية. وكان حامل اللواء في هذه الحركة أوجست كنت في فرنسا، ثم دارون وسبنسر في إنجلترا.

وكان طبيعيا أن تنشا هذه الفلسفة الإيجابية في فرنسا، لأنها موطن اللا أدرية والشك، وهما طريق لا بد أن تؤدي يوما إلى الإيمان واليقين مهما امتد بها الزمان، ثم كتب لهذه الحركة الإيجابية أن تصل بتيار الفكر في إنجلترا الذي استمد روحه من الصناعة التي تدوي أرجاؤها في كل ربع من ربوعها، والتي تقوم على العلوم أولا واخرا، فليس عجيبا أن يصوب الفكر الإنجليزي ناظريه نحو الحقائق التي هي المعين الذي تستنبط منه العلوم بأسرها وان يضرب بكل ما وراء الطبيعة عرض المحيط. . وقد كان بيكون أول من انتحى بقومه ذلك النحو من التفكير، ثم تأثر خطوه من جاء بعدهفلاسفة الإنجليز: هوبز ولوك وهيوم.

عني الإنجليز إذن بدراسة ما حولهم من أحياء وأشياء. حيث آمنوا إيمانا قاطعا أنها هي الحقائق التي لا حقائق بعدها، فنتج عن هذه الدراسة علوم الطبيعة والكيمياء وسائر العلوم جميعا، بما في ذلك علم الحياة الذي كانت نظرية التطور ثمرة من قطوفه. وقد فصلها دارون في كتابه اصل الأنواع تفصيلا ضافيا، فكان لها دوي ارتجت له أركان الجامعات ومجامع العلم في أنحاء العالم، ثم جاء على الأثر فيلسوفنا سبنسر حيث استوى على ذروة بلك الموجة الفكرية فتناول مبدأ التطور وأخذ يطبقه على كل ناحية من نواحي التفكير. وها نحن أولاء نورد لك خلاصة موجزة لأهم ما جاء في كتبه من آراء.

1 - الحقيقة المغلقة، أو ما لا يمكن معرفته

يقدم سبنسر بين يدي كتابه (المبادئ الأولى) قضية لا يرتاب في صدقها، وهي أن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون واستقصاء علتو، لابد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزا لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئا، سواء سلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم أو ما شئت من سبل

ابدأ بالدين وانظر كيف يعلل ك الكون: هذا ملحد يحاول أن يقنعك بان العالم إنما وجد بذاته، لم يتفرع عن علة وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك أمام قوله هذا إلا أن تمط شفتيك جحودا وإنكارا، لان العقل لا يسيغ معلولا بغير علة، وموجودا سار في الحياة شوطا لا بداية له. . . ثم استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون وكيف كانت نشأته، فخالق الكون عنده إنما هو الله العلي العظيم، ولكنك صلب عنيد، سترى انه لم يفسر من المشكلة شيئا، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء، وكأني أسمعك تسائله في سذاجة الطفل ومن أوجد الله؟. وإذن فالدين بجانبيه - الإيمان والإلحاد - لم يستطع أن يقدم لك تعليلا واضحا معقولا.

خذ العلوم، فلعلك واجد عندها ما يرد حيرتك. . . سائل العلم: ما هذه المادة التي أراها والمسها والتي تغص بها جوانب الكون؟ انظر! ها هو ذا يحلل لك المادة إلى ذرات ثم إلى ذريرات أدق. ثم إلى أخريات اكثر منها دقة، ثم ماذا؟ هنا يقف العلم بين اثنتين، فهو إما أن يعترف بان المادة قابلة للتجزئة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وليس من اليسير أن تسيغ هذا القول، وإما أن قرر بان ثمت حدا يقف عنده التقسيم، وهو ما يستحي عليك أن تقنع به. . . ثم سائل العلم عن القوة ما هي؟ فلست أحسبه يستطيع جواباً. . وأذن فالعلم كذلك عاجز عن شرح حقائق الكون.

وأي غرابة فيما يصادف الذكاء البشري من إبهام لا يقوى على معرفته؟ انه اعد لكي يفهم ظواهر الأشياء، ولا يعدوها إلى ما خفي وراء أستارها، ولكنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن ننكر هذا الشعور الذي تضطرب به نفوسنا من أن وراء هذا الغشاء الظاهر حقيقة كامنة، حسب العقل أن يدرك وجودها، إما إذا هم نحوها بالتحليل والتعليل خر صريعا عاجزا.

