مجلة الرسالة/العدد 313/دراسات إسلامية

مجلة الرسالة/العدد 313/دراسات إسلامية

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



كبار الزنادقة في الإسلام

للأستاذ عبد الرحمن بدوي

رجحنا في العدد الماضي من الرسالة أن تكون الزندقة التي عناها المهدي والهادي في هذه الاضطهادات العنيفة التي قاما بها بين سنة 163 وسنة 170 هي المانوية، وأن يكون هؤلاء الذين اتهموا بالزندقة ممن كانوا يقولون بأن للعالم أصلين قديمين هما النور والظلمة ويحرمون ذبح الحيوان واللحم إلى آخر هذه المبادئ التي أعلنها ماني مؤسس مذهب المانوية.

ولكن هذا لم يمنعنا أن نقول كذلك أن معنى الزندقة قد اتسع وامتد حتى أصبح يشمل أشياء أخرى لم يكن للمانوية بها صلة ولا سبب. ولم يكن هذا الاتساع وليد السنوات التالية والقرنين الثالث والرابع فحسب، بل بدأ من قبل، في هذه الفترة عينها التي مضت فيها السنوات الأخيرة من خلافة المهدي وسنوات خلافة الهادي كلها.

ولا سبيل لمعرفة نواحي هذا الاتساع، وكيف تشعب وتنوع، فكانت فيه فروق ودقائق، إلا بدراسة كبار الزنادقة والتحدث عنهم.

والزنادقة طوائف وأنواع، والدوافع التي حدت بهم إلى الزندقة كثيرة متعددة. أما طوائفهم فنستطيع أن نحصرها في ثلاث: الأولى طائفة هؤلاء الذين يسميهم صاحب (الفهرست) رؤساء المنانية في الإسلام؛ والثانية طائفة المتكلمين؛ والثالثة طائفة الأدباء من كتاب وشعراء. والدوافع تكاد ترجع كلها إلى ثلاثة أيضاً: فمن هؤلاء الزنادقة من كانوا يؤمنون بالزندقة (ونقصد بها هنا المانوية) إيماناً صحيحاً صادراً عن رغبة دينية صادقة، فكانوا مخلصين في اتخاذها مذهباً، حريصين عليها كأشد ما يكون الحرص

ومنهم من وجد في الزندقة (بمعنى المانوية أيضاً) تراثاً قومياً خلفه الآباء فيجب الحرص عليه وتعهده؛ لا لصلاحيته في ذاته، ولا لأنه يستحق الإيمان به كما هو، وإنما لأن في هذا الحرص وذلك التعهد نوعاً من الإرضاء للنعرة القومية، والإشباع للنزعة الشعوبية. وفيها أيضاً موضع للمفاخرة ومجال لكي يقارنوا به تراث العرب ودين العرب بما خلفه لهم الآباء من تراث ودين.

ومن أجل هذا كان جميع هؤلاء من الموالي الفرس. وبين هؤلاء وهؤلاء وجدت طائفة من الزنادقة كانت تتخذ من الزندقة وسيلة من وسائل العبث الفكري التي يلجأ إليها الشكاك دائماً، يرومون من ورائها أن يعبثوا بعقائد الناس، بأن يعقدوا حلبات النضال بينها، ويساعدوا الضعيف منها على القوي السائد، ويظهروا ميلهم إلى الأول؛ وكل هذا لا شيء إلا ليجدوا السلوى حيث لا سلوى، ويعثروا على العزاء وليس ثم عزاء. فهي حالة نفسية عنيفة تتملكهم فتدفعهم إلى ما هو أشبه باللهو الفكري والمجون الشكي منه إلى شيء آخر.

