مجلة الرسالة/العدد 311/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 311/جناية أحمد أمين على الأدب العربي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939


للدكتور زكي مبارك

- 2 -

تعود الناس أن يسألوا: (ما الذي بين فلان وفلان؟) حين يرون غبار المعارك الأدبية؛ وقلَّ في الناس من يتصور أن تقوم معركة أدبية في سبيل الحق بين صديقين متصافيين كالذي أصنع اليوم في الهجوم على الأستاذ أحمد أمين

والواقع أن ذلك الفهم لأسباب المعارك الأدبية هو صورة بشعة من ضعف الأخلاق عند من يتوهمون أن الأدباء لا يهجم بعضهم على بعض إلا طلباً لشفاء المكتوم من أمراض الحقد والبغضاء. . .

فما الذي بيني وبين الأستاذ أحمد أمين حتى يصح أن أهجم عليه هذا الهجوم العنيف؟

أنا لا أذكر أبداً أن هذا الرجل وجَّه إلي إساءة في محضر أو مغيب، وإنما أذكر أنه كان مثال الصديق الوفيّ الأمين في مواطن يستظهر فيها الصديق بالصديق، وتنفع فيها كلمة الإنصاف عند طغيان الأغراض

والواقع أيضاً أن الأستاذ أحمد أمين لم يعان متاعب الحيرة إلا فيما يقع بينه وبيني، فهو يقرأ ما أهجم به عليه من وقت إلى وقت فيضجر ويمتعض، ثم يراني بغتة فيقرأ في وجهي آيات من المودة لا يشوبها خداع ولا رياء، فتأخذه الحيرة والاندهاش

فما معنى ذلك؟

ألا يكون معناه أن لي مبادئ وعقائد أدفع عنها السوء ولو وقع من أعزّ الأصدقاء؟

ولكن ما هي المبادئ والعقائد التي أجاهد من أجلها في هذه الأيام. . .؟

أنا أومن بأن الأدب العربي أدب أصيل، وأعتقد أن من الواجب أن ندعو جميع أبناء العروبة إلى الاعتزاز بذلك الأدب الأصيل لأنه يستحق ذلك لقيمته الذاتية، ولأن الإيمان بأصالته يزيد في قوتنا المعنوية، ويرفع أنفسنا حين ننظر فنرى أن أسلافنا كانوا من المبتكرين في عالم الفكر والبيان

وقد درج الأستاذ أحمد أمين في الأيام الأخيرة على الغض من قيمة الأدب العربي، وكان من السهل أن نتركه يقول ما يشاء لو كان من عامة الأدباء، ولكنه اليوم رجل مسئول: لأنه من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية، ولأغلاطه سناد من تلك الأستاذية، فهو يقدر على زعزعة الثقة الأدبية في أنفس طلبة الجامعة حين يريد، وذلك خطر لا نسكت عليه رعاية لما بيننا وبينه من أواصر الوداد

فإن بدا لهذا الصديق أن يغضب من هجومنا عليه فأمامه طريق الخلاص: وهو الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية إلى أن يعرف أن الأدب لا يؤرخ على طريقة الارتجال

ولعل هذا الصديق يرجع إلى نفسه في بعض لحظات الصفاء فيذكر أنه لم يخلق ليكون أديباً، وأنه لم يفكر في دراسة الأدب دراسة جدية إلا بعد أن جاوز الأربعين

لو رجع هذا الصديق إلى نفسه لعرف أنه لا يجيد إلا حين يشغل وقته بتلخيص المذاهب الفقهية والكلامية

ولو شئت لكررت ما قلت في الكلمة الماضية من أن موقفه في جميع أبحاثه موقف (المقرَّر) ولم يستطع مرة واحدة أن يكون من المبتكرين في الدراسات الفقهية والكلامية

وإذا كان هذا حاله في الفقه والتوحيد، فكيف يكون حاله في الأدب، والأدب يرتكز على الحاسة الفنية، وهي حاسة لم توهب لهذا الرجل قبل اليوم، ولن توهب له بعد اليوم، لأنها من الهبات التي لا تنال بالدرس والتحصيل؟

أحمد أمين ليس بكاتب ولا أديب وإن سودّ الملايين من الصفحات

فليس من الإسراف ولا التجني أن ندعوه إلى الانسحاب من ميدان الدراسات الأدبية. وسيرى كيف نقفه حيث وقفه الله فلا يزعزع الثقة بماضي الأدب العربي لتصح كلمة المفترين في ذلك الماضي المجيد