وعلى هذا الأساس من وجهة النظر، يصبح التوفيق بين العلم والدين هينا ميسورا، فليقصر العلم دائرة بحثه على ظواهر الأشياء دون أن يورط في البحث عن حقائقها المستورة. له أن يتناول المادة تحليلا وتركيبا دون أن يبحث في ماهية المادة، وله أن يستنبط قوانين الحرارة والضوء والصوت وما إليها من مظاهر القوة دون أن يعلم ماهية القوة، لان هذه وتلك فوق مقدوره، وكل محاولة له في هذا السبيل ضرب من العبث. . . أما الدين فخير له أن يترك هذا العقل المعاند الملحاح، الذي لا يركن لغير الحجة المنطقية، خير له إن يترك هذا العقل يسبح في غروره وان يناشد العقل من الإنسان، لأن من طبعها إلا تلزم بالحجة العقلية. . قل للعلم أن يكف عن إثبات الله أو إنكاره فليس اللاهوت ميدانه الذي يصول فيه ويجول، وقل للدين أن يكف عن مناشدة العقل لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير، تر الدين والعلم أخوين متصافحين لكل منهما حلبة ومجال.

ترى من هذا أن سبنسر يعتقد اعتقادا لا يلين للشك بان وراء ظواهر الأشياء حقيقة مغلقة لا يستطيع العقل البشري أن يعلم من أمرها شيئا، ولكني أريد أن أتقدم هنا إلى سبنسر في تحفظ أن يعلم عنها شيئا، قول يهدم نفسه بنفسه لأنه يتضمن اعترافا بان العقل قد ألم بها فعلا بعض الإلمام فقد أدرك وجودها على اقل تقدير، ثم سار في بحثها شوطا أيقن بعده أنها فوق مقدوره المستطاع، إذ لو كانت مغلقة دون العقل إغلاقا تاما، لما علم وجودها فضلا عن علمه بقدرته على إدراكها أو عدم قدرته.

2 - التطور ولكن مهما يكن من أمر فهاهي ذي الفلسفة - أي العقل - قد ألقت سلاحها معترفة بقصورها وعجزه عن إدراك تلك الحقيقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء وبادرت فألقت بهذا العبء الذي اثقل كاهلها طوال العصور إلى الدين نبحثها ما شاءت له طرائقه، ولتقنع الفلسفة بالبحث فيما تستطيع له فهما وإدراكا، ولتكن مهمتها منذ اليوم تلخيص النتائج العلمية وجمعها في وحدة شاملة. فقد بدأت المعرفة بأشتات متناثرة من المعلومات، ثم امتدت إليها يد العلم بشيء من الربط حتى تركزت في طائفة من العلوم. أفلا يجدر بالفلسفة أن تؤاخي بين أفراد هذه الجماعة من العلوم المختلفة. فتسكب المعارف الإنسانية جميعا في وحدة متماسكة؟ حقيق بها إلا تدع سبيلا للبحث حتى تهتدي إلى قانون عام ينتظم التجارب الإنسانية جميعاً، كائناً ما كان لونها. . . ترى هل توفق إلى الهداية في هذه الطريق الملتوية الوعرة، فتنتهي إلى قانون واحد يفسر هذا الشتيت المتضارب مما يقع تحت حسنا؟ ويضم تحت لوائه المفرد كل هذه البنود المتباينة مما تضم صدورنا من تجربة وعلم؟

يجيب سبنسر أن نعم، إلا يتلخص تاريخ الكائنات جميعا في ظهورها من بدء مجهول ثم اختفائها في نهاية مجهولة؟ إذن فلا بد ان يكون ذلك القانون المنشود شاملا للتكوين والانحلال. . . إلا وهو التطور. وهنا يضع سبنسر قانونا للتطور شرحه في مجلدات عشرة واستغرق من زمنه عشرين سنة كاملة، هاك نصه: (التطور هو تجمع لأجزاء المادة، يلازمه تشتيت للقوة والحركة، وفي خلال ذلك تنقل المادة ن حالة التجانس المطلق إلى حالة التباين المحدود) ولشرح هذه العبارة نقول:

لقد تكونت الجبال الشامخة من ذرات الحصى، وامتلأت المحيطات الفسيحة بقطرات ضئيلة من الماء، واجتمعت عناصر دقيقة من الأرض فكونت الأدواح العالية، ووجبات متعاقبة من الطعام تشيد أجسام الرجال، وتآلفت طائفة من المشاعر والذكر فألفت فكرا ومعرفة، ثم تآخت جزئيات المعرفة فأنتجت علماً وفلسفةً، لقد تطورت الأسرة إلى القبيلة، ثم إلى المدينة والجنس، ثم إلى الدولة، ثم إلى تحالف بين دول الأرض قاطبة. . . كل هذه أمثلة لأجزاء المادة المتناثرة كيف تأتلف ويجتمع بعضها إلى بعض. ومن جهة أخرى يسبب هذا التالف حدا من حركة الأجزاء وشلا لقوتها، فقوة الدولة مثلا تحد من حرية الافراد، والحبة من الهباء حرة الحركة وهي منفصلة، مشلولة مقيدة إذا ما اجتمعت مع أخواتها في صخرة أو جبل. . ولكن تجمع الأجزاء يستتبع نتيجة أخرى هي التنوع والتنافر في العمل الذي نؤديه كل منها، فقد كان السديم الأول مركبا من مادة متجانسة يشبه بعضها بعضا ولكنها سرعان ما تنوعت في غازات وسوائل وأجسام صلبة. . أنظر فهذه قطعة من الأديم قد افترشت سندسا أخضر، وتلك الجبال قد اكتست ثوبا ناصعة البياض، وذلك البحر قد تسربل بلباسه الأزرق. . . أنعم النظر في هذه الخلية الواحدة المتجانسة وما سينشأ عنها من مختلف الأعضاء: هذا للغذاء وذاك للإفراز ثالث للحركة ورابع للإدراك. . . اللغة الواحدة لا تكاد تسري في بطاح الأرض حتى تتنوع في السنة ولهجات لا يفهم بعضها عن بعض. . العلم الواحد يتفرع عنه عشرات من العلوم، المنظر أو الحادثة توحي صورا من الفن والأدب ليس إلى حصرها من سبيل. . . كل هذه أمثلة على التنوع والتنافر اللذين يعقبان التشابه والتجانس.

وهكذا أسطورة الحياة: تجمع وتفريق، تآلف وتنافر، تأتلف الأجزاء وتجتمع في وحدة لا تزال تطرد في النمو حتى يدركها تنافر الأجزاء، ثم يشتد حتى تتلاشى وتنحل. . .

سنة الوجود هذا الانحلال والتكوين، ولكنه بين جذبة المد ودفعة الجزر يلتمس التوازن لكي ينتهي إليه. . . فكل حركة تعاني من المقاومة ما يؤدي بها البطء ثم إلى السكون عاجلا أو آجلا. . . الكواكب السيارة يضيق فلكها شيئا فشيئا. . . حرارة الشمس وضوؤها يقلان كلما تقادم عليها الدهر. الأرض تتلكأ في سرعتها عهدا بعد عهد الدماء في عروقنا سيصيبها البرودة والبطء. . . وهكذا سيسعى الوجود نحو الانحلال، أو سيسعى الانحلال إلى الوجود خطوة خطوة، وهي خاتمة محتمة للتطور: سينحل المجتمع وتتفرق الشعوب، ونذوب، وتذوب المدن. وبمثل هذا تتم دورة التطور والانحلال ولكنها ستبدأ السير ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له من المرات، وكل تكوين جديد لا بد أن ينتهي بالفناء والموت.

وهكذا كان كتاب (المبادئ الأولى) مأساة مروعة تروى لنا قصة العالم صعود وهبوط، تكوين وانحلال، حياة وموت، تطرأ متتابعة على الأحياء والأشياء. . . أفيكون عجيبا أن يقابل هذا المؤلف عند إخراجه وأذاعته في الناس ثورة عنيفة لأنه لم يدع مجالا للعقيدة والأمل؟!

رأيت فيما سبق أن التطور عند سبنسر هو القانون الذي تنشده الفلسفة لكي تضم بين دفتيه علوم الإنسان بأسرها. فمهما قلبت النظر في مظاهر الكون وجدتها تسير في سبيل التطور أي من البساطة إلى التعقيد ومن التجانس إلى التباين. ويجدر بنا أن نورد في هذا المقام نقدا للفيلسوف المعاصر برجسن على هذا القانون، فهو يقول إن سبنسر بقانونه هذا إنما يقدم لنا صورة الطبيعة كما هي، وليست هذه مهمة الفيلسوف، بل يطلب إليه أن يفسر هذه الصورة التي اكتفى بسردها سردا.

ويختم سبنسر كتابه هذا برأيه في الحياة بأنها تافهة حقيرة لا تستحق البقاء، فأصاب بهذا الرأي ما أصاب الفلاسفة جميعا من محنة النظر البعيد، إذ ألقى ببصره إلى الأفق النائي، فمرت صور الحياة الخلابة تحت أنفه دون أن يراها!!

ولنقف من الأمر عند هذا الحد على أن نعود في مقال تال إلى تتمة الموضوع.

زكي نجيب محمود