وتكاد الطوائف والدوافع يقابل بعضها بعضاً تمام المقابلة. فالطائفة الأولى، ونعني بها طائفة رؤساء المانوية (أو المنانية فالمعنى واحد)، يغلب على دوافع أصحابها الإيمان بها إيماناً صادقاً، وهذا هو الأليق بأن يكون عليه الرؤساء. والطائفة الثانية يغلب على أصحابها الدافع الأخير، دافع الشك الفكري والفكر المتشكك، ولا عجب فهم متكلمون أي أنهم رجال فكر وأصحاب مذاهب ومقالات يعتمدون على الأفكار والعقل، دون المصالح أو الإيمان. والطائفة الثالثة، وإن كان للدافع الثاني أثر كبير في اتخاذها الزندقة، إلا أن أعظم دافع أثر فيها كان نزعة الشعوبية. وليس هذا بغريب فالشعراء والكتاب لا يستهويهم الإيمان، ولا قبل لهم بالإمعان في الشك الفكري، وإنما تستهويهم الأحداث العنيفة التي تلهب عواطفهم وتثير ثائرة خيالهم، وليس أدعى إلى إلهاب العاطفة وإثارة الخيال من نزعة الشعوبية؛ أولاً لأنها تتصل بالسياسة وأحداثها، والنزاع القائم بين طائفة وطائفة أخرى. وثانياً لأن الشعوبية تذكرهم بمجد تالد يعتزون به، ويتغنون بعظمته. والشعراء يميلون دائماً إلى التغني بالماضي سواء بالافتخار به أو البكاء عليه، لأن الماضي زمن قد فات ولم يعد له وجود إلا في الذاكرة التي تعيه، فيستطيع الخيال أن يشكله على النحو الذي يبغيه، وأن يتصرف فيه كما أراد وحيثما شاء، وهو مطمئن آمن. بينما الحاضر يحدق في عينه فلا يستطيع أن يزور فيه أو يكذب عليه في أثناء وجوده!

والآن فلنتحدث عن أشهر رجال هذه الطوائف

أما الطائفة الأولى فأشهر رجالها أبو علي سعيد، وأبو علي رجاء، وأبو يحيى ويزدانبخت. وقد استطاع الأستاذ فيدا صاحب المقال الذي أشرنا إليه والذي نعتمد عليه كثيراً في مقالنا هذا، أن يعثر على اثنين منهم في المصادر الأخرى في يقين. ثم حاول أن يتعرف إلى آخر ثالث

فأبو علي سعيد ذكره الشهرستاني الذي يقول عنه إنه كان في أيام خلافة المعتمد وكان يكتب في سنة 271 هـ

ويزدانبخت ذكره أحمد بن يحيى المرتضى، كمؤلف لكتاب أخذ عنه المرتضى نظرية تتابع الأنبياء. ويحاول فيدا أن يجد أبا علي رجاء في شخص ذكره الجاحظ في كتاب الحيوان حينما أشار إلى أنه جرت مناظرة في حضرة المأمون بين محمد بن الجهم والعتبي والقاسم بن سيار من جهة وبين أبي علي الزنديق. فلما لم يفلح هؤلاء في مناظرة الزنديق قام المأمون نفسه بمناظرته فألقى عليه سؤالاً أفحمه ولكن الزنديق لم يرجع عن خطئه ومات على دينه. ولكي يثبت فيدا صحة هذا الافتراض، ونعني به أن أبا علي المذكور في رواية الجاحظ هو أبو علي رجاء. قال إن هذا الزنديق لا يمكن أن يكون أبا علي سعيداً، الذي ذكرناه آنفاً لأن أبا علي سعيداً كان يكتب وكان حياً في سنة 271، بينما الجاحظ الذي مات سنة 255 يتحدث عن أبي علي صاحبنا، باعتباره ميتاً. وعلى ذلك فليس هناك من مانع، اللهم إلا إذا ورد دليل مخالف، أن نفترض أن الزنديق الذي ذكره الجاحظ هو أبو علي رجاء الذي ذكره ابن النديم

أما الزنادقة من المتكلمين فأشهرهم ابن طالوت ونعمان، اللذان كانا أستاذي ابن الراوندي الزنديق المشهور، كما كان من أساتذته أيضاً أبو شاكر الذي يذكر عنه الخياط أنه كان متصلاً بهشام بن الحكم، المتكلم الشيعي المعروف. ويرى فيدا أن الرابطة بين أساتذة ابن الراوندي الثلاثة هؤلاء يظهر أنها كانت التغالي في التشيع. وهذا كان كافياً لكي توضع أسماؤهم بين أسماء الزنادقة. ويضاف إلى هؤلاء جميعاً صالح بن عبد القدوس. وقد أشرنا من قبل إلى البحث الذي كتبه جولد تسيهر وعسى أن تتاح لنا فرصة قريبة للتحدث عن هذا البحث

