مجلة الرسالة/العدد 312/دراسات إسلامية

مجلة الرسالة/العدد 312/دراسات إسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1939



الزندقة في الإسلام

للأستاذ عبد الرحمن بدوي

للزندقة في الإسلام تاريخ شائق، عنى المستشرقون بدراسته عناية شديدة، فكتبوا فيه الرسائل القصيرة أو المقالات الطويلة المستفيضة التي تظهر باستمرار وأغلب ما فيها جديد طريف. ولكنهم لم يبلغوا من هذا كله شأواً بعيداً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يلقوا ضوءاً قوياً ساطعاً على أغلب نواحيه

عنوا بدراسة هذا التاريخ لأنه بدون إيضاحه وتعمقه لن نستطيع أن نفهم كيف نشأت بعض النظريات في علم الكلام بل بعض المذاهب الكلامية التي ازدهرت خصوصاً في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إذ أن الكثير من نظريات مذهب كمذهب المعتزلة لا يمكن أن يفهم بدون معرفة هذه الخصومات الكثيرة العنيفة التي كانت تقوم بين كبار المعتزلة وبين الزنادقة، والتي كان يثيرها هؤلاء الأخيرون فيضطر أصحاب الاعتزال إلى أن يتخذوا موقفاً بازائها خاصاً. حتى أنه لو أتيح لنا أن نبحث في تكوين النظريات المختلفة التي يشتمل عليها مذهب المعتزلة بحثاً دقيقاً، يتابع تطوره ويرسم المنحنى الذي عليه سار، إذن لوجدنا للزندقة أكبر الأثر وأعظم الخطر في هذا التكوين

كما لا نستطيع أن نفهم أيضاً تلك الحركة السياسة الحضارية الخطيرة التي ظهرت خصوصاً في أوائل حكم العباسيين، وأعني بها حركة الشعوبية. ودون أن نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور طه حسين في كتاب (حديث الأربعاء) من إرجاع حركة الزندقة كلها أو معظمها إلى حركة الشعوبية، نستطيع أن نؤكد على أقل تقدير أن بين كلتا الحركتين صلة قوية شديدة، حتى كان بعض أنصار العربية ضد الشعوبية يتخذون من الشعوبية وسيلة للدلالة على الزندقة كما سنرى بعد حين

وإلى جانب هذا كله لا يمكن أن ندرك التطور الروحي في بلاد الإسلام والحياة العقلية عامة على حقيقتهما، إلا إذا نظرنا إلى حركة الزندقة باعتبارها عاملاً من أخطر العوامل التي لعبت دورها في ذلك التطور وهذه الحياة، فسيرت الأول في اتجاه معين وحددت له خطوطاً رئيسية مشى فيها؛ وكيّفت الثانية تكييفاً معيناً وصبغتها بصبغة خاصة لم تبه على مر الزمان

فلهذه الأسباب كلها ولغيرها من الأسباب وجه المستشرقون عنايتهم إلى هذه الدراسة؛ ولكن دراستهم هذه لا تزال حتى اليوم ناقصة، فيها الكثير من التشويه واللبس. وذلك راجع إلى أن تاريخ الزندقة في الإسلام موضوع غامض كل الغموض، مضطرب كأشد ما يكون الاضطراب، يشق علينا كثيراً - الآن على اقل تقدير - أن نتبينه في وضوح وان نتمثله في جلاء

فلفظ (زنديق) لفظ غامض مشترك قد أطلق على معان عدة، مختلفة فيما بينها على الرغم مما قد يجمع بينها من تشابه. فكان يطلق على من يؤمن بالمانوية ويثبت أصلين أزليين للعالم: هما النور والظلمة. ثم اتسع المعنى من بعد اتساعاً كبيراً، حتى أطلق على كل صاحب بدعة وكل ملحد. بل انتهى به الأمر أخيراً أن يطلق أيضاً على من يكون مذهبه مخالفاً لمذهب أهل السنة، أو حتى من كان يحيا حياة المجون من الشعراء والكتاب ومن إليهم. وقد كتب الأستاذ هانز هينرش شيدر فصلاً ممتعاً عن أصل هذا اللفظ واستعماله عند الكتاب غير الإسلاميين وجمع الأستاذ ماسينيون معاني اللفظ كما استعمله الكتاب الإسلاميون في البحث الذي كتبه في دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة (زنديق) وفي كتابه عن (عذاب الحلاّج). ويظهر من هذين البحثين أن اللفظ قد اتسع معناه إلى حد لا يسمح بتحديده تحديداً دقيقاً مما يحملنا على الحذر والانتباه الشديد للمعنى المقصود به في السياق الذي نجده فيه

