مجلة الرسالة/العدد 311/صلاح الدين موسى

مجلة الرسالة/العدد 311/صلاح الدين موسى

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939



المعروف بقاضي زاده الرومي

للأستاذ قدري حافظ طوقان

من الغريب أن نجد في تاريخ الرياضيات لسميث في الجزء الأول ص 289 أن غياث الدين يعرف بقاضي زاده الرومي وأيضاً بعلي القوشجين وهذا خطأن فغياث الدين لم يعرف بأحد هذين الاسمين بل إن غياث الدين وقاضي زادة وعلي القوشجي هم ثلاثة أشخاص اشتهروا باهتمامهم في العلوم الرياضية والفلكية، وقد يكون الخطأ الذي وقع فيه سميث ناتجاً عن كون الثلاثة اشتغلوا في مرصد سمرقند وعاونوا ألفي بك صاحب المرصد وأمير تركستان وما وراء النهر في إجراء الأرصاد وعمل الأزياج

إن قاضي زادة الرومي هو صلاح الدين بن محمد بن محمود من علماء الرياضيات والهيئة الذين اشتهروا في القرن التاسع للهجرة، ولد في بروسة في النصف الأخير من القرن الثامن للهجرة وتوفي في سمرقند بين 830هـ و40 هـ. درس مبادئ العلوم على علماء زمانه ثم لازم علي شمس الدين منلا فنارى ودرس عليه الهندسة وقد مدح له علماء خراسان وما وراء النهر وذكر له الشيء الكثير عن تفوقهم في الهيئة والرياضيات مما أوجد رغبة عند صاحب الترجمة في الذهاب إلى تلك البلاد للاجتماع بعلمائها والاغتراف من فيض علمهم ونبوغهم

ولقد شعر قاضي زادة أن أهله سيمانعون في سفره، ولذلك عوّل على تنفيذ عزمه مهما كلفه الأمر. ويقال إن إحدى شقيقاته شعرت بذلك وخافت أن يقع أخوها تحت غوائل الحاجة والفاقة في بلاد الغربة فوضعت بعض مجوهراتها بين كتبه التي ستصحبه في السفر. وفي أواخر القرن الثامن للهجرة اختفى قاضي زادة بغتة وإذا هو في طريقه إلى خراسان وبلاد ما وراء النهر حيث درس على علمائها العلوم الرياضية وقد وصل فيها إلى درجة يحسده عليها معاصروه من فحول العلماء وكبار الحكماء

اشتهر في سمرقند وذاع صيته، واستدعاه ألفي بك وقربه وأغدق عليه العطايا وعيّنه أستاذاً له. ولا شك أن الفضل فيما نجده في ألفي بك من رغبة في مواصلة الدرس والبحث يرجع إلى قاضي زاده الر ولقد دفعته هذه الرغبة إلى تأسيس مدرسة عالية وعهد إلى قاضي زاده بإدارتها. وقد بنيت المدرسة على شكل مربع في كل ضلع من أضلاعه قاعة للدرس عُيِّن لها مدرس خاص. وكان قاضي زاده يدرس للطلاب ومدرسي القاعات ويحاضرهم مجتمعين. ومما يؤثر عنه أنه كان شديد المحافظة على كرامة العلماء والأساتذة لا يرضى بالتعدي على استقلالهم ويقف دون أية محاولة للضغط عليهم، كما كان من القلائل الذين يحملون روحاً علمياً صحيحاً، اشتغل للعلم لا لغيره، لم يبغ منه مكسباً أو جاهاً

عزل ألفي بك أحد المدرسين في المدرسة المذكورة فاحتج قاضي زاده على ذلك وانقطع عن التدريس وإلقاء المحاضرات. ويظهر أن ألفي بك شعر بخطئه فذهب بنفسه لزيارته وسأله عن سبب الانقطاع، فأجابه: كنا نظن أن مناصب التدريس من المناصب التي تحيطها هالة من التقديس لا يصيبها العزل وأنها فوق متناول الأشخاص. ولما رأينا أن منصب التدريس تحت رحمة أصحاب السلطة وأولي الأمر وجدنا أن الكرامة تقضي علينا بالانقطاع احتجاجاً على انتهاك حرمات العلم والعبث بقداسته.