وهم جميعاً إما بعيدون عن المانوية أو أن معلوماتنا عن مبادئهم الدينية ضئيلة جداً. ولكن هناك شخصية أخرى بين الزنادقة من المتكلمين نعرف عنها بعض الأشياء ونعني بها شخصية عبد الكريم بن أبي العوجاء. ولا نتعرض هنا للكلام عنه كمحدث أسرف في اختراع الأحاديث ووضع المكذوب منها، ولا عن صلته بحسن البصري وجعفر الصادق، وإنما يعنينا هنا أن نقول عنه شيئاً يتصل بزندقته فنقول إنه كان كما يقول البغدادي مانوياً يؤمن بالتناسخ ويميل إلى مذهب الرافضة ويقول بالقدر. ويتخذ من شرح سيرة ماني وسيلة للدعوة وتشكيك الناس في عقائدهم ويتحدث في التعديل والتحوير، كما ذكر البيروني في كتاب (الهند)

ولكن أظهر شخصية في هؤلاء المتكلمين الزنادقة بعد شخصية ابن الراوندي (الذي نؤجل الحديث عنه إلى أن نفرد له فصلاً خاصاً إن كان هناك ثم مجال)، هي شخصية أبي عيسى الوراق وقد كان هو أيضاً أستاذاً لابن الراوندي

كان أبو عيسى الوراق معتزلياً في البدء ولكن المعتزلة طردته لآراء له ذكرها خصومه ولسنا نعرف مبلغ صحتها على وجه التحقيق فيذكرون عنه أنه كان شيعياً رافضياً، ويقول عنه الخياط إنه كان مانوياً يقول بأزلية المبدأين (النور والظلمة) ويعتقد في خلود الأجسام؛ والخياط معتزلي فهو خصم لأبي عيسى. ومن هنا لا نستطيع أن نؤكد تماماً أنه كان مانوياً. ولذلك فإن الأستاذ ماسينيون يميل إلى وصفه بالناقد المستقل الفكر)

وهنا ننتهي من الكلام عن الطائفة الثانية وننتقل إلى الطائفة الثالثة ونعني بها طائفة الأدباء والشعراء

وأول هؤلاء وأشهرهم من غير شك بشار بن برد، ولكنا لا نستطيع هنا أن نفصل القول في زندقة بشار، ويكفينا الآن أن نقول إن نزعة الشعوبية عند بشار كانت أكبر دافع له على الزندقة كما كان للعبث والمجون الذي طبع عليه بشار، وروح التشاؤم والسخرية من الناس أثر في هذه الزندقة غير منكور.

وهنا نلاحظ بإزاء بشار ما لاحظناه من قبل عند الكلام عن ابن أبي العوجاء وأبي عيسى الوراق من أن الاتهام بالزندقة كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة كما لاحظ الأستاذ فيدا بحق، ومن هنا كان الشك في معنى هذه الزندقة التي تنسب إلى بشار؛ ولذلك يميل الأستاذ فيدا إلى أن يرى في بشار شاكاً من الشكاك فحسب

ولكن زندقة خصم بشار، ونعني به حماد عجرد، أظهر بكثير من زندقة بشار. وعلى الرغم من أنه لا يمكن القطع بشيء فيما يتصل بعلاقته بالمانوية إلا أنه يمكن اعتباره ممن كانت لهم نزعة مانوية واضحة، خصوصاً إذا لاحظنا أن شعره وقصائده كان يتغنى بها في دوائر أتباع ماني وتستعمل في الصلوات

أما حظ النزعة الشعوبية في تكوين الزندقة فلم يكن كبيراً في شاعر من الشعراء أو كاتب من الكتاب بقدر ما كان عند إبان بن عبد الحميد اللاحقي. فقد كان يعرف الفارسية ويترجم عنها؛ وكان على اطلاع وسعة علم بأدب الفرس القديم، فكان ذلك داعياً له إلى التعلق بتراث الفرس والتغني به في جميع مظاهره. ولكن هذا ليس دليلاً قاطعاً على أنه كان مانويا حقاً، أو أنه أعتنق المانوية كدين أخلص (؟) على الرغم مما ذكره أبو نواس عنه في إحدى القصائد التي هجاه بها فاتهمه بأنه كان حسياً لا يؤمن إلا بما يراه فلا يعتقد إذن بالجن ولا بالملائكة. وهذه التهمة عينها قد وجهت إلى بشار من قبل. واتهمه أيضاً بأنه أشاد بماني وسخر من المسيح وموسى. وهنا يبدو الخلط والاضطراب في كلام أبي نواس لأنه إذا كان مانوياً فلن يسخر من المسيح. والصلة بين المانوية والمسيحية كبيرة واضحة لا تسمح بهذه السخرية. ونرجح نحن أن السبب الأكبر في اتهام إبان بالزندقة كان نزعته الشعوبية الواضحة فاتخذ أنصار العربية من اتهامه بالزندقة سلاحاً يستعملونه ضده في الخصومة الحضارية بين الشعوبية والعربية

