مجلة الرسالة/العدد 313/التجني على أحمد أمين

مجلة الرسالة/العدد 313/التجني على أحمد أمين

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



للأستاذ نديم الجسر

لقد استوقفت نظري في العدد 311 من الرسالة الغراء عنوان الكلمة التي كتبها الأستاذ العلامة الدكتور زكي مبارك عن الأستاذ العلامة أحمد أمين، فحسبت أن قول الدكتور في العنوان (جناية أحمد أمين على الأدب العربي) يطوي وراءه معنى غير المعنى الصريح؛ لأن الأستاذ أحمد أمين، إن لم يستأهل أن يسمى أديباً بكل ما في الكلمة من معان، فهو، بلا ريب، من أعاظم العلماء الذين خدموا العلم والفلسفة والأدب العربي بدراسات لا مثيل لها في لغة العرب؛ فأسدى بذلك إلى كل أديب ومتأدب عربي لا يحسن الاستقاء من معين الفرنجة خدمة لم يسبقه إليها سابق بمثل الطريقة التي سلكها. فكيف يكون من هذا شأنه في خدمة العلم والفلسفة والأدب جانياً على الأدب جناية يستحق عليها التشهير بين الناس؟

لو قرأت هذا العنوان في جريدة سياسية أو كانت الكلمة لغير الدكتور زكي مبارك ما حملت نفسي عناء مطالعتها، لأني كنت أذهب إلى أنها كلمة عدو أو حسود أو جاهل؛ ولكن المجلة مجلة (الرسالة) وما أدراك ما الرسالة، والكاتب هو الدكتور زكي مبارك فماذا أقول؟

إن الدكتور زكي مبارك هو أحق الناس بعرفان فضل أحمد أمين، وإن الدكتور زكي مبارك لأولى الناس بالدفاع عن أحمد أمين لو حاول هدمه شخص آخر. هكذا رأيناه قد فعل عندما غضب لكرامة الأدباء في مصر يوم حاول النيل منهم ناشئة الأدب في لبنان.

قد لا تكون كلمة الدكتور في حقيقة أمرها تطوي الشيء الكثير من الظلم لأحمد أمين، ولكن الظلم والقسوة يبدوان في العنوان؛ وطالما كانت ضخامة العناوين أشد أثراً في تحويل أفكار المتأدبين الناشئين وتضليلها مما وراء العناوين. فهل يرضي الدكتور مبارك أن يستقر في أذهان هؤلاء أن أحمد أمين من الجناة على الأدب العربي؟

لا ريب في أن الأستاذ أحمد أمين لم يكن موفقاً في المقالات التي كتبها في (الثقافة) مؤخراً: لا أقول هذا مجاراة للدكتور مبارك بل هو شيء لاحظته منذ شهرين، وقلته لبعض عشاق أحمد أمين، وأنا منهم. فكل من قرأ مقالاته التي كتبها بعنوان (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) أدرك أن العلامة الكبير لم يأت بشيء في هذا المضمار: لأن التأثر بالأدب القديم ليس مما يستطيع الأديب التفلت منه كما يتفلت من اللفظة الوحشية عند صوغ الكلام؛ بل هذا التأثر نتيجة لازمة للعناصر التي تتكون منها نفسية الأديب بحكم الوراثة والتقاليد والذوق والثقافة. وظهور القليل منه في أدب اليوم برهان على أننا نجاري طبيعة التطور بالتدريج.

ونظن أن أستاذنا الكبير أحمد أمين الذي يحدثنا في (ضحى الإسلام) بحديث دونه السحر عن تطور العقلية العربية في مضمار العلم والأدب، لا ينكر أن أثر الأدب الجاهلي قد ضعف في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية، وكاد يتلاشى في شعر شوقي وحافظ. وهكذا سوف يسير الأسلوب الأدبي مع الزمن ويستقي من تطوراته عناصر جديدة تحل محل القديمة حتى لا يبقى من القديمة إلا ما يتخذ أمثلة لدراسة تاريخ الأدب.

وبعد فأي بأس في بقاء ذلك الأثر الضعيف من الأدب الجاهلي؟ ألسنا نجد لذة وطرباً ونشوة في هذه الصلة الحلوة بين القديم والحديث؟

ثم أليس من جملة أعمال الأدب أن يحفظ شخصية الأمة بربط حاضرها بماضيها، وتوجيه عواطفها نحو قبلة واحدة تجتمع عندها أحزان تلك الأمة وأفراحها ومفاخرها وتقاليدها وأساطيرها؟

وهل يجوز لنا أن نترك كل ذلك الماضي ونتجرد منه كما نتجرد من الثوب الخلق لنكّون لأنفسنا أدباً جديداً تزعق فيه السيارة بدلاً من حداء الحادي، وتهب فيه نسمات الخرطوم أو مالطة بدلاً من صبا نجد؟

إن هذا سوف يكون مع الزمن كما حصل حتى اليوم؛ وأما التخلي دفعة واحدة عن أذواق وعواطف داخلية كونتها الأجيال فينا فهو عمل يتم بقوة الجيش إذا شاءت الحكومة، ولكنه عندئذ لا يسمى أدباً تخاطب به الأرواح، بل يسمى (أوامر عسكرية) تنفذ بقوة السلاح. . .

وبعد فإنك إذا أردت أن تجد في كلمة الدكتور زكي مبارك شيئاً من الإنصاف فاطلبه في قوله في صدر مقاله الأول:

(إن الأستاذ أحمد أمين من كبار الباحثين في العصر الحديث ولكنه على أدبه وفضله لا يجيد إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف في الموضوع وذلك سر تفوقه) فهذه كلمة الحق وأما ما تلاها من لواذع فهو ظلم

ونريد أن نرجح أن المقالات التي كتبها الأستاذ أحمد أمين في الثقافة بعنوان (جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي) هي التي حملت الدكتور مبارك على أن يسمي قلة توفيق الأستاذ أحمد أمين في مباحثه هذه (جناية على الأدب العربي). ونحن لا نقول عن هذه التسمية إنها (جناية) على أحمد أمين بل نسميها (تجنياً على أحمد أمين). ولعل الدكتور يبدل عنوان هذه السلسلة بعنوان آخر يستحسنه، فإنه إن لم يفعل ذلك من باب الإنصاف والرقة في النقد فليفعله من باب الكياسة، كيلا يمنح أحمد أمين، من حيث لا يشاء، زعامة قوية في الأدب العربي، فأن من يستطيع بمقال أو بمقالين أن يجني على الأدب العربي لا بد أن يكون زعيماً من زعماءه إن لم يكن كبير زعمائه.

(طرابلس الشام)

نديم الجسر