أُيحكم على العصر العباسي بالفقر والخمود من أجل قالة خاطئة يتنفس بها أحمد أمين؟

أُيهدم ماضينا الأدبي بمحاولة رجل محروم من الذوق الأدبي؟

إن ذلك لا يقع إلا يوم يصح أن المصريين تنكروا لماضي اللغة العربية مرضاةً لمواطن عزيز يسره أن يتطاول على الأدب وهو غير أديب

وأغلب الظن أن المصريين يؤذيهم أن يقع ذلك وهم ينفقون الملايين من الدنانير كل عام في سبيل إعزاز الأدب العربي

والجامعة المصرية أمرها عجب! في الجامعة المصرية تُدرَس الآداب الإنجليزية والفرنسية والفارسية والعبرانية واللاتينية واليونانية، ولتلك الآداب أساتذة يهمهم قبل كل شيء أن يوحوا إلى الشبان أنها آداب جديرة بالخلود. ولو رأت الجامعة المصرية أن تدرس اللغة الزنجية لوجدت أستاذاً يقول بأن لغة الزنوج أحسن اللغات فكيف تفردت اللغة العربية بالضيم والهوان في أنفس أساتذة الجامعة المصرية؟

وبأي حق يرضى أحد الأساتذة أن يقضي العمر في تدريس الأدب العربي وهو يراه (ينحدر مع التاريخ شيئاً فشيئاً ليكون أدب معدة)؟

ومن هذه النقطة نمسك بخناق الأستاذ احمد أمين

هذا الرجل ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرة عاميّة، فهو يقسم الأدب إلى قسمين: أدب معدة وأدب روح

والسخرية من المعدة لا تقع إلا من رجل يفكر كما يفكر الأطفال. فالمعدة التي يحتقرها هذا الرجل العاميّ هي سر الوجود. وعن قوة المعدة تنشأ قوة الروح. والأدباء الكبار كانوا أصحاب معدات كبار. وسر العظمة عند فيكتور هوجو يرجع إلى معدته العظيمة، وما ضعف الغزالي في أحكامه الأخلاقية إلا لأنه ألف كتاب الأحياء وهو ممعود

والظاهر أن معدة أحمد أمين معدة ضعيفة، لأنه يواجه الوجود بعزائم الضعفاء؛ وإلا فكيف اتفق له أن يؤلف في الأخلاق بدون أن يستطيع الثورة على موروث الأخلاق؟

إن المباعدة بين المعدة والروح عقيدةٌ هندية الأصل، وتلك المباعدة هي التي قضت بأن يعيش الهنود فقراء. ولو احترم الهندي كما يحترم الإنجليزي معدته لما استطاع الإنجليز أن يكونوا سادة الهنود؟

أنا أعرف أن أحمد أمين يتخلق بأخلاق الأسماك. وآية ذلك أنه لم يُغضب الجمهور مرة واحدة. وهل اتفق للسمك أن يقاوم التيار مرة واحدة؟

وهيام أحمد أمين بتحقير المعدة نشأ من رغبته في مجاراة الرأي العام في الأخلاق السلبية، الرأي السخيف الذي يحمل الدراويش والرهبان أعظم أخلاقاً من تشمبرلن وهتلر وموسيليني، والذي يجل زهديات أبي العتاهية أشرف من غراميات الشريف الرضي

وهذه العلمية في التفكير هي التي فرضت على أحمد أمين رضى الله عنه أن يرى الغزل الفاجر أدب معدة، على حين يرى وصف الطبيعة أدب روح.

وهذا الكلام ضعيف إلى أبشع حدود الضعف.

فالغزل القوي هو من شواهد الحيوية الدافقة في الرجال.

أما وصف الطبيعة فهو إحساس دقيق يأنس إليه من حرموا الأنس بالجمال الحساس الذي يملك التعبير عن العواطف والشهوات ولو شئتُ لاستشهدتُ بقول مؤلف (مدامع العشاق) إذ يقول:

(وماذا أصنع بالأشجار، والأزهار، والثمار والأنهار، والكواكب، والنجوم، والسهول، والحزون، والطيور الصوادح، والضباء السوانح؟

ماذا أصنع بكل أولئك إذا لم يكن معي إنسان أطارحه القول وأساجله الحديث، وأساقيه صهباء هذا الوجود؟

وما قيمة الليل إن لم تظلني في الحب ظلماؤه؟ وما قيمة البدر إن لم يذكرني بالثغر لألاؤه؟ وما جمال الأغصان إن لم تهزني إلى ضم القدود؟ وما حسن الأزهار إن لم تشقني إلى لثم الخدود؟ وكيف أميل إلى الضباء لو لم تشه بعيونها وأجيادها ما للحسان من أعناق وعيون؟ وكيف أصبو إلى غُنّة الغزال لولا تلك النبرات العذاب التي يسمونها السحر الحلال)؟

ذلك أيها الأستاذ رأي مؤلف (مدامع العشاق) وهو رجل له معدة وروح، ولا ينكر ذلك إلا من حرموا قوة المعدة، وقوة الروح.

