مجلة الرسالة/العدد 312/الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق

مجلة الرسالة/العدد 312/الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1939



للأستاذ بيير فيينو

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة؟

ولنتساءل الآن: ما هي الظروف التي أحاطت بمفاوضات المعاهدة السورية الفرنسية؟

ليست البلاد السورية بلاداً منعزلة في محيط بعيد، ولكنها على النقيض من ذلك تقع في قلب العالم وتخضع لتيارات من التأثيرات العميقة: أهمها سياسة إنكلترا في البلاد العربية المجاورة كمصر والعراق

ومهما يكن شأن تلك السياسة فنحن لا نستطيع أن ننكر أنها ساعدت في مختلف مراحلها على إثارة الشعور العام في البلاد التي تخضع لانتدابنا

وأول ذلك أن إنكلترا وعدت الشريف حسين سنة 1914 بالمساعدة على تأليف الإمبراطورية العربية، ثم إنها اتخذت بعد الحرب سياسة تختلف كل الاختلاف عن سياستنا نحن، فقد عقدت سنة 1930 معاهدة مع العراق كانت نهاية للانتداب البريطاني وفاتحة لانتظام العراق في سلك جامعة الأمم. وفي سنة 1935 بدأت مفاوضاتها مع مصر لعقد معاهدة صداقة وتحالف. . . وما من شك في أنه كان لهذه السياسة أثر كبير في سوريا التي كانت ترقب مجرى الحادثات في غليان وقلق

وقد أثبت ذلك سلسلة الوقائع المتأخرة، ففي 10 يناير 1936 قرر الحزب الوطني اتباع سياسة سلبية مطلقة وإعلان الإضراب العام إلى أن تجاب مطالب سوريا في الوحدة والاستقلال. وضم الإضراب سلسلة من المآسي وأسفر عن 60 قتيلاً ومئات من الجرحى، واضطر مندوبنا في سوريا مسيو (دومارتل) أن يستشير وزارة الخارجية، وكان على رأسها المسيو فلاندان فأشار بفتح باب المفاوضات مع وطنيّ سوريا

وقد انبثق عن هذه المفاوضات بين زعماء الحركة الوطنية وبين المفوض السامي تصريح أول مارس سنة 1936 الذي نص على وجوب عقد معاهدة في باريس بين وزارة الخارجية ووفد مفاوض تنتخبه البلاد، على ألا تقل هذه المعاهدة عن معاهدة إنك والعراق

ولا شك أن هذا التصريح كان يحمل طابع الضعف، لأنه صدر إثر تهديد شعبي قوي لم تتمكن الإدارة الفرنسية من أن تصمد له، ولكنه مع ذلك ضروري لازب، لأنه كان على فرنسا أن تختار بين العناد والمقاومة وبين الاتفاق والمسالمة - كما أبرق بذلك المندوب السامي في فبراير 1936 - وطبيعي جداً ألا تزج فرنسا بنفسها في مغامرة جديدة بعد تجربة الثورة السورية الكبرى فضلاً عن أنها ترغب في أن تفي بوعودها المتقدمة

ولقد وجهت بعض الاعتراضات على انتخاب أعضاء الوفد المفاوض، ولكن الواقع يضطرني إلى أن أقول إن هؤلاء الوطنيين المفاوضين هم الذين ناضلوا في سبيل بلادهم، وإنهم كانوا مصدر الصعوبات التي وجدناها في سوريا، وإن فشل معاهدة سنة 1933 أظهر في كثير من الجلاء ضرورة التعاون مع الجماعات الوطنية للوصول إلى تعاقد مُرضٍ حاسم

يقولون إن رجال الوفد المفاوض ليسوا أصدقاءنا - ولكنه قول خاطئ - لأن خصومة الانتداب لا تعني بالضرورة خصومة فرنسا

ولنسلم جدلاً أن ذلك صحيح، أو ليست السياسة أن يسالم الرجل أعداءه لا أصدقاءه؟

المعاهدة

لقد كان الغرض الرئيسي من التعاقد استبدال الانتداب الفرنسي بمعاهدتين مع سوريا ولبنان. وابتدأت المفاوضات في منتصف شهر مارس، وكانت تقتضي منا أن نوجه انتباهنا إلى كل ما يجري حولنا. . . ففلسطين كانت تخوض غمرات ثورة حمراء كنا نخشى أن يمتد لهيبها إلى سوريا، وفي المغرب تتماوج الاضطرابات العنيفة ضد فرنسا عند كل بلبلة في الشرق الأدنى، ولهذا لم يكن في وسعنا أن نقف في المفاوضات موقف الآمر الناهي؛ وإنما كنا نستمع إلى جلسائنا ونناقشهم ونجادلهم وسأبدؤكم بالحديث عن المعاهدة السورية:

لقد كان تصريح أول مارس مؤكداً لاستقلال سوريا، أما المعاهدة فتصرح أن هذا الاستقلال يتحقق في انتساب سوريا إلى جامعة الأمم كما تشترط فترة انتقال تمتد ثلاث سنوات تمتحن فيها مقدرة السوريين على الإدارة والحكم.

