مجلة الرسالة/العدد 311/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 311/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
حل البارودي محل الشريف وفي البلاد ما فيها من أثر تلك المذكرة التي جاءت في تلك الظروف التي بينا دليلاً على سوء تدبير واضعيها وعلى قصر نظرهم ورعونتهم. ولكن ما لنا نشير إلى قصر نظر الدولتين فيما فعلتا ونحن لا يتداخلنا شك في أنهما كانتا تريان عاقبة فعلتهما، وأنهما إنما أرادتا إثارة الخواطر وزيادة أسباب الخلاف بين الخديو وزعماء البلاد المدنيين منهم والعسكريين، فبهذا يتيسر لهما الوصول إلى الغرض المرسوم
وكان طبيعياً أن يسير البارودي على نهج غي الذي سار عليه شريف، فهو بحكم مركزه بين الزعماء العسكريين وبحكم الظروف التي أدت إلى استقالة شريف، لم يكن أن يحمل نفسه على الهوادة والملاينة، وإلا ففيم كان إحراج شريف ثم إخراجه من الحكم؟
ومن ذلك يتبين لنا أن السياسة التي جرى عليها البارودي في وزارته لم يكن له منتدح عنها، وأن مردها في الواقع إلى مسلك الدولتين وعلى ذلك فمن الظلم أن نرجع باللوم كله على تلك الوزارة فيما ارتكبت من أخطاء، فإن جانباً كبيراً من اللوم بل لعل اللوم كله يقع على الذين دفعوا الوزارة بقبح تدبيرهم وسوء نيتهم في تلك الطريق التي ما لبثت أن رأت نفسها فيه تخرج من أزمة لتدخل في أزمة غيرها
وهكذا تدفع الدولتان البلاد في طريق العنف والثورة ثم تتهمانها مع ذلك بالفوضى وتجعلان من مبررات تدخلهما القضاء على الفتن والقلاقل الداخلية وإنها لمن صنعهما؛ ولن يكون في صور الظلم أبلغ وأوجع من أن يضرب مضعوف على رأسه فإذا نفر من الضرب وتأوه عد نفوره جموحاً واعتبر تأوهه ثورة. . .!
وكان عرابي وزير الجهادية في وزارة البارودي، وأنعم عليه برتبة الباشوية؛ وهو يقول إنه قبلهما هذه المرة كارهاً، فلولا أنه رأى أن المنصب يقتضي قبول الرتبة ما قبلها. وأن أميل إلى تصديقه فيما يقول فليس في الأمر ما يحمل على الريبة في قوله، وهو لا يسوق هذا القول مساق الفخر وإنما يسوقه بين براهينه على أنه لم يكن يوماً يدعى خصومه تحكه الأطماع الشخصية
وأما عن قبوله المنصب فما نظن أنه كان يستطيع أن يبقى بمعزل عن الوزارة وقد صار له في سياسة البلاد هذا الشأن بعد حادث عابدين. وإنا لنعجب أشد العجب للذين يعيرون رجلاً لقبوله منصباً من المناصب ويتخذون ذلك القبول دليلاً على أنه يطلب الخير لنفسه فحسب، فهل كانت المناصب عند الناس جميعاً وسيلة إلى إشباع المطامع وجلب المنافع الذاتية؟ وأي شيء يجعل هذا لازمة حتمية للمنصب؟ وأي شيء يمنع من أن يكون المنصب عند بعض الناس وسيلة إلى غاية جليلة شريفة هي العمل للصالح العام؟ وأي قرينة تمنع من أن نسلك عرابياً في سلك هؤلاء الداعين إلى الخير العام والذين يتخذون من المناصب أداة لخدمة المجتمع؟ إن ابسط قواعد العدالة تضع المتهم على قدم المساواة مع البريء حتى تثبت إدانته، فأية إدانة يلصقها بعرابي أولئك الذين عابوا عليه دخول الوزارة؛ إنهم إذ يتهمونه بالسعي إلى صالحه هو لا يعدون بذلك حدود التهمة، فله أسوأ الفروض من موضع البريء من العدالة حتى تثبت إدانته، وما أيسر أن تكال لأي فرد من الناس في غير حساب، وما أصعب البينة على الذين يفترون الكذب وهم يعلمون. . .