وقد أراد أحمد أمين - على طريقته في التودد إلى الجماهير - أن يزج بالقرآن في مجال التفرقة بين أدب المعدة وأدب الروح، مع أنه يعرف أن القرآن لا يقيم وزناً لأمثال هذا الاصطلاح. ولو أنه تأمل قليلاً لعرف أن القرآن يفيض بالأفكار التي توجب الاهتمام بالمطالب الجسدية. وعقيدة الإسلام تقوم على أساس الاعتراف بأن الإنسان مكون من جسد وروح. والمؤمنون في نظر القرآن سيصيرون حين يرضى الله عنهم (على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين، يطوف عليهم ولدان مخَّلدون، بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصَّدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحورٌ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاءً بما كانوا يعملون)

ويحدثنا القرآن بأن أصحاب اليمين سيكونون (في سدْر مخضود، وطلح منظود، وظلّ ممدود، وماءٍ مسكوب، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة)

أيكون هذا أدب معدة لتصح سخرية أحمد أمين من المحسوسات؟ ألحق أن القرآن أقحِمَ بلا موجب في كلمة أحمد أمين. والمزية الأساسية في القرآن هي تخليص العقيدة الإنسانية من أوهام الأحبار والرهبان، ودعوة المسلمين إلى اغتنام المنافع الدنيوية والأخروية. وأظهر الأدلة على ذلك هو النص على ما في الحج من شهود المنافع، وهو نص صريح في أن مطالب المعدة تساوي في نظر الشرع مطالب الروح.

وهل يجد أحمد أمين حين يحتقر المعدة؟

هل يجدّ احمد أمين حين يحكم بأن مقالات (الكاتب) التي باعثها الأول الاستيلاء على الأجرة أدب معدة؟

أشهد أنه احتاط حين قيد هذه الحالة بقيود، ولكن تلك القيود جعلت فرضه من المستحيلات

فما هو الباعث الأول لأعمال أحمد أمين في كل ما يباشر من الشؤون؟

هل يرضى أن يعمل في الجامعة المصرية بالمجان؟

هل يرضى أن يشترك في تأليف الكتب المدرسية بالمجان؟

هل يرضى عن نشر إعلان بالمجان في مجلة الثقافة لطبعة من طبعات المصحف الشريف؟

هل يقبل الخروج من ثروته لإطعام الفقراء والمساكين؟

فإن لم يفعل - ولن يفعل - فلأية غاية ينشر هذه الآراء بين الناس؟

وهل يحق للمعلم أن ينشر من الآراء ما لا يستطيع التمذهب به في أي وقت؟

إن السر في نجاح أحمد أمين يرجع إلى أنه يحترم الواقع في مذاهبه الأدبية والمعاشية. وهو في سلوكه الشخصي نموذج للرجل الحصيف، لأنه لا يقبل على عمل إلا حين يعتقد أنه عمل ينفع

والخطأ الذي وقع فيه هذه المرة خطأ مقصود، وهو نافع في حكم المعدة، وإن كان ضارا في حكم الروح

وإنما كان هذا الخطأ نافعاً في حكم المعدة لأنه يصور صاحبه بصورة الراهب المتبتل، وتلك غاية قد تنتفع بها الأمعاء إن من الخسارة الجسيمة أن يصبح مثل هذا الرجل الفاضل من الذين يزخرفون المقالات في شؤون تضر المجتمع وتعود عليه وحده بالنفع (وتعليل ذلك واضح بقليل من إعمال الفكر) كما يحلو له أن يقول

قامت نظرية أحمد أمين على غير أساس

وما كانت نظرية، وإنما كانت حيلة (باعثها الأول ملء أعمدة من الصحف والمجلات) وقد وصل إلى ما يريد وأضيف إلى حسابه مبلغ صغير أو كبير من المال

