مجلة الرسالة/العدد 311/من صور الماضي. . .

مجلة الرسالة/العدد 311/من صور الماضي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939


كان الفلاح في القرن الماضي يكابد صِنفاً من الخَلق صورهم الله على مثال عجيب من خفة الصقور وفتكة النمور وهيئة الناس ليكونوا مذكرين بجبروته ومنذرين بعذابه! كانوا من الأرناءود أو الجركس؛ وكان عملهم جباية الضرائب على كل شيء، ومن كل شخص، وفي كل وقت، وبكل صورة؛ أو اقتحام الدور للبحث عن المحظور أو المحكور من الملح والصابون إذا اقتناهما أحد من غير طريق الحكومة. وكان سبيلهم إلى ذلك سبيل الإرهاب والعنف؛ فمتى دخل أحدهم قرية من القرى دخلها الفزع والروع فلا يملك السائر أن يتقدم، ولا الواقف أن يتكلم، ولا الداخل أن يخرج؛ ثم تخشع في القرية الحياة فلا تسمع حساً ولا حركة إلا هرير الكلاب وقوقأة الدجاج وصراخ الصِّبية! فإذا خرج منها (الجندي) كما كانوا يسمونه انطلقت من ورائه ضجة شديدة في البلد من بكاء المضروب وصراخ المنهوب ودعاء المضطرب!

فلما انتظمت أداة الحكومة بعد الثورة العرابية أنكمش هذا النوع حتى انحصر رهبوته في ضياع الأمراء و (جفالك) السادة. وكانت قريتنا وسبع قرى أخرى متجاورة قطائع لعلي باشا شريف في أواخر القرن الماضي؛ وكانت الإمارة والإدارة فيها لهؤلاء والأرناءود أو (الأرنطة) كما كنا نقول، ففرضوا عليها نظاماً في العيش أخذوه عن حياة الحيوان وعيشة العبد. فكان الناس، كما يحدثنا الباقون منهم، لا يملكون مالاً ولا حرية ولا حياة؛ وإنما كانوا يعملون بالتعذيب ويُغَلون بالكره، كما تعمل الماشية بلسعات السوط وهي صابرة، وتُغَلُّ الأرض بضربات الفأس وهي صامتة. وكان لفظ (المأمور) معناه الموت الذي لا عاصم منه ولا مهرب. ذلك أنه كان يخرج كل يوم على جواده إلى الحقول، شاكي السلاح، كاشر الوجه، منفوخ اللغاديد، مفتول الشارب، متوقد النظر، كأنه تمثال الرعب أو صورة الهُولة! ثم يسير متلفتاً ذات اليمين وذات الشمال لا لتفقد العمال ويتعهد الزروع، ولكن ليبحث عن إنسان يعذبه أو حيوان يضربه. والناس قد تعودوا منه ذلك فهم لا ينفكون طول النهار يرقبون ناحيته ويرصدون طريقه؛ حتى إذا أبصروه من بعيد غابوا في مخابئ الأرض كأنهم لم يكونوا! فإذا عاد من طوافه خائب السوط جلس أمام الدوار وأمر أن ترش الأرض وأن يلقي في وحلها من جاءه في طلب حاجة أو رفع مظلمة! ثم يصيح بالجلاد أن ينهال عليه بالكرباج، وهو في خلال ذلك يميد من الغضب ويبربر من الغيظ حتى تهدأ ثورته وترضى كبرياؤه بعد لأي! وكان العمد والمشايخ منوطين به، فلا يسمعون الأمر والنهي إلا منه، ولا يرفعون مشاكل القرى وقضاياها إلا إليه. لذلك ظل أهلوها يجهلون أن لهم خديوياً غير علي شريف، و (نظاراً) غير نظار الزراعة، و (مأموراً) غير مأمور التفتيش. وكان هذا (الحاكم) كسائر بني جنسه مغلق الذهن مطبق الجهالة؛ يجهل الزراعة ولكنه يأمر، ولا يعلم القضية ولكنه يحكم، والجاني المحكوم عليه هو الذي يجرؤ على أن يعقِّب أو يعارض. وكان سادته لا يفوقونه في الذكاء ولا في الرحمة؛ فكانوا إذا زاروا هذه القرى - وقليلاً ما كانوا يزورون - تنكبوا بنادقهم وخرجوا يقتلون الوز في البرك، والحمام في الأجران، والكلاب على التلول والغربان على الشجر. ويراهم الناس فيرنون إليهم دهشين من طرابيشهم الحمر على وجوههم البيض، ويظنون أن وراء هذا الرواء جمال القلب وكرم النفس؛ فإذا دنوا منهم يسألونهم الإحسان والعدل زموا بأنوفهم ومضوا مستكبرين لا ينظرون ولا يجيبون!

أذكر وأنا صبي دون اليفاعة أن الناس كانوا يتحدثون عن جبار من هذا الطراز اسمه (زينل). كانوا عه كما يتحدثون عن البلاء، ويؤرخون بعهده كما يؤرخون بالوباء، لأنه أذلّ الفلاحين بالخوف والجوع، وأضاع شبابهم بين التربة والغربة. ولا تزال الألسنة هنا وهناك تتناقل هذه المأساة من مآسيه:

يقولون إنه كان في القرية من هذه القرى شاب لم تلد نساؤها أجمل منه وجهاً ولا أشجع منه قلباً ولا أرقعاطفة. وكان هذا الشاب بحكم شبابه وجماله وكرمه حبيباً لكل فتاة وصديقاً لكل فتى، ولكنه كان كلفاً ببنت عمه، فهي وحدها حافز عمله وغاية أمله وروح حياته

وفي ذات عشية من عشايا الصيف كان علي وليلى عائدين من الحقل وهما ينسمان بالحب الخالص، ويبسمان للغد المرجو، فغلبت على العاشق نشوة الطرب من جلال الطبيعة وجمال الفتاة، فقال وهو يقدم إليها آخر قطعة بقيت في يده من الحلاوة:

- ألا تشتهين شيئاً في الدنيا غير هذه الحلاوة يا ليلى؟

فقالت له ليلى بعد لحظة من الصمت الحالم:

- لا أشتهي بعد قربك يا علي إلا عنقوداً من العنب!

عنقود من العنب؟ إن الثريا أقرب إلى يديه من هذا العنقود! وهل رأى في دنياه العنب إلا في حديقة (التفتيش)؟ وماذا يصنع والدنو من سياجها هلاك محقق؟ ولكن الحب لا يدرك البعيد ولا يعرف المستحيل. فكمن عليٌّ بعد رجوعه من الغيط في كومة من دريس (الوسية) حتى جنه الليل فقام يتسلق سور من جانبه المظلم، فما بلغ أعلاه سقط في الحديقة فكانت سقطته في يد الحارس!

وبات علي في سجن الدوار. وأصبح الصباح فجلس المأمور والمعاونون والنظار، ورشت الأرض، وطُرح الجاني، وتعاقبت على جسده المعرَّى عذبات الكرابيج، والناس من حوله يضجون بالبكاء ويضرعون بالرجاء؛ و (الأغوات) يتلذذون برؤية الدماء المنزوفة والدموع المذروفة، ويطربون لسماع الأنات الضارعة والصرخات المتصلة، حتى كلت يد الضارب وخفت صوت المضروب فحملوه إلى السجن. وشفع العمدة لأهله أن يأخذوه. فلما دخلوا عليه لم يجدوا فيه وا أسفاه إلا حشاشة نفس لفظها على صدر حبيبته أثناء الطريق!

أحمد حسن الزيات