مجلة الرسالة/العدد 310/من هنا ومن هناك

مجلة الرسالة/العدد 310/من هنا ومن هناك

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1939



دعاوى إيطاليا في قناة السويس - لمحرر الوبرلدوبجست

نقلنا في هذه الصفحة من العدد 302 مقالاً للكاتب الإيطالي ف. بارتو عن دعاوى إيطاليا في قناة السويس، وقد نسب الكاتب الفضل في وضع تصميم القناة وتأسيسها إلى مهندسين إيطاليين ذكر من بينهم: نجّرللي وبترمو وجوايا، وزعم أن إيطاليا هي الدولة الثانية من بين الدول التي تمر في هذه القناة. . . إلى آخر ما جاء في ذلك المقال، والمقال التالي رد على ذلك المقال نلخصه للقراء ليطلعوا على وجهتي النظر في المقالتين.

منذ سنين عديدة كتب أوسكار وايلد مقالاً قيماً عن اضمحلال رذيلة الكذب. فلو عاش في عصرنا هذا الذي انتشرت فيه وسائل الدعاية بين الدول الحديثة، فما لا شك فيه أننا كنا نقرأ له فصولاً ممتعة عن نهضة الكذب.

إن الدعاوى العريضة التي يدعيها الإيطاليون في قناة السويس في هذه الأيام، مما يجعل النفس تشمئز ويعروها الأسف الممض لهذه الهوة التي انحدرت إليها الصحافة في العصر الذي نعيش فيه

ونحن وإن كنا لا نبرئ الصحافة في عصر من العصور من الانحراف عن الجادة في بعض الأحيان، إلا أننا نعتقد أن هذا الانحراف لم يكن يعدو الأمور الصغيرة التافهة التي لا تؤثر بحال من الأحوال في الشؤون العامة التي لها أكبر الأثر في حياة العالم

ولكن إيطاليا وألمانيا تذهبان إلى آفاق بعيدة المدى في الكذب في شئون لها الأهمية الكبرى في الحياة، ولعل أسوأ الأمثلة لهذا الكذب الصراح، هو ما تنشره الصحافة الإيطالية عن قناة السويس، لا في إيطاليا وحدها، ولكن في تونس والأمريكيتين مما ينافي الحقيقة من جميع الوجوه.

ولقد استطاعت بعد الاطلاع على هذه المزاعم أن أتوفر على هذا الموضوع وأبحثه بحثاً جديداً فتبين لي أن هؤلاء القوم يلجئون إلى بعض المخلفات القديمة، ليستخرجوا منها أسماء لها علاقة ما بهذا المشروع الجليل، فيخلعون على أصحابها حلل الفخار والشرف التي ارتداها رجال لهم شهرتهم وعظمتهم بين العالم، بعد أن طواهم الثرى في بطونه

فهذه الأكاذيب من النوع الذي يقول عنه (تتيسون): الكذب الذي هو نصف حق، شر الكذب الصراح

فهم يقولون إن إيطاليا تعد في المرتبة الثانية من الدول التي تمر في قناة السويس. فمن أين جاءوا بالبيانات التي يستندون إليها في هذا الزعم؟ من الإحصاءات المبينة على ذلك الظرف الاستثنائي الذي دعاهم إلى نقل آلاف من جنودهم البسلاء مجهزين بالمدافع والطيارات والأسلحة المختلفة لمحاربة الحبشة العزلاء عام 1936 - 1937، وعلى هذه الطريقة في الكذب تجري سائر الدعاوى والمزاعم التي يطلعون بها على العالم

إن قناة السويس التي نشأت فكرتها منذ قدماء المصريين، وفكر فيها نابليون بعد حملته على مصر، ثم مشروعها على يد رجل واحد هو المهندس الفرنسي فرديناند دي لسبس. لقد كان الخطأ الذي حال بين نابليون وبين تنفيذ هذا المشروع هو خطأ المهندس لابير الذي رأى أن هناك فرقاً بين مستوى الماء في البحرين يحول دون ذلك، وقد أصلح هذا الخطأ بتأثير دي لسبس وحده، إذ رفع مذكرة إلى محمد سعيد باشا حاكم مصر مؤرخة في 15 من نوفمبر سنة 1854 ينفي فيها وجود الفارق المزعوم، مستنداً إلى تقارير قدمت إليه من مهندسين من الإنجليز لهم خبرة عظيمة ومهارة فائقة في هذه الشئون، فقاموا بقياس مستوى البحرين وكان لهم الشرف العظيم في نفي هذه الخرافة، والتوكيد بأن لا فارق بين مستوى البحرين