وهؤلاء الشعراء الثلاثة قد اتفقوا جميعاً في غلبة روح الاستخفاف والعبث فيهم. ولذلك فإن أبا نواس كان صادقاً حقاً في تسميتهم (بعصابة المجّان) ولو أنه كان فرداً من أفراد هذه العصابة! فهم أقرب إلى الشك والمجون إذن من الإيمان والجد وهم أولى باسم الشكاك العابثين من اسم الزنادقة المخلصين

وأكثر من هؤلاء جداً وأبعدهم عن العبث والمجون أبو العتاهية. وقد لخص الأستاذ فيدا آراء أبي العتاهية أحسن التلخيص فقال: إن أول ما نلاحظه في معتقدات أبي العتاهية أنه كان يؤمن بالأثينية بكل صراحة. فالعالم الظاهر مكون من جوهرين متعارضين، والوجود تنازعه طبقتان إحداهما خيّرة والأخرى شريرة. وهو يرجع الوجود كله في النهاية إلى الجوهرين المتعارضين اللذين نشأ عنهما العالم وتكوّن. غير أن أبا العتاهية صاغ نظرياته الأثينية في صيغة واحدية، إذ جعل الله الواحد عند بدء الأشياء وقال: إنه خالق الجوهرين وأن العالم ما كان له أن يوجد بدون الله وحده. طارحاً بذلك أسطورة الخليط الأزلي بين الجوهرين أو المبدأين ونعني بهما النور والظلمة وهنا نقف قليلاً بعد أن استعرضنا كبار الزنادقة وشرحنا كيف كانوا موضعاً للاضطهاد في أيام الخلفاء العباسيين الأول لكي نتبين ما وصلنا إليه من نتائج

فنلاحظ أولاً أن الزنادقة الذين وجه إليهم الخلفاء ما وجهوه من اضطهاد كانوا مانوية إما بتحولهم عن الإسلام أو منذ ولادتهم في الفترة ما بين سنة 163 و170. أما بعد ذلك فإنا لم نستطيع أن نثبت المانوية لواحد ممن اتهموا بالزندقة، اللهم إلا لعبد الكريم ابن أبي العوجاء. أما الآخرون فلم نستطع أن نفصل في أمرهم فصلاً أخيراً

ثم نلاحظ كذلك أن الزنادقة كانوا في أماكن عديدة فكانوا في بغداد وفي حلب وفي مكة، ثم في البصرة والكوفة على وجه الخصوص.

وإن أشهر ما كان يوجه إليهم من تهم هو ترك الفرائض (كالصوم والصلاة والحج)، ثم ادعاء الشعراء منهم والكتاب أنهم يستطيعون أن يكتبوا خيراً من القرآن؛ وأخيراً موقفهم بإزاء وحدانية الله

وأنه كانت هناك رابطة بين الزندقة والشيعة، قد رأينا كيف كان الانتساب إلى الشيعة الرافضة دليلاً على الزندقة وداعياً إلى الاتهام بها

ونلاحظ أخيراً أن الكثير من كبار الزنادقة قد قضوا شبابهم وأوائل حياتهم في أواخر أيام الدولة الأموية. فيجب أن نستنتج كما يقول الأستاذ فيدا: (أنه للكشف عن أصل التأثيرات الإيرانية التي لعبت دوراً خطيراً منذ ظهور الدولة الجديدة (أي الدولة العباسية) فلا بد من البحث في الأوساط العلمية العقلية في داخل خراسان وبين أعوان أبي مسلم الخراساني السريين كما نبحث عنه في البصرة والكوفة) ففي منطقة خراسان التقت جملة حضارات مختلفة في طابعها. فكان فيها في أواخر الدولة الأموية حركة صراع فكري بين عدة حضارات. وكان لهذا الصراع الفكري أكبر الأثر في تكوين العقلية الجديدة التي سادت العصر العباسي أو الجزء الأول منه على أقل تقدير. ولن نستطيع أن نفهم هذه العقلية الجديدة وتطورها طوال ذلك العصر إلا إذا درسنا هذا الوسط الذي اصطدمت فيه العقليات المختلفة واختمرت فيه بذور الحياة العقلية التي جعلت من العصر العباسي الأول عصراً من أخصب العصور الفكرية في تاريخ العالم كله.

عبد الرحمن بدوي