مجلة الرسالة/العدد 312/موت كريزيس

مجلة الرسالة/العدد 312/موت كريزيس

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 06 - 1939



للأستاذ زكي المحاسني

(ضعني على قلبك كالميسمِ ... فالحب مثل الموت للمغرمِ)

صغت هذا البيت من قول (مارلين ديتريش) ليلة رأيتها في الصور المتحركة وقد باتت عند عمتها؛ فلما تهيأت للنوم أخذت بكلتا يديها كتاب العهد القديم ثم وضعته على صدرها وفتحته ثم تلت نشيد الأناشيد بصوت ملائكي خافت قالت في آخره: (ضعني كالخاتم الواسم على قلبك فالحب كالموت)

صار بها هذا النشيد إلى الموت فماتت في روايتها حرقاً ولقيت جزاء قلبها. تفننت في كلام الحب وفنيت في صباباته حتى هشمت بمطرقة كبيرة تمثالها الذي صنعه عاشقها النحات، لتدخل في أغوار العدم

هكذا فكرت في غادة نشيد الأناشيد حين مرت في خاطري (كريزيس) في الإسكندرية القديمة وقد اغتسلت ذات مساء بالعطور ونادت جاريتها الهندية (دجالان) فقالت لها: نشفيني وألبسيني وزينيني ثم ضمخميني بالطيوب

خرجت كريزيس تشق رواق المساء بنور وجهها الساطع وتخطر في مشيتها حتى بلغت شاطئ البحر. وكان هناك على متكأ الشاطئ النحات (ديمتريوس) الذي صنع تمثال (آفروديت) ملكة الإسكندرية. وقف على الشاطئ وفي سمعه أنغام الزامرتين وقد ابتعدتا عنه وغابتا في تضاعيف الظلام. وقف ينظر إلى البحر فيرى نفسه في موجه الصاخب ويحسن تلك الثورات الخفية التي يثور فيها روحه ثم يصطدم في حدود جسمه فيعود مستكيناً حبيساً

فكر في الملكة التي تعشقه وفكر في آلاف الرعابيب اللواتي ارتمين على قدميه وما حظين منهما بالتقبيل. وإنه لكذلك سادر في تأمله إذ مرت به كريزيس فتيمته حبا. فلحقها فعزت عليه وتجنت. ثم اشترطت الهوادة غوالي الشروط وأشدها هولاً. فسرق من أجلها وهو الشريف. وقتل من أجلها وهو البريء. وهزئ بالآلهة جرّاها وهو الحكيم الرزين. ثم أنقذ نفسه فجأة من مهاوي العدم وبؤرة العار؛ فصدف عنها واجتواها، وكان كرهه لها حبا، واجتواؤه إياها هياماً. ولما صارت إلى السجن قدم إليها السجان كأس الشوكران وقال اشربي

مدت يدها وأخذت الكأس فرفعتها إلى فمها وشربت نصفها، ومدتها بالنصف الباقي إلى ديمتريوس، وقد جاء ليشهد مصرعها، فنحى عنه كأسها. فاستردتها إلى فمها وشربت السم حتى الثمالة. . .

سألت كريزيس السجان: ماذا أفعل؟ فقال لها سيري جيئة وذهاباً. ففعلت حتى عمل فيها السم، وارتمت كما يرتمي غزال قد صيد. . . وماتت

عاد إليها ديمتريوس وهي في لفائف الموت قد سُجيت على سرير. فجلس حيالها يناجيها بصمته، ويستودعها بروحه. وبدت له على سرير الموت أروع جمالاً وأشع نوراً مما كانت في الحياة

جلب معه عجين التراب الذي يصنعه للتماثيل، وأقبل على السرير فنضا الثياب عن الضحية، ثم أقعدها في وضعٍ فنيٍ رائع ثم أخذ منقاشه وظل من الصباح حتى سد عليه المساء نافذة السجن، فانتهى من صنع تمثال (كريزيس الخالدة) حين دفنتها صديقتاها (روديس وميرتو) قطعتا من شعريهما خصلة دفنتاها معها ثم بكتا على قبرها أحر البكاء. . .

فكرت في نهاية (كريزيس) التي قص قصتها العبقري بيير لوئيس، فاستطعت بسبب فاجعتها أن أفهم نشيد الأناشيد في كتاب العهد القديم.

زكي المحاسني