ومما يدعو إلى الضحك أن ينسبوا تأسيس القناة إلى مهندس إيطالي يدعى (نجرللي)، فتأمل عمل الدعاية في الانتفاع بهذا الاسم؟ مما لا شك فيه أن هناك شخصاً يحمل هذا الاسم كان ضمن الذين يعملون في هذا المشروع، ولكنه من أوستريا لا من إيطاليا، وقد كان يشغل وظيفة مهندس عموم السكك الحديدية بها، فعين في بعض الأعمال مع مهندس إنجليزي يدعى استيفنش فنسبته الدعاية إلى إيطاليا لأن اسمه نجرللي لا أكثر ولا أقل. وقس على ذلك سائر الدعاوى والأكاذيب

إن قناة السويس لم تنتفع بإيطاليا في حال من الأحوال، ولكن إيطاليا هي التي انتفعت بها في فتح الحبشة

هل في استطاعة ألمانيا أن تحارب - عن لالبر بلجيك

منذ سنتين - وإذا أردت التحديد في 12 مارس 1937 كتبت مجلة ألمانية تقول: إن أهم العناصر التي سنحتاجها في الحرب هو الذهب

وهذا القول يفسر مبدأ معترفاً به في تاريخ الحروب بما فيها الحرب الأخيرة، إذ وجدت ألمانيا نفسها عاجزة عن تموين جيشها لحاجتها إلى المال. ويتبين من هذا دقة الموقف الذي تقفه ألمانيا وإيطاليا الآن

مما لا شك فيه أن ألمانيا في عجز عن إيجاد الذهب الضروري لحاجتها، والذهب هو القوة التي يمكن الحصول بوساطتها على المئونة، وألمانيا في حاجة إلى الشعير والسكر، وفي حاجة إلى المعادن اللازمة لعمل الأسلحة وتجديدها

ومن المعلوم أن ألمانيا في حاجة ملحة إلى الحديد والنحاس والألمنيوم والمغنيسيوم والرصاص، وهي في حاجة فوق ذلك إلى البترول وهو الروح الأساسية للآلات والمصنوعات الحربية على وجه العموم

وهي تعتمد على عبقريتها الصناعية للحصول على هذه المواد، حتى لا تعول على الدول الأخرى في استيرادها، تلك العبقرية التي تحول الخشب إلى قطن، ولبن الأبقار إلى صوف

وعلى هذا النحو تصنع الملابس لجنود الجيش، ويصنع البترول والمطاط ويصنعونه من الجير، والصابون ويصنع من الفحم، والزبدة وتصنع من الزيت، وتعيش الأمة جميعها على هذه المصنوعات. وهنا تحضرنا الفكاهة القديمة وهي عجز ألمانيا في المعادن، وقلة ثقتها بإخلاص الحليفة؛ وتحت هذا التأثير ولا شك يتفكك محور رومه برلين

فإذا قامت الحرب فستكون ألمانيا عاجزة كل العجز عن إعداد المال الكافي إذ أنها ستشتري مئونتها ومعادنها من الخارج.

هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. فقد أصبحت ألمانيا تستورد 20 % من مواد الأطعمة من الخارج فضلاً عن الأجور العالية التي يتقاضاها المزارعون فيها.

ونحن نرجع في هذا الموضوع إلى ما قاله الكاتب الألماني فرتس استرنبرج في كتاب (قوة ألمانيا الحربية). فقد أورد كثيراً من المعلومات والإحصاءات الهامة التي تدل على عجز ألمانيا عن التموين، واضطرارها إلى زيادة نسبة الوارد إليها من مواد الأطعمة، وتلجأ ألمانيا إلى طريقة المقايضة في كل ما تريد من الدول. فتقول: أعطني بترولك وأنا أعطيك عقاقيري. وكل هذه الوسائل المفتعلة لا قيمة لها أبان الحرب. فإذا أطلقت رصاصة واحدة لا يمكن بعد ذلك أن يعطي: البترول أو الحديد أو النحاس أو الشعير نظير حبوب الصحة وآلات الموسيقى

نحن مسوقون في تفكيرنا هذا وراء رائد التاريخ، ونعتقد أن زعيم الانقلاب في ألمانيا سيتراجع عن فكرة الحرب، إذ أن مسئوليته كبيرة في أمر هو حياة أو موت لأمته، ونود لو يذكر لأجل الإنسانية والمدنية قول شكسبير:

(إن في السماء والأرض أموراً غير التي تحلم بها في فلسفتك يا هروتيو!)