إن الذين يرون في الحكم مغنماً لهم إنما هم أولئك المفرطون في حقوق أوطانهم الممالئون للدخلاء فيها، والمستضعفون من الرجال، والذين في قلوبهم مرض، والمغترون بالحياة وأوهامها، والمالئون بطونهم كما تأكل الأنعام؛ أما أولو النخوة والعزة من الرجال فلن تلهيهم عن دوافع نفوسهم الأبية الحياة الدنيا وزينتها؛ ولن تطفئ الحمية في قلوبهم ما يحلي بها الأغرار صدورهم من أوسمة، أو تزدهي أنفسهم الكبيرة الرتب والألقاب، أو يزيغ أبصارهم بريق الذهب، لأن هذه جميعاً عندهم مظاهر وهم يحتقرون كل مظهر، لأنهم يطلبون الجوهر. ومن كان في هذه الدنيا كبيراً بنفسه فما بحاجة إلى أن يتكبر، ومن تكبر وهو بنفسه صغيراً فما زاد على أن أضاف إلى حقارة نفسه ما هو أحقر
ولقد كان عرابي كبير النفس كبير الآمال فكان المنصب عنده باباً من أبواب الجهاد ووسيلة من وسائله؛ فما يعيبه أن يدخل الحكم وإنما يعيبه أن يعرض عن الحكم وعلى الأخص في مثل تلك الشدة التي ساق الطامعون إليها البلاد على غير إرادتها. . .
على أن الناس ما كانوا ينظرون إلى عرابي نظرتهم إلى وزير من الوزراء فحسب، بل كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى الرجل الذي تعلق عليه الآمال فيما كانت البلاد مقبلة عليه، وإنما كانت تقوم نظرتهم على ما بلوا بأنفسهم من إخلاصه، وما شهدوا من بسالته وحميته، وعلى ذلك فما زاده المنصب في أعين الناس مثل ما يطلبه غيره ليزداد به من جاه أو شرف، وأي شرف يطمع فيه الرجل هو أعظم من أن يكون في بني قومه معقد الرجاء وموضع الثقة؟
ولقد كان عرابي في الوزارة إذا أردنا الحق أكثر من وزير فكانت الكلمة كلمته وكان الرأي رأيه، أراد ذلك أم لم يرده، ونقول أراده أم لم يرده لأنه بات في الزعماء رجلاً ليس للزعماء مثل ما له في قلوب الناس من مكانة وسحر. وهل كان سعد زغلول في كرسي الرياسة كسواه من رؤساء الوزارات، ليس لشخصه من تأثير في قلوب الناس إلا ما تبعثه هيبة المنصب ورهبته؟ أم كان سعد في الناس رجلاً غير ما ألفوا تحف به هالة من أمجاده فتخلق له شخصية وسطاً بين الملائكة والناس؟ وهل ازداد سعد بالمنصب شيئاً في أعين الناس أم أن المنصب هو الذي ازداد به علواً ومهابة؟ على هذا القياس صور لنفسك شخصية عرابي بين قومه يومئذ مع تذكر الفرق بين جيل عرابي وجيل سعد ومواهب عرابي
كان على وزارة البارودي بادئ الأمر أن تواجه أزمة الميزانية؛ وكان عنصرا هذه الأزمة الدولتين المتجنيتين على البلاد ونواب الشعب الغاضبين لكرامة بلادهم المتمسكين بحقهم أمام باطل أعدائهم، وكان من الطبيعي أن تعمل وزارة البارودي أحد الزعماء العسكريين والتي كان عرابي نفسه أحد وزرائها، على تحقيق آمال البلاد، بل لقد كان أمراً حتمياً على تلك الوزارة أن تفعل هذا فعلى هذا الأساس كان قيامها بالحكم
قامت وزارة البارودي على إرادة الأمة ما في ذلك ريب؛ فإن النواب حينما أظهروا أسفهم لشريف أن يكون المجيب لمطالبهم رجلاً غيره، وحينما ذهبوا إلى الخديو يشكون إليه أمرهم كانوا معبرين في ذلك عن مشيئة الأمة، وآية ذلك أن الخديو لما سألهم بأي حق يطلبون إقالة شريف كان جوابهم (هذه إرادة الأمة) ولم يسع الخديو إلا أن يذعن - ولكن على طريقته - لإرادة الأمة هذه، فدعا شريفاً والقنصلين الأجنبيين وعرض عليهما الأمر فلم يكن أمام شريف غير الاستقالة. ثم إن الخديو دعا إليه زعماء النواب وسألهم كما أسلفنا عمن يرضون لرياسة الوزارة، فبعد أن بينوا له أن ذلك من حقه اختاروا البارودي واشترطوا أن يكون قيام وزارته على أساس إجابة مطالب النواب
ولقد أضاف الخديو إلى أخطائه خطأ جديداً بقبوله هذا الأساس فمن حقه وحده اختيار رئيس وزرائه، ولكنه خطا حتى هذه الخطوة بإشارة القنصلين فلقد أوهماه أن في هذه خيراً له، فبه يخلو من التبعة ويلقيها على عاتق النواب والزعماء. . . ولكنهما في الحقيقة كانا يريدان أن يوسعا مدى الخلف بين الخديو والبلاد؛ ومن السهل عليهما أن يوحيا إليه على لسان أعوانهما بعد ذلك أنه أصبح وليس له من الأمر شيء
