مجلة الرسالة/العدد 310/بمناسبة تبرع اللورد نفيلد نسأل:

مجلة الرسالة/العدد 310/بمناسبة تبرع اللورد نفيلد نسأل:

مجلة الرسالة - العدد 310
بمناسبة تبرع اللورد نفيلد نسأل:
ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1939


هل لأغنيائنا وطن؟!

من أنباء البرق الأخيرة أن اللورد نفيلد صاحبَ مصانع سيارات (موريس) الإنجليزية قد تبرع للدفاع الوطني البريطاني بمليون ونصف من الجنيهات، ووضع مصانعه الكبرى تحت تصرف وزارة الدفاع، فبلغت بذلك جملة هباته للوطن في مدى عشر سنوات خمسة عشر مليوناً ونصفاً من الجنيهات على رواية الصنداى إكسبرس! فإذا قرأت هذا وتذكرت ما تبرع به زخاروف وأفيروف وكوتسيكا وأنطونيادس للجيش اليوناني وهم من رجال الأموال والأعمال في مصر، لا يسعك إلا إن تسأل كما أسأل: هل لأغنيائنا وطن؟

الواقع الذي لا مراء فيه أن ليس لأغنيائنا وطن، إنما لهم قصور لإتلاف النعمة، ومزارع لعصر الفلاح، وبرك لصيد البط، وميادين لسباق الخيل، وأندية لقتل الوقت، ومنازه لإظهار الأبهة. وما عدا ذلك من أرض الوطن ومعنى الوطن فهم لا يعرفونه ولا يفقهونه!

هل سمعت أن غنياً من الأغنياء أو أميراً من الأمراء قال إن له وطناً فتبرع له بطائرة في الجيش، أو بجائزة في المعارف، أو بكرسي في الجامعة، أو بمستشفى في الصحة، أو بملجأ في الأوقاف؟

لا تقل في تعليل هذه الفردية الشحيحة: إن أغنياءنا جهلاء العقل، وأمراءنا غرباء العاطفة؛ فإن الوطنية عصبية طبيعية تقتضيها سنة الحياة، فتكون في رجل الفطرة تعصباً للأسرة، وفي رجل البداوة تعصباً للقبيلة، وفي رجل الحضارة تعصباً للأمة، وفي رجل الإنسانية تعصباً للعالم

ولئن سألتني عن تعليل ضعف الوطنية في هؤلاء الناس لأقولن لك إني عنه عاجز؛ فإنهم لا يزالون يشعرون بها شعور الفطرة الضيقة المحدودة. ومن الصعب على العقل أن يتصور أن أصحاب السمو وأصحاب المجد وأصحاب السعادة لا يجدون في أنفسهم من الحب لمصر الحبيبة الخصيبة، ما يجده الإنسان الفطري للغابة السليبة والبادية الجديبة!

يكاد النيل يعتقد أن أكثر الأجانب الذين يعيشون فيه، هم خير له من أكثر الأغنياء الذين يعيشون عليه! لأن أولئك يعاملونه معاملة الراعي الذي يحلب ويرعى، وهؤلاء يعاملونه معاملة العلق الذي يمتص ويهمل. فأينما رأى التجارة والعمارة والإنتاج رأى ضيوفه، وحيثما رأى الإسراف والإتلاف والتبطل رأى أهله!

ليتني أدري ماذا يقول الغني الأصيل إذا نافره الأجنبي الدخيل أمام قدس الوطن؟ أيقول له: هذه رءوس أموال تنشئ الشركات وتقيم المصانع وتنمي الثروة؟ أم يقول له: هذه (مشروعات) أعمالي تقر الأمن وتحيي البلاد وتقتل البطالة؟ أم يقول له: هذه ثمار أفضالي تعزز الدفاع وتشجع الإبداع وتنشر الثقافة؟ الله أعلم يومئذ أيهما يقول ذلك وغير ذلك؛ وأيهما يقف ناكس الرأس خاشع الطرف عَيّ اللسان، لا يجري على باله إلا أنماط الثياب وسلائل الكلاب وفصائل الخيل وطرز السيارات وأندية القمار وحسان هوليود!

يظهر أن التفدية والتضحية والخدمة العامة إنما تكون أثراً لقوة الروح وصحة الخلق، فإن أول من تطوع للجهاد شباب الأمة، وأول من تبرع للدفاع رجال الدين. فالحيلة في أغنيائنا إذن هي حيلة الله. هو وحده الذي يملك أن يحيل في النفوس عبادة المال عبادة للوطن، ويجعل في القلوب محبة النفس محبةً للناس

يا أغنيائنا، إنا نريد أن نحبكم فساعدونا على خلق هذا الحب. إن ديننا ينهانا أن ننفس عليكم نعمة الله، وإن وطننا يمنعنا أن نضن عليكم بأخوة الوطن؛ ولكن العقيدة والوطنية اللتين تحببانكم إلينا، هما كذلك اللتان تغضباننا عليكم! لأن الأمة تريد أن تقوي وفي نفوسكم قوتها، وتبغي أن تعتز وفي رءوسكم نخوتها، وتحاول أن تدافع وفي أيديكم ثروتها، فحرمتموها كل ذلك ووضعتموه في غير موضعه، وأضعتموه في غير سبيله؛ ثم مكنتم للجهل والفقر والمرض أن تدهمها

من كل جانب، فقعد القوي لجهله عن السعي، وفتر العالم لفقره عن البحث، وعجز الضعيف لمرضه عن الإنتاج

يا أغنياءنا - والناس أجمعون يعرفون من أعني - لقد جربتم بذل المال في اللهو، وقتل العمر في العبث، وفقد الصحة في المجون، فهل كسبتم من وراء ذلك مجداً أو وجدتم في عواقبه سعادة؟ جربوا ولو مرةً واحدة على سبيل التسلية أن تمسحوا دمعة على خد حزين، أو تنفسوا كربة عن قلب بائس، أو تسهلوا طلب العلم لفقير، أو تمهدوا سبيل العمل لمتعطل، أو تشاركوا أبناء الشعب في منفعة عامة؛ ثم انظروا بعد ذلك كيف يشيع في صدوركم الرخاء، ويرتفع بقلوبكم الإخاء، وتنعم نفوسكم في الحياتين بين عاجل المجد وآجل الخلود. ثم وازنوا بين متعة الجسم ولذة الروح، وتجدوا أن الأولى تنقضي بالملل والعلل والجريمة، والأخرى تدوم بدوام الروح في الأرض وتخلد بخلودها في السماء

يا أغنياءنا - والله هو الغني الحميد - لقد بح الصوت وحفي القلم وأنتم في نشوة البطر وغفوة النعيم لا تسمعون ولا تقرءون! فهل تظنون أننا بما نقول ونكتب نريد أن نخرجكم عن متاعكم، أو نحولكم عن طباعكم؟ لا يا سادتنا! إن ذلك عمل الله وحده؛ أما عملنا فأن نذكركم كلما نسيتم أن لكم مواهب تهملونها وللوطن في استغلالها نصيب، وأن لديكم أموالاً تبذرونها ولله في ريعها حق؛ وأن ننبهكم كلما غفلتم إلى أن هزل الحياة لا ينفع في جد الموت، وأن ملك الدنيا لا يغني عن ملك الآخرة!

أحمد حسين الزيات