القرد وحياة الإنسان - عن مقالة للدكتور هوفمان

الدكتور منريت يعد من رجال الطب المشهورين، لقد أجرى في هذه الأيام تجربة نفسية لم يسبق لها مثيل.

فمنذ عشر سنوات عاد من سياحة له في أواسط أفريقيا، يصطحب قرداً صغيراً من نوع الشمبانزي يبلغ من العمر سنتين

وقد بذل كل ما في وسعه هو وزوجته وأولاده، لإبراز هذا القرد الذي أسموه - فاتو - في مظهر الإنسان العاقل بحيث ينسى منشأه الحيواني ويعيش معيشة الآدميين - دون أن يعملوا أي عمل لتدريبه كالعتاد. وهذا عمل بلا شك له أهمية عظيمة، إذ إنه يجعل الحيوان الأعجم يحيا حياة الإنسان

وكان أول مرة خرج فيها فاتو في مجمع من الناس، في حفلة غداء أقيمت في منزل منريت حديثاً دعا إليها لفيفاً من الأطباء والعلماء المختصين بدراسة نفسية الحيوان ورجال الأدب والصحافة. فدخل عليهم فاتو منتصب القامة يسير على ساقيه الخلفيتين كالإنسان. وأغلق الباب من ورائه في خفة ولطف. ومر يحيي الضيوف ويصافحهم واحداً بعد واحد في أدب ورقة، وصاحبه يقدمه إليهم كما يقدم الصديق العزيز، ثم أخذ مكانه في مؤخرة المائدة، وساهم في الطعام معهم، ولم يبد على تصرفاته أي مأخذ.

وكان الطعام الذي قدم إليه من نفس الطعام الذي تناوله المدعوون وهو حساء وسمك ولحم وخضراوات وحلوى وفاكهة. وكان فاتو يتناول الطبق من جاره ويملأه لنفسه بنفسه ويأكل بأدب ونظام. وكل ما لوحظ عليه في تناول الطعام أنه يكثر من أكل الخضراوات والفاكهة ويتناول منها أكثر من غيرها. وكان يحتسي كأس النبيذ فيمسكها بيده فيرتشف منها الجرعة بعد الجرعة في اعتدال وهدوء. فلما انتهى من الطعام قام فوضع ذراعه على كتف مدام منريت وأشار إلى زجاجة من نبيذ بردو عرفها لمجرد النظر إليها، وكان يخاطبها باسم ماما فقدمت إليه شيئاً منها

وفي أثناء تناول القهوة دعاهم الدكتور للتدخين، فقام فاتو دون أن يشير إليه أحد بذلك فقدم إليهم لفافات التبغ. ولم ينس أن يوقد لكل منهم لفافته ثم تناول لفافة فأوقدها وجلس يدخنها بلذة واستمتاع

وكان فاتو يرتدي قميصاً فسيحاً وسروالاً خفيفاً وينتعل حذاء من الخيش. وقد أعد له الدكتور حجرة خاصة تحتوي على منضدة وكرسي وسرير ومشجب وبها حمام خاص يستعمله بنفسه وهو يتنقل في حجر المنزل بحرية تامة

وقد شرح الدكتور منريت طريقته في تربية هذا الحيوان فقال: إنه لم يدربه على شيء كما يفعل أصحاب السيرك، وإنه ألف هذه الحياة من تلقاء نفسه ولم يعلمه أحد من الأسرة أي شيء. وقال إن تربيته تختلف عن تربية الأطفال، فقد تعلم من تلقاء نفسه كيف يفتح الباب أو يغلقه، وكيف يفتح النور وكيف يستعمل الشوكة والملعقة والسكين عند تناول الطعام، وهو ينطق كلمة (ماما) أحسن من أي كلمة أخرى وقد حفظها عن أطفاله. ومن رأى الدكتور منريت أن هذه الكلمة هي أول كلمة نطقها الإنسان بدليل وجودها في جميع اللغات وينطقها القرد آلياً بمجرد فتح الفم وإغلاقه مرتين