ثم إن المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة قليلة غير مأمونة. وهذه القلة إما لأن كتب الزنادقة قد فقدت كلها تقريباً، ولم يعد بين أيدينا منها إلا شذرات ضئيلة نعثر عليها بعد عناء طويل في كتب الردود، مثل هذه الشذرات التي عثر عليها الأستاذ كراوس في كتاب (المجالس المؤيدية) وهي شذرات لابن الراوندي مأخوذة من كتابه (الزمرذ) قد رد عليها داعي الدعاة مؤيد الدين الشيرازي في هذه المجالس الموسومة باسمه؛ أو لأن بعض المصادر التي تحدثنا عن الزندقة والزنادقة لا تزال مخطوطة حتى اليوم فليست في متناول يد الباحثين. وأهم المصادر من هذا النوع كتب الشيعة مثل كتاب (الاحتجاج) للطبرسي

كما أنها غير مأمونة من ناحيتين: الأولى أن الروايات المكتوبة في بعضها لم يتحر أصحابها الدقة في إيرادها، فجاءت في الغالب مهوشة ناقصة. والثانية أن البعض الآخر من هذه المصادر، وهو أغلبها، قد كتبه الخصوم وأوردوا فيها آراء الزنادقة بعد أن أدخلوا عليها شيئاً غير قليل من التبديل والتغيير، بما يوافق أغراضهم في الخصومة والحجاج، ومما يتلاءم مع الإلزامات التي يريدون أن يستلخصوها منها. ولهذا يصعب على الباحث أن يتبين أقوال الزنادقة الحقيقية وأن يعرف كيف كانوا يوردونها

ومن أجل هذه الصعوبات مجتمعة كان الباحثون من المستشرقين يقتصرون على دراسة ناحية صغيرة من نواحي الزندقة، أو واحد من كبار الزنادقة الذين يستطيعون أن يجدوا منهم في المصادر شيئاً. ولم يستطع واحد منهم حتى هذه الأيام الأخيرة أن يكتب بحثاً شاملاً لهذه الحركة يتناولها من جميع نواحيها

فعن صالح بن عبد القدوس ألقى جولد تسيهر بحثاً قيماً في المؤتمر الدولي التاسع للمستشرقين سنة 1893. ثم من بعده كتب ا. كريمسكي رسالة صغيرة (في 65 صفحة) بالروسية عن أبان ابن عبد الحميد اللاحقي طبعت في موسكو سنة 1913. وكان ابن المقفع خصوصاً موضوعاً لدراسات عدة أشهرها ما كتبه عباس إقبال في كتابه (شرح حال عبد الله بن المقفع، فارسي) وهو مكتوب بالفارسية؛ ثم فرنشسكو جبرييلي في مقاله المنشور (بمجلة الدراسات الشرقية) سنة 1932 بعنوان (مؤلفات ابن المقفع) وهو أحسن بحث كتب عن ابن المقفع حتى الآن. وقد أثار بحثين آخرين كتب أولهما كارلو ألفونسو نلينو في المجلة نفسها بعنوان (تعليقات على ابن المقفع وابنه) وكتب الثاني الأستاذ بول كراوس في المجلة عينها سنة 1933 تحت عنوان (حول ابن المقفع) وقد ترجمنا هذه البحوث الثلاثة وربما أتيحت لنا فرصة قريبة لنشرها أو للتحدث عنها. وبعد أن كتب جبرييلي مقاله ظهر بحث عن ابن المقفع كتبه رشتر وكانت أفكاره فيه أجرأ وأصرح من أفكار جبرييلي في مقاله

ونحن قد أشرنا من قبل إلى المقال الذي كتبه الأستاذ كراوس عن ابن الراوندي بمناسبة الفقرات التي عثر عليها في (المجالس المؤيدية) مأخوذة من كتاب (الزمرذ) لابن الراوندي. وهو مقال طويل (في ثمانين صفحة) مملوء بالمعلومات؛ وهو حتى الآن أحسن بحث كتب عن ابن الراوندي، وقد ترجمناه أيضاً وأخيراً كتب الأستاذ فرنشسكو جبرييلي: (تعليقات على بشار بن برد) ظهرت في مضبطة مدرسة الدراسات الشرقية سنة 1937.

