مجلة الرسالة/العدد 311/جولة في عرصات القيامة

مجلة الرسالة/العدد 311/جولة في عرصات القيامة

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939



للأديب محمد محمد مصطفى

حدث سهيل بن النعمان قال:

. . . ونفخ في الصور فلفضتنا القبور حفاة عراة سواء منا ملك وصعلوك وعذراء حصان وبغي هلوك، لا تستطيع امرأة أن ترنو إلى رجل تجتبيه، وما يستطيع رجل أن يرنو إلى امرأة تدانيه، فكل ذاهل اللب له شأن يغنيه

ورف ملاك فوق رؤوسنا وبيده إبريق، يصب منه ماء لفريق منا دون فريق، فقلت اسقني يا هذا إني لفي صدى شديد وضيق. قال: أفأعطيت في حياتك لابن سبيل ثمداً من غدقك؟ قلت: قد كنت في حياتي نضو إملاق. قال: إن نبيك مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير. فما كانت صناعتك في الدنيا؟ قلت: شرطي. قال: أفحررت عبداً من رقه، أو كبتَّ مجرماً وكفيت الناس شره؟ قلت: لم يكن في زمني رق ولا رقيق. فرمقني وقال: يلوح لي أنك أتيت في دنياك حوباً كبيراً، وهذا الماء لمن وقى شريداً أو أطعم فقيراً. فسفحت دمعي عله يرق لي. . . لكنه تركني وانصرف

ووضع الكتاب في عرصات القيامة، وأذن في الناس إبراهيم، وجيء بالمنعمين في الدنيا فعرضوا على جهنم فسمعنا لها شهيقاً وهي تفور، وصاح صائح: إنا اعتدناها لهؤلاء نزلاً، وسيرون الآن فيها العذاب قبلا.

ورأيت قوماً تجذبهم الملائكة وتقف بهم بين يدي الله، وينادي المنادي بأعلى صوت: هؤلاء هم الشرطيون الذين كانوا في حياتهم يرتشون، والذين كانوا لا يتركون بائعاً جوالاً إلا وهم من بضاعته آكلون؛ تقوم الدنيا إلى جانبهم وهم بباعة العرقسوس لاهون!

وسئل أولهم عما كان يحشو به منديله المحلاوي من لب وفشار، وبطاطا وخيار، وما كان يرشي به من درهم ودينار. ونظرت إليه فإذا هو ناكس رأسه حزناً وألماً يقول:

قد رأيت يا رب قلة راتبي وكثرة أطفالي وإن أحدهم كانت تهصر نضارته الحمى وأمه قائمة إلى جانبه يرفض كبدها لصوت أنينه، فلم أملك رفض الدراهم التي كانت تقدم إليّ لأدفعها للطبيب ثمن الحياة لطفلي، إذ لم يكن ينتفع في الدنيا بطب الطبيب سوى الأغنياء. ولم أسمع أن أحداً منهم خصص يوماً للفقراء، وكان زمني كله شرور فذوو السعة يغلون أيديهم لا يبسطونها إلى لشهوة أو نزوة أو لوليمة تقام للأمراء والأغنياء، ولم أر موسراً دعي إلى مأدبة فقراء

وكان في زمني مبنى يسمى (متحف الآثار)، كانت تكدس به تماثيل وقطع من الأحجار، يهرع لرؤيتها الأغنياء من الأقطار والأمصار، وكان يكفي ثمن القطعة منه لبناء أكبر دار تضم بين جدرانها العرايا والمشردين من الأطفال الصغار، الذين كانوا يفترشون الأرصفة فتهطل على أجسادهم الرقيقة الأمطار، على أن أحداً لم يحفل ببيع ما تماثل أو تشابه من هذه الآثار، ليدفعوا ببعض ثمنها عني وعن أولئك الأطفال الدمار، بحجة أن في بيعها لمصر عاراً. مع أن تركيا فعلت ذلك واشترت بثمن آثارها أسطولاً في الجو وآخر يمخر البحار، ولم نسمع في زمننا أن أحداً أشار إليها بعار أو شنار. . . وكنت أقف النهار يلوحني الهجير، وأسهر الليل يقضقض عظامي الزمهرير، ولا يدفع لي عن ذلك إلا أجر يسير؛ فقيل له: ألك شاهد بذلك؟ قال: رَسِل باشا. فهتف مناد: يا رسل يا ابن حواء! فأشخص إلى المولى وسئل فوافق على ما قاله رجاله، فدخلوا بشهادة الجنة آمنين. . .

ومر مثل عمري في الدنيا حتى حان دوري في الحساب فشدهت من هول الموقف وفرقاً من هيبة الله وجعلت أسبح وأستعيذ والملاك يغذ بي السير حتى مثلت بين يدي الله فغشي بصري من نوره، وثقلت سيئاتي، فسئلت: لم فسقت عن أمر ربك؟ فألجمني الفزع الأكبر. فهتف هاتف: عذبوه. فانطلق بي الزبانية وإذا بي من جهنم على شفير، فريع قلبي وصرخت صرخة رجعت أصدائها أطباق الجحيم وجأرت بالشكوى إلى الله أن يكشف عني الضر (إنني من أمة حبيبك محمد الأمين). . . فرأيت خاتم الرسل يطوي إليّ رحب السماء على البراق وهو يهتف بي: (لا تثريب عليك فقد غفر الله لك). . . ووكل بي حورية هيفاء حملتني وانطلقت بي إلى جنة الخلد التي وعد الله بها المتقين

وأخذت أخبط في جنبات البساتين فإذا بقصور من در تتغلغل في رياض الجنة وورودها لتفئ إلى عزلة سعيدة، فسألت حوراء من حور الجنان: لمن يكون هذا الحي فقالت: إنه لصرعى الغرام. قلت هل تدليني على قيس بن الملوح) إنه مات وجداً بليلاه. فقالت: أنا بك إليه

ودلفت وراءها إلى فناء قصر تتوسطه بركة ملئت ماء ورد قد خلط بمسك وزعفران، وإذا فتى إلى جانبها يتدفق الشباب في برديته ويلتهب بحمرة الورد خداه قد أجلس على ركبتيه فتاة في مثل تهاويل الزهر قد أسبغت عليها الجنة جمال أنوثة الدنيا وبهاء الملائكة، ينظر إليها وترنو إليه. . . وبدا لي أنهما لم ينتبها لي كأن بيني وبينهما آفاقاً بعيدة، فصحت مسلماً فنهضا وسلما. . . فقلت إن شعرك يا قيس ظل يتلى حتى قامت الساعة وأنا أعرفك من شعرك. فرحب بي وسهل، واقترحت ليلى أن توصلنا السابحات إلى عين السلسبيل، وقال قيس: سيكون العشاق لك ندامى وسترقص لك وتغني حور عين. وعلى شاطئ النهر دارت بنا كؤوس من زبرجد أخضر نعب منه خمراً لذة للشاربين، وأفعمت حورية أفئدتنا بصوتها السماوي الساحر، ولعبت الراقصة بقلوبنا برقصها المائس الباهر. وتلبثت وقتاً بينهم في بلهنية وخمر. ولما تعالم العشاق إزماعي الرحيل عن حيهم ألجموا إلي فرساً من نور طفت بها أحياء الجنة والملائكة حولي تهتف: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

محمد محمد مصطفى

بإدارة مدرسة البوليس