ولولا أني أحترم المال لكرهت النص على أن هذا الصديق يعمل للمال

وهل يحتقر المال إلا من كتب عليهم أن يعيشوا أذلاء؟

نحن جميعاً نعمل للمال وللمعدة، وما في ذلك من عيب، ولكن العيب هو في تنفير الجمهور من المال طلباً لحسن السمعة بين من ورثوا السخرية من المال بفضل ما وصل إلى عقولهم المريضة من أقوال الدراويش والرهبان

وليس معنى ذلك أني أنكر مطالب الروح، فلولا مطالب الروح لما استبحت أن أخلق لنفسي عداوة رجل يضر وينفع مثل أحمد أمين

لقد فكرت كثيراً قبل أن أقدم على هذه الجملة الأدبية، وصح عندي بعد الروية أن الغض من قيمة الأدب العربي هو عدوان على كرامة الأمة العربية، فأنا استهدف لعداوة هذا الرجل وعداوة أصدقائه في سبيل المبدأ والعقيدة، فليضف هذه المقالات العنيفة إلى أدب الروح، إن كان من الصادقين!

أشرت من قبل إلى مركز هذا الرجل في الجامعة المصرية وقدرته على تلوين آراء الطلاب حين يشاء، فهل يكون من الشطط أن نقول له حين يخطئ: قِف مكانك!

لو كان أحمد أمين أديباً لقلنا إن من حقه أن يبتدع من الصور الأدبية ما يريد، ولكنه ليس بأديب، وإنما هو مؤرِّخ أدب، ولأحكامه الخاطئة في تاريخ الأدب تأثير سيئ لا يدرك خطره إلا من عرفوا أنه رجل محترم يقبل الشبان آراءه بلا مراجعة ولا تعقيب

ونسارع فنقرر أن ضمير أحمد أمين سليمٌ من الوجهة الأخلاقية، فهو يكتب ما يكتب ويقول ما يقول عن اقتناع، وإنما يصل إليه من الخطأ من طريقين: الأول عدم تمكنه من تاريخ الأدب العربي؛ والثاني عدم تعمقه في درس سرائر النفسية والوجدانية. ومن هنا كثرت أغلاطه في فهم أصول الأدب وأصول الأخلاق

والهجوم على هذا الرجل قد ينفعه أجزل النفع فينقله من حال إلى أحوال، ويحبب إليه التروي والتثبت، ويصرفه عن التحامل البغيض على الأدب العربي، ويقنعه بأن أدب الفطرة أفضل من أدب الافتعال

وأحدد الغرض من هذه الجملة فأقول:

تورط أحمد أمين في أحكام جائرة وهو يلخص تاريخ الأدب بطريقة صحفية

وقد دلتنا تلك الأحكام على أن هذا الرجل صرفته السرعة عن مراعاة المنطق والعقل؛ فما الذي سنصنع في محاكمة هذا الصديق الذي نضيّعه آسفين في سبيل الحق؟ سنقدم إليه من البينات ما يقنعه بأنه يجني على الأدب العربي أشنع الجنايات. وسنريه أن جنايته على نفسه أبشع وأفظع. وسنروضه على الاعتصام بحبل الصبر الجميل، فليس من سيف الحق خلاص ولا مناص

ويعز عليّ أن أوجه إليه هذه السهام وهو يتهيأ لقضاء الصيف في الإسكندرية. ولكن يعزيني أن أعرف أن نسمات الأصيل في الإسكندرية فيها الشفاء من كل داء

في الإسكندرية متاع العيون والقلوب والاذواق، وفي الإسكندرية (صبايا الخُلدِ تسبَح في الرحيق) وفي الإسكندرية مراتع ظباء ومرابض أسود

فاذكرني بالشر يا صديقي أحمد أمين وأنت تواجه الفتن المائجة بين الشواطئ. واذكرني بالشر حين ترى البحر وحين تخطر بشارع الكرنيش. واذكرني بالشر حين تذكر (أدب المعدة) وأنت تأكل طيبات الأسماك بالمكس، وحين تذكر (أدب الروح) وأنت تتفكر في ملكوت السابحين والسابحات، في ظمأ شديد إلى أن أذكر بالشر في ذلك المصيف الجميل!

آه ثم آه! امثلي يؤذي روحاً يصطاف بالإسكندرية وطن الشعر والخيال؟

انتظر يا صديقي، فستراني حيث تحب في المقال المقبل، وإنه لأقرب إليك من رجعة الموج الفاتن إلى الموج المفتون. والحديث ذو شجون

(مصر الجديدة)

زكي مبارك