إزاء ذلك لم يسع ألفي بك إلا الاعتذار وإعادة المدرس المعزول وإعطاء وعد قاطع بعدم مساس حرية الأساتذة والمعلمين

قد يمر كثيرون بهذا الحادث ولا يعيرونه اهتماماً؛ ولكن إذا نظرنا إلى حاجة قاضي زاده إلى الوظيفة ومعاشها وإلى سطوة الأمراء في تلك الأزمان وإلى الجرأة النادرة التي ظهر بها، نجد أنه لا يقدم على ما أقدم عليه إلا من أنعم الله عليه بروح علمي صحيح وبثقة في النفس عظيمة لولاهما لما وصل قاضي زاده إلى ما وصل إليه من مكانة رفيعة ومقام كبير عند العلماء وأصحاب الثقافة العالية

امتاز قاضي زاده على معاصريه بعد اعتقاده بالتنجيم أو الأخذ به؛ وكان لا يرى فيه علماً يستحق الاعتناء أو الدرس بعكس ألفي بك الذي يعتقد به ويسير أموره بموجب أحكامه. وقد أَدى هذا الاعتقاد إلى وقوعه في مشاكل وصعاب انتهت بالقضاء عليه كما يتبين لنا من ترجمة حياته

رغب ألفى بك في علم الفلك ورأى فيه لذة ومتاعاً وأحب أن يتحقق من بعض الأرصاد التي قام بها فلكيو اليونان والعرب وأن يتقدم به خطوات، لهذا بنى مرصداً في سمرقند كان إحدى عجائب زمانه. زوده بالأدوات الكبيرة والآلات الدقيقة وطلب من غياث الدين جمشيد وقاضي زاده أن يعاوناه في إجراء الرصد وتتبع البحوث الفلكية. وقد توفي غياث الدين قبل بدء الرصد كما توفي الثاني قبل إتمامه، فعُهد إلى علي القوشجي بأعمال الرصد ليكملها

ومما لا شك فيه أن الأرصاد التي أجراها قاضي زاده مما تزيد في قيمة الأزياج التي وضعت على أساسها. فقاضي زاده لم يكن من علماء الهيئة فحسب، بل كان أيضاً من اكبر علماء الرياضيات في الشرق والغرب. درس عليه كثيرون، وبرز بعض تلامذته في ميادين المعرفة، وإلى هؤلاء يرجع الفضل في نشر العلم والعرفان في بعض الممالك العثمانية. يقول صالح زكي: (. . . إن هناك كثيرين اخذوا عن قاضي زاده وقد انتشر بعضهم في الممالك العثمانية ففتح الله الشيرواني الذي درس العلوم الشرعية علي الشريف الجرجاني والعلوم الرياضية علي قاضي زاده، وذهب إلى قسطموني حيث اشتغل بالتدريس وكان ذلك في حكم مراد خان الثاني، وكذلك علي القوشجي الذي دعي إلى زيارة استامبول، وبقي فيها مدة يعمل على نشر العلم وكان ذلك في عصر محمد الثاني. . .)

ولقاضي زاده رسائل نفيسة ومؤلفات قيمة منها:

رسالة عربية في الحساب، وقد ألفها في بروسه سنة 784هـ قبل ذهابه إلى بلاد ما وراء النهر ولها شرحان.

وكتاب (شرح ملخص في الهيئة) وهو شرح لكتاب (الملخص في الهيئة) لمحمود بن محمود بن محمد بن عمر الخوارزمي وضعه بناء على طلب ألفي بك

ورسالة في الجيب وهي رسالة ذات قيمة علمية تبحث في حساب جيب قوس ذي درجة واحدة.

وكذلك له شرح (كتاب ملخص في الهندسة) تأليف محمود بن محمود الخوارزمي، وقد عمل الشرح بناء على رغبة ألفي بك

وشرح كتاب أشكال التأسيس في الهندسة تأليف العلامة شمس الدين بن محمد بن أشرف السمرقندي - وهذا الكتاب خمسة وثلاثون شكلاً من كتاب أقليدس

(نابلس)

قدري حافظ طوفان