مجلة الرسالة/العدد 311/الدين الصناعي
مجلة الرسالة/العدد 311/الدين الصناعي
للدكتور محمد البهي
الأستاذ بكلية أصول الدين
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ أحمد أمين في مجلة الثقافة رقم 22 بتاريخ 11 ربيع الآخر سنة 1358 - 30 مايو سنة 1939 يشرح الدين الصناعي ويحدده
وقد تناوله من ناحيتين: من ناحية ماهيته ومن ناحية أخرى وهي مظهره العملي أو ناحية التدين به
فأما من الناحية الأولى فقد وصفه بأنه (كصناعة النجارة والحياكة يمهر فيها الماهر بالحذق والمران
. . . ويحمل صاحبه على أن يحيا به ويتاجر به ويحتال به
. . . ويحمله على أن يلوي الدين (دين الحق!!!) ليخدم السلطان ويخدم السياسة)
أما مظهره العملي في نظره فهو: (. . . عمامة كبيرة وقباء يلمع وفرجية واسعة الأكمام
. . . هو نحو وصرف وإعراب وكلام وتأويل
و (الشهادة) فيه إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه حاشية وتصحيح قول مؤلف ورد الاعتراض عليه
وأخيراً هو. . . تحسين علاقة صاحبه بالإنسان لاستدرار رزق أو كسب جاه أو تحصيل مغنم أو دفع مغرم)
وعهدي بكتابة الأستاذ أحمد أمين أن تكون لغاية إيجابية تقصد، وعهدي بأسلوبه في التفكير أن يكون مرتب الفِكرِ يصل بالقارئ إلى تلك الغاية بدون مشقة أو تكلف
قرأت مقال (الدين الصناعي) مرة ثم تكررت القراءة لأقف على الغاية العلمية التي يبغيها الأستاذ الكبير، لأن اتجاهه العلمي في أبحاثه هو الذي حملني على أن أطلب هذه الناحية أولاً فلم أخرج منه بالعناصر التي تكون الطابع العلمي للبحث والتي من بينها بل وأخصها (الاعتبار العام)
فما ذكره على أنه مظهر (الدين الصناعي) ليس له صفة العموم في كل بلد تدين بالإسلامية أو تدين أكثريته به. فا (العمامة الكبيرة والقباء الذي يلمع والفرجية الواسعة الأكمام) ليست من مظاهر التدين الحقيقي أو الصناعي بين مسلمي الهند أو مسلمي شرقي أوربا مثلاً في عصرنا الحاضر. ولم اعرف أن (النحو، والصرف وإعراب الكلام والتأويل) رمز العمل الذي يتناوله محترف الدين أو صاحب الدين الصناعي في أي بلد إسلامي، في مصر أو في غيرها من البلدان الأخرى، كما أعرف أن (الشهادة) عنده هي (إعراب جملة وتخريج متن وتفسير شرح وتوجيه حاشية وتصحيح قول مؤلف ورد الاعتراض عليه).
نعم قد يتناول الباحث اللغوي مثل هذا العمل، كأي راغب آخر في بحث موضوع بعينه قد يتناوله ويعالجه من جهات لا تلذ لبعض القراء أو يقبل ميل السامع إلى الإصغاء إليها، ولكن ذلك لا يدل على تفاهة البحث في ذاته فضلاً عن دلالته إذا ما تناوله رجل ينتسب إلى الدين على أنه مظهر تدينه أو عنوان احترافه بالدين
الأستاذ أحمد أمين، كثيراً ما كتب أيضاً في بعض النواحي الاجتماعية والخلقية في مصر، وكثيراً ما حاول في كتابته علاج تلك النواحي بعد الدقة في وصفها وتشخيصها. لهذا عمدت بعد عجزي عن محاولة جمع العناصر التي تكون الطابع العلمي من مقاله (الدين الصناعي)، إلى التفتيش عن الظاهرة الاجتماعية التي يريد الأستاذ علاجها أو عن المعنى الخلقي الشائع الذي يبغي شرحه ليوقف قراءه على شيء جديد لا يستطيع الرجل العادي أن يهتدي إليه
عرضت أمام نظري، مستعيناً بالمشاهدات، المظاهر الاجتماعية المألوفة في مصر التي يبدو فيها النقص والتي قد تؤخذ على أمة تطلب الكمال في معاني المدنية، وعرضت كذلك كثيراً من الصفات السلبية للخلق السائد فينا
حقاً وجدت (تحايلاً) وكفاحاً من طبقات مختلفة حول هذا التحايل. وجدت تحايلاً باسم (البحث العلمي) وتحايلاً باسم (حرية الفكر) وتحايلاً باسم (الديمقراطية) وتحايلاً باسم (الدين). كل طائفة تبغي قضاء رغباتها الخاصة، وكل تسلك هذه الطريق، طريق (التحايل)، مستغلة سذاجة الشعب وجهله. فكما يسند (التحايل) و (الاحتراف) (والاتجار) إلى الدين فينشأ بهذا الإسناد ما عنون الأستاذ با (الدين الصناعي) يجوز أن تسند كذلك إلى نظائر الدين مما يحترف به في مصر ويتحايل ويتجر به فيها من البحث العلمي، وحرية الفكر، والديمقراطية. . . الخ ويصح أن ينشأ أيضاً عن هذه النسبة ما يسمى بالبحث العلمي الصناعي، وحرية الفكر الصناعية، والديمقراطية الصناعية. . . الخ
فليس إذاً (التحايل) الذي جعله الأستاذ مقوم الدين الصناعي ومكوناً لأهم جزء من ماهيته خاصاً (بالدين الصناعي) ولا يتحتم أن يكون مصدره صاحب العمامة الكبيرة والقباء اللامع والفرجية الواسعة الأكمام، ولا من يتناول الأبحاث اللغوية أو يشرح التآليف، بل يصح أيضاً أن يكون صاحب البحث العلمي الحر أو من يهيم بأدب الإغريق وفلسفتهم أو خطيب المحافل السياسية
وإذا فالدين الصناعي ليس هو الظاهرة الاجتماعية التي يجب أن تعالج، ولا صاحب العمامة الكبيرة هو الملوم في إحداث هذه الظاهرة، وإنما الذي يجب أن يداوى هو (التحايل والاحتراف) بأي موضوع من موضوعات الثقافة: الدين أو العلم أو السياسة الخ. والملوم في ذلك هو جهل الأمة، وعدم استطاعتها وضع مقاييس صحيحة للقيم الرفيعة.
ولما لم أتبين الظاهرة الاجتماعية التي، ربما، أراد الأستاذ علاجها في (الدين الصناعي) وحده كما لم أنجح في تكوين طابع علمي لمقاله هذا، غلب على ظني أن الأستاذ ربما أراد أن يمتع قراءه بقطعة أدبية، وأن يهيئلهم لذة نفسية من وراء جمالها الرائع، وكثيراً ما يكون ذلك مقصد الأديب في الشرق.
والأستاذ أحمد أمين فوق ما له من الأبحاث العلمية والاجتماعية أديب وفنان!
محمد البهي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا