مجلة الرسالة/العدد 313/على منهج الأغاني

مجلة الرسالة/العدد 313/على منهج الأغاني

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



بقلم أبي الفرج الإسكندراني

صوت

بأبي من حرَّم النوم على عيني وناما

بأبي من أضرم القلب اشتياقاً وهياما

فقضى الله علينا فنزحنا وأقاما

أذكري من ليس ينساك وإن لاقى الحماما

إن من نام لعمري يحسب الناس نياما

حدثنا الأستاذ أحمد رامي قال: إن هذا الشعر للدكتور ناجي، وفيه لحن للأستاذ محمد عبد الوهاب يضرب بكل أصابع اليدين على البيان. .

وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال: إن الشعر ليس للدكتور ناجي، وإن للأستاذ رامي عذره الجلي في نسبته إليه؛ فالنفس الشعري متقارب بينه وبين العباس بن الأحنف. فكلا الشاعرين من شعراء اللهفات، تحس في أبياته حرارة أنفاسه، ورقة عواطفه. ولو أني كنت قد وضعت كتاباً عن شعراء القرن الثاني، لكان ذلك أجدى على القراء وأليق بي من كتاب (النثر الفني) في القرن الرابع، ولكن الفرصة لم تفت على كل حال. وإنّ من بدأ حياته الأدبية بالكتابة عن عمر بن أبي ربيعة، لجدير بأن يجعل للعباس بن الأحنف موضعاً في حياته الطويلة المباركة، إن شاء الله.

قال أبو الفرج: وهذا وعد ننتظر من الدكتور زكي مبارك وفاءه. ولقد عجبنا من إيثاره (الشريف الرضي) على العباس بتصنيفه كتاباً عنه أثناء إقامته في بغداد! فالشريف وإن جلّ قدره شاعراً , وسمت مكانته رجلاً، فإن العباس أشبه بأن يكتب عنه الدكتور زكي مبارك طبيب (ليلى المريضة في العراق). أو لعل اسمها ليلى العريقة في المراض، كما يزعم بعض الناس.

الدكتور إبراهيم ناجي وأخباره:

حدثنا الأستاذ صالح جودت قال: إن الدكتور ناجي غضب من نسبة رامي إليه هذه الأبيات وقال: إن فيها تحريفاً، فصحة البيت الثاني:

بأبي من أضرم القلب اشتياقاً واهتياما

وصحة البيت الثالث:

فقضى الله علينا ... فشحطنا وأقاما

قال الدكتور ناجي: ولست أنا بالذي يقول: (اهتيام) و (شحط)؛ ولا بالذي يبدأ البيت بقول (بأبي) فهذه لغة أستسيغها منسوبة إلى أبناء عصرها، ولكني لا أقبلها من أبناء عصري. ولقد كان العباس رقيقاً دمثاً لما قال شحط، ولم يقل افرنقع؛ وقد كانت الكلمة الثانية تقال في عصره، فعمد إلى أرق الكلمتين. ولكن عصرنا فيه ما هو أرق وأعذب وأصدق في التعبير عن خوالجنا المهذبة؛ ولكن رامي (عفا الله عنه) ينسب لي من شعر القدماء ليرميني بالعدول عن مذاهب المجددين، وسأحاربه هو وأمثاله بمثل هذا السلاح حتى يستقيموا. ثم أنشد:

لأروين لهم من غير قولهم ... حتى أجدد فيهم عهد حماد

قال أبو الفرج الأسكندراني: والغريب أن الدكتور ناجي يذكر أحد الحمادين، ويتهدد بأن يسلك مسالكهم، ولا يرى أنه بذلك قد (شحط) عن التجديد. وقد همّ أبو الفرج بأن يبدي هذه الملاحظة، ولكنه خشي أن يؤخذ بها لو أذاعها. فإنه هو أيضاً يعارض كتاب الأغاني وينتحل لنفسه لقب: (أبي الفرج)

قال الدكتور زكي مبارك، وقد أدرك لفطنته ما جال بخلد الأسكندراني وإن لم يقله: لا عليك من ذلك، فالتجديد لا يكون إلا من الراسخين في العلم بالقديم. وهذا مارتن لوثر ما استطاع إنشاء المذهب البروتستانتي إلا لأنه كان قسيساً كاثوليكياً، وإنني ما أنشأت مذهب البروتستانتية في الأدب العربي إلا لأني أزهري

حدثنا الدكتور زكي أبو شادي. . . بل لم يحدثنا بشيء لأنه صاحب مجلة تتعرض للناس بالسوء.

وحدثنا صالح جودت قال: إن حماداً الذي يذكره الدكتور إبراهيم ناجي في قوله.

لأروين لهم من غير قولهمو ... حتى أجدد فيهم عهد حماد

ليس أحد الحمادين الذين يشير إليهم الدكتور زكي مبارك، ولكنه الأستاذ محمد علي حماد محرر مجلة (الشعلة) فهو أقرب إلى خيال ناجي من هؤلاء الذين علت ذكرياتهم طبقات من غبار القرون. وما كان لناجي ولا لأحد منا نحن المجددين أن يلتفت هذا الالتفات، فنحن إنما نستمد الوحي الشعري من الحياة لا من الكتابة عن الحياة، ولا من الكتابة عن الكتابة عن الحياة. نحن نذكر حماد الشعلة لأننا نراه ونتصل به عن طريق الحواس، وهي صلة الفنان بالحياة؛ ولكننا لا نكتب عن العباسين لأننا لا نتصل بهم إلا عن طريق الكتب. . . والكتب نؤلفها نحن ويقرؤها غيرنا. . . إلا أن تكون بالطبع كتباً أجنبية، فدراسة ناجي لشكسبير أمر معقول، وليس كذلك ما كان قد يفعله لو لم يكن مجدداً فيدرس من يقولون إنهم أشباهه كابن الدمينة والعباس بن الأحنف.