وكل هؤلاء الباحثين لم يحاول واحد منهم حتى الآن أن يكتب عن حركة الزندقة كلها كما ظهرت في الإسلام. ولكن بين يدي الآن فصل ممتع كتبه الأستاذ جورج فيدا سنة 1935 ولم ينشر إلا في سنة 1937 في (مجلة الدراسات الشرقية) أراد فيه أن يدرس تاريخ الزندقة الظاهري - إن صح هذا التعبير - دون التعرض للمناظرات التي قامت ضد الثنوية والمانوية ولما عسى أن يكون هناك من أثر للمانوية في الحياة الفكرية في ذلك العصر (أوائل العصر العباسي)، معتمداً في ذلك على المصادر التاريخية الخاصة باضطهاد الزنادقة، وبأشهر الزنادقة في خلافة العباسيين الأول. وأول هذه المصادر وأهمها كتاب (الفهرست) ويليه كتاب (الأغاني). ثم كتب التاريخ الكبرى مثل: (تاريخ الطبري) و (مروج الذهب).

بدأ الأستاذ فيدا بحثه بأن أورد في القسم الأول منه الفقرات الموجودة في كتاب (الفهرست) لابن النديم، وبعضها خاص بتاريخ المانوية في بلاد الإسلام واختلافهم حول الإمام بعد ماني، واضطهاد كسرى لهم وتشتتهم في البلاد وأسماء رؤسائهم. والبعض الآخر من هذه الفقرات يتعلق بالمتكلمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، وبأسماء الرؤساء والأمراء الذين اتهموا بالزندقة في أيام العباسيين.

وفي القسم الثاني تحدث صاحب المقال عن اضطهاد الزنادقة اضطهاداً رسمياً في أيام الخلفاء العباسيين الأول. فقال: إن المصادر لا تسمح لنا بتتبع هذا الاضطهاد إلا في الفترة القليلة التي مضت بين سنة 163هـ إلى سنة 170 هـ أي في السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وإبان خلافة الهادي القصيرة الأجل.

ففي سنة 163 بدأت حملة المهدي العنيفة على الزنادقة بأن أمر عبد الجبار المحتسب، والذي يلقبه صاحب الأغاني بلقب (صاحب الزنادقة) بالقبض على كل الزنادقة الموجودين في داخل البلاد. فقبض على من استطاعوا القبض عليه، وأتوا به إلى الخليفة الذي كان حينئذ في دابق؛ فأمر بقتل بعضهم، وتمزيق كتبهم. واستمر الحليفة في هذا الاضطهاد في السنوات التالية، حتى بلغ الاضطهاد غايته في الفترة ما بين سنة 166 هـ وسنة 170 هـ. وكان يقوم على أمر هذا الاضطهاد قضاة مخصوصون، أشهرهم: عبد الجبار الذي ذكرناه آنفاً، وعمر الكلوزي الذي عين في سنة 167، ثم محمد بن عيسى حمدويه الذي خلف عمر.

وكان الزنادقة يقبض عليهم لأقل شبهة ويأتون أمام القاضي فيطلب إليهم أن يرجعوا عن الزندقة إن اعترفوا بها ويطلق سراحهم إن رجعوا عنها ويقتلون إذا استمروا عليها ورفضوا الخروج عنها.

ولكي يتأكدوا من أنهم رجعوا عن الزندقة حقاً كان الخلفاء يستخدمون وسائل شتى أشهرها تلك التي يروون عن القضاة في عصر المأمون أنهم كانوا يستخدمونها، فهم يذكرون عنهم أنهم كانوا يطلبون إلى الزنديق أن يبصق على صورة ماني، وأن يذبح طائراً بحرياً اسمه التزرج. أما البصق على صورة ماني فالمقصود به تحقير صاحب مذهب المانوية وهو ماني، وهذا دليل على أن الزنديق قد رجع عن هذا المذهب؛ أما الحكمة في ذبح هذا الطائر فلا تكشف عنها المصادر التي بأيدينا. ولكن مؤلف المقال الذي نحن بصدده يقول بأن المقصود بذلك هو أن يفرض على الزنديق أن يذبح كائناً حياً، وذبح الحيوانات تحرمه المانوية. ولا بد لنا من قبول هذا التفسير لأن كل المصادر التي تحدثنا عن المانوية لا تذكر مطلقاً أن المانوية كانوا يقدسون طائراً بعينه، سواء أكان هذا الطائر التزرج أو كان غيره. وقد حدث مثل هذا في أيام محاكم التفتيش سنة 1239 مع طائفة الكاتار التوسكانيين فقد طلب إليهم بحضور البابا جورج الرابع أن يبرهنوا على إخلاصهم في الارتداد بأن يأكلوا اللحم أمام جمع من الأساقفة

ولم يكن كل هؤلاء الذين يتهمون بالزندقة زنادقة حقاً؛ وإنما كان منهم من يتهم بالزندقة لأسباب سياسية. فقد اتخذ الخلفاء من هذا الاتهام وسيلة للقضاء على خصومهم من الهاشميين. وعلى هذا النحو اتهم ابن من ابناء داود بن علي ثم يعقوب بن الفضل وأتى بهما إلى الخليفة المهدي. ولما كان الخليفة المهدي قد ارتبط من قبل بعهد ألا يقتلهما، فانه لم يستطع أن يأمر هو بقتلهما، وإنما حبسهما وأشار إلى ابنه الهادي أن يقتلهما حينما يتولى الخلافة، ولكن الهادي لم يستطع أن يقتل غير يعقوب، لأن ابن داود بن علي مات في سجنه قبل أن يشغل الهادي مركز الخلافة.