على أن مالت وكلفن وأشياعهما ما لبثوا أن أذاعوا في مصر وفي أوربا عن الوزارة كل سوء ورموها بكل باطل من الاتهام، فهي وزارة عسكرية محضة لا تعترف سياسة أو تنظر في عاقبة أمر من الأمور وإنما قوام أعمالها العنف والثورة؛ وهي وزارة لا تحسب لأي سلطة غيرها حساباً فليس للخديو وجود فعلي أمامها، وليس للأجانب على ما لهم في مصر من ديون أي حق أو شبه حق. . . إلى غير ذلك من اللغو والإفك
أما عن عرابي نفسه فقد خرج بأوفر نصيب من التهم الباطلة، ومن هذه التهم ما عزي إليه على لسان جريدة التيمس أنه هدد شريفاً وأنه شهر سيفه في وجه سلطان باشا رئيس المجلس وهدده بتيتيم أطفاله. ولقد بلغ من رواج هذه الإشاعة أن أثبتا ماليت في يومياته، بل لقد أثبت ما هو أشد خطراً منها ألا وهو أن الخديو ما قبل استقالة شريف إلا تحت تأثير تهديد لا يقل عن هذا
ولقد استاء سلطان من هذه الفرية وحاول جهده تكذيبها. يقول مستر بلنت في مذكراته: (وقد ذهبت إلى منزل سلطان باشا فوجدت فيه طائفة كبيرة من النواب وكثيرين من ذوي الحيثيات والمكانة في مصر وهم: الشيخ العباسي وعبد السلام باشا المويلحي وأحمد بك السيوفي وهمام أفندي وشديد بطرس أحد كبار النواب الأقباط وغيرهم. وقد أنكر هؤلاء جميعاً هم وسلطان باشا أنهم عملوا تحت تأثير أي تهديد، وتكلم سلطان باشا بلهجة شديدة مستنكراً القصة التي اخترعت عنه وقال: إن أحمد عرابي إنما هو بمثابة ابن لي، وهو يعرف حقي وواجبه، فمكانه في وزارة الحرب، ومكاني في البرلمان، وهو ينتصح لرأي وليس يعتدي على حقوقي. أما من حيث استلاله السيف أمامي فهو لا يفعل ذلك إلا إذا رأى أعداء يهاجمونني، وهذه حكايات لا يصدقها رجل يعرفنا نحن الاثنين وهي حكايات كاذبة لا أساس لها من الصحة، ولك أن تثق أن أصغر نائب هنا يمثل الناس يحسن الحكم على ما يحتاجه أولئك الناس أفضل من أعظم جندي. ونحن نحترم أحمد عرابي لأننا نعرف أنه صادق الوطنية عظيم المواهب السياسية وليس لأنه جندي). . .
ثم يستطرد بلنت قائلاً: (وقد نقلت كلمات سلطان باشا هذه عن مذكرة لي أثبتها فيها يومئذ، وقد أنحى الشيخ على ماليت لنشره مختلف الأباطيل وطلب مني أن أنقل إليه الحقائق وأن أبلغها لغلادستون وأنشرها في الصحف، وقد أرسلت الحكاية بالتفصيل إلى التيمس، ولكنها لسبب لا أعرفه لم تنشرها، وأرسلت تلغرافا بالمعنى نفسه للمستر غلادستون ثم أرسلت خطاباً مستفيضاً ضمنته رأيي في الموقف كله)
هذه هو كلام بلنت عن هذه الفرية، وما أجمل ما وصف به سلطاناً عرابيا فهو لا يحترمه لأنه جندي ولكنه معجب بوطنيته مقدر لمواهبه السياسية، ومثل هذا الكلام لا يصدر عن مثل سلطان عن خوف أو تملق، فقد كان أكبر من أن يخاف وأعظم من أن يتملق؛ وهو بطبعه شديد الكبر كثير المباهاة بجاهه والاعتزاز بثروته؛ بل إن صدور هذا الكلام عن رجل هذه هي صفاته إنما يزيد في قيمته ويجعله منه وثيقة خطيرة ندعو الذين يجهلون حقيقة عرابي إلى قراءتها في روية وحسن طوية
ويذكر بلنت أن التيمس لم تنشر تكذيبه لسبب لا يعرفه، والأمر في ذلك ظاهر لا يحتاج إلى طويل شرح، فالتيمس وإضرابها من الصحف الإنجليزية تخدم قضية الاستعمار أبداً، وهي خير من يدرك نيات الساسة في بلدها وأول من يطلع على حقائق الأمور، فلم تكن تجهل يومئذ ما تبيته إنجلترة لقضية الأحرار في مصر، بل وما تنتويه السياسة الإنجليزية العليا من الاستيلاء على مصر قبل أن تستولي عليها فرنسا، ولذلك فهي ما كانت لتنشر رأياً مثل هذا الرأي يأتي على لسان رجل مثل بلنت فيكون به من الإنجليز شاهداً من أهلهم عليهم (يتبع)
الحفيف