على أن أطراف المشكلات التي اعترضت المفاوضات مشكلة العلاقات السورية اللبنانية؛ ويهمنا كفرنسيين أن يبقى لبنان في نجوة من طغيان الوحدة السورية.

ومع هذا فيجب أن نقرر أن الوطنية السورية تجد في لبنان عناصر مؤيدة فعالة؛ وذلك أن عدد سكان لبنان 850. 000 أكثرهم من المسيحيين، ولكن بعض المدن مثل طرابلس التي تنتهي فيها أنابيب بترول الموصل مسلمة كلها. وقد أثبتت التجارب أن من الصعب أثناء الاضطرابات والقلاقل السياسية أن تحول السلطات دون ظهور الشعور الفعال في الأطراف الأخرى. . .

ولقد عرفنا ذلك 1920 - 1921 في لبنان الجنوبي ومنطقة العلويين؛ وفي سنة 26 كان اتحاد الدروز مع وطنيّ دمشق مثلاً رائعاً لهذه الألفة. وفي يناير 1936 خضعت طرابلس المدينة اللبنانية إلى حركات الوطنيين في دمشق فشاركت في الإضراب العام. ومن هنا ظهرت لنا ضرورة العناية باستقلال لبنان وانفصاله لما له من أهمية رئيسية بالنسبة إلى فرنسا

ولقد كانت المفاوضات في هذه الناحية - ناحية العلاقات بين سوريا ولبنان - صعبة عسيرة، ولكنها انتهت أخيراً إلى عزلة كل من البلدين عزلة كاملة؛ لأننا عارضنا بقوة وشدة كل محاولات طغيان سياسي أو اقتصادي سوري على لبنان

أما مستقبل العلاقات بين فرنسا وسوريا، فقد كانت مدة التعاقد التي نصت عليها المعاهدة خمسة وعشرين عاماً تقوم سوريا خلالها باستشارة فرنسا في الأمور المشتركة بين البلدين

وأما الناحية العسكرية فقد سويت في ملحق خاص واعترضها بعض العقبات الكثيرة التي استطعنا أن نتغلب عليها بفضل مهارة المفاوض السوري ومرونة خلقه السياسي

ويختلف الملحق العسكري في المعاهدة السورية عن الملحق العسكري في المعاهدة العراقية - الإنكليزية، التي تنص على بقاء قاعدتين جويتين لسلاح الطيران الإنكليزي، وعلى تحديد مناطق النفوذ البريطاني، بينا يمتاز الملحق العسكري للمعاهدة السورية بأنه يدع مناطق النفوذ من غير تحديد ويترك لفرنسا حق الاحتفاظ بمركزين لجيوشها في مقاطعتي العلويين وجبل الدروز

أما حماية الحقوق والمصالح الفرنسية فمن الطبيعي أن نقول إن المعاهدة صانت هذه الحقوق في نصوص واضحة، ولا سيما ما يتعلق بالمصالح الاقتصادية والحقوق المكتسبة للأشخاص الماليين والفنيين، وتعهدت بالإبقاء على نظم المؤسسات العلمية الحاضرة وبعثات الحفريات ومعاهد الدراسة الأجنبية؛ ونصت كذلك على استخدام ثمانين مستشاراً فرنسياً في نواحي الإدارة. وقد كان هذا كله ضرورياً من أجل البلاد التي انتشرت فيها ثقافتنا بفضل البعثات التبشيرية واللادينية

هذا فيما يتعلق بالمعاهدة السورية، أما عن المعاهدة اللبنانية فأستطيع أن أقول إنها نسخة ثانية من المعاهدة السورية، ولكنها تمتاز بأن مدة التحالف التي حددت بـ 25 سنة في المعاهدة السورية يمكن تجديدها ثانية في المعاهدة اللبنانية لمدة مساوية؛ وأن القواعد العسكرية لا تخضع لحدود معينة في التمركز والتنقل والمناورات.

وأخيراً قد استطعنا بواسطة هذا النظام الجديد أن نوطد مقامنا في لبنان وأن نثبت أركانه.

تلخيص

شكري فيصل