ولسنا نعرف على وجه التحقيق ماذا كان يوجه إلى الهاشميين من تهم. وكل ما ترويه لنا المصادر هو ما يرويه لنا الطبري (أخبار سنة 169 جـ 3 ص 549) وما لخصه عنه ابن العبري في كتابه (تاريخ مختصر الدول) (ص 221) من أن ابنة يعقوب بن الفضل قد اعترف أثناء محاكمتها بأنها حبلى من أبيها! والمانوية تحلل زواج الآباء بالبنات في الروايات الإسلامية.

ولم يقتصر الأمر على الخلفاء في اتهامهم الخصوم بالزندقة لأغراض سياسية، بل كان هناك من الوزراء من يتخذون الاتهام - الباطل غالباً - بالزندقة سبيلاً للكيد والوقيعة بنظرائهم أو خصومهم الذين يحقدون عليهم. ومن هنا نستطيع أن نفهم تلك الرواية التي ذكرها الطبري (ج 3 ص 490) ثم الجهشياري في (كتاب الوزراء والكتاب) (ص 89 - ص90)، ثم صاحب الأغاني وغيرهم، عن اتهام أبناء أبي عبيد الله الوزير بالزندقة. فقد اتهم الربيع صاحب الخليفة المهدي ومنافس أبي عبيد الله الوزير أبناء هذا الأخير، أو واحداً من أبنائه - كما في بعض الروايات - بأنهم زنادقة. وقد أفلح الربيع في هذا الدس عند الخليفة الذي أمر بأن يقتل عبد الله بن أبي عبيد الله الوزير. وكان ذلك سبباً في توتر العلاقات بين المهدي وبين أبي عبيد الله، حتى أن الخليفة عزله من منصب الوزارة، ولى يعقوب بن داود بدلاً منه

والطبري يذكر صراحة أن اتهام ابن أبي عبيد الله بالزندقة كان يقصد به زعزعة مركز أبيه عند الخليفة المهدي. وقد كان أبو عبيد الله موضوعاً لدسائس موالي المهدي. ويذهب صاحب الأغاني إلى أبعد من هذا فيقول إن المهدي أدرك من بعد السبب الذي من أجله أبلغه الربيع أخباراً عن زندقة ابن الوزير (الأغاني 21 ص 122)

والآن، وبعد هذا العرض الموجز للاضطهادات التي عاناها الزنادقة، أو من اتهموا بالزندقة، في الفترة ما بين سنة 163 وسنة 170، نسائل أنفسنا: ما هي هذه الزندقة التي اتهم بها هؤلاء، وبأي معنى يجب أن تفهم؟

يرى صاحب المقال أن الزندقة التي حاربها المهدي والهادي في شخص هؤلاء الزنادقة هي المانوية، أولاً وبالذات. ودليله على ذلك ما ذكرناه من قبل من الوسائل التي كان يمتحن بها القضاء قيمة رجوع الزنادقة عن الزندقة، وإنكارهم لها، حينما يقدمون إليهم. ويؤيد هذا الرأي أيضاً تلك الرواية التي ذكرها الطبري والتي يمكن اعتبارها صادقة وهي التي تقول بأن أحد الزنادقة قدم إلى الخليفة المهدي فطلب إليه الخليفة أن يتبرأ من الزندقة ولكنه رفض فأمر بقتله، والتفت من بعد إلى ابنه موسى، وقال له كلاماً يحثه فيه على محاربة هذه العصبة من الزنادقة. ووصف له مبادئ هذه العصبة وصفاً يكاد ينطبق كله على مذهب المانوية؛ مما يدل على أن المقصود بالزندقة كان حينئذ مذهب المانوية

ومع هذا كله فإن هذا اللفظ قد اتسع معناه في هذه الفترة ذاتها اتساعاً كبيراً كما سنرى في مقالنا التالي عن أشهر الزنادقة في أيام الخلفاء العباسيين الأول.

عبد الرحمن بدوي