قال الدكتور زكي مبارك: هذا بعض الفوارق بيني وبين ناجي ومدرسته الحديثة. فأنا منطيق ولا أرى كلام صالح يتمشى مع المنطق. أنا أدرس الحياة في حاضرها عن طريق الحس، وأدرس ماضيها عن طريق الدرس والخيال، وأدرس مستقبلها عن طريق التنويم المغناطيسي. ولقد أفدت من التنويم وما يتصل به من الدراسات أن صار في وسعي تعرف ما يجول بنفس محدثي من الأفكار والخواطر. وليس ذلك مجرد ذكاء، وإن كنت ذكياً وزكياً بالذال والزاي، ولكن عن طريق العلم والدرس. ولن تمر غير أشهر قلائل، فأجوز امتحان الدكتوراه للمرة الرابعة ولكنها ستكون في هذه المرة في (المازمارتيرم) وسيكون في استطاعتي أن أتعرف ما في الكتب دون أن أقرأها. فأكتب عن الشافعي مرة أخرى دون أن أعيد قراءة كتاب الأم، وأنقد شعر السيد الحميري، وإن كان شعره قد ضاع.

عود إلى حياة الدكتور ناجي

هو زعيم المدرسة الحديثة؛ ولهذه المدرسة طلبة وفيها مدرسون ولكن ليس لها دراسة ولا موضوع قابل للدرس. ولكن في التعليقات الشفوية المتفرقة على قصائد الشعراء المعاصرين مادة لو جمعت لكانت موضوعاً طريفاً لها. وهذا بعض ما سنتناوله في هذا الكتاب

وسنتبع طريقة أبي الفرج الأصفهاني في تحقيق الرواية والإسناد. ولن نخترع ولن نلفق إلا أن يكون ذلك من مستلزمات الكتابة. وكذلك كان يفعل الأصفهاني

ولقد ننسب إلى شاعر من غير شعره لأنه كان الواجب أن يقول هذا، فإن حاد عن هذا الواجب فالذنب ذنبه هو ولا علينا أن نؤكد صدق الرواية. وسنضرب المثل المقنع بأن لنا الحق كله في ذلك

تتلخص الفكرة العامة لآراء المدرسة الحديثة في هذه النظرية: ما دمنا مجددين في اللغة العربية فالاقتباس عن الغرب تجديد لأنه في لغتنا سيكون جديداً. ولكن محاكاة العرب محرمة لأنها تكرار لما في هذه اللغة

إنهم لا يقولون ذلك ولكن أحسب هذا هو الذي يجب أن يقولوه. أما وقد قالوا غيره فالذب عليهم، وما دمت أدون آراءهم فهذه هي آراؤهم. أما الذي يقولونه فهو أنهم إنما يرون الجديد جديداً بصدوره عن انفعال نفسي جديد، وهم لذلك يزعمون أنهم ينكرون الاقتباس من الأدب الغربي كما ينكرون محاكاة العرب الأقدمين

ولكن الأمر لا يقف عند هذا بل حياة هذا الجيل مقتبسة من الحياة الغربية إلى حد كبير؛ فالاقتباس عن الغرب في الحياة ينشئ في الأدب اقتباساً أصيلاً لا يتنافى مع التجديد. وبذلك لا يختلف ما قلته عنهم في حقيقته مع ما يقولون، ولكن الذي ينكرونه من الإعراب عن الرأي الذي يدينون به يبيح محاكاة العرب والاقتباس من الغرب وعليهم القول وعليّ التوضيح

استطراد في الغرض من هذا الكتاب

وقبل أن نستأنف التحدث عن حياة الدكتور ناجي وشعره نقول إن أبا الفرج الأصفهاني كان يذكر شاعراً والموسيقار الذي لحن له. هذا في بعض العصور، وفي عصر آخر يذكر شاعراً ومن وقف الشاعر نفسه على مدحه أو هجوه، وفي عصر ثالث يذكر شاعراً وراويته، وفي عصر رابع يذكر شاعراً والأمير الذي يتولى رعايته أو يتولى خصومته

هذا بأن الشاعر في بعض هذه العصور كان يخشى على شعره من النسيان فيتخذ راوية. وفي عصر آخر كان لا يستطيع الحياة إلا في كنف أمير، وفي عصر ثالث لا يستطيع الحياة إلا مناوئاً مشاغباً، وهو في كل العصور على السواء محتاج إلى من يضع له ألحاناً لشعره، لأن الشعر غناء قبل كل شيء.

من أجل ذلك رأيت أن الشعراء المعاصرين ليسوا في حاجة إلى راوية فحسبهم من الرواية المطابع، وليسوا في حاجة إلى من يحميهم فللشعوب الآن ما كان للأمراء في سالف الزمان، ولكن الذي يحتاج إليه الشاعر المعاصر هو الناقد النزيه.

ولقد وجدت بحمد الله هذا الناقد فسأذكر تاريخ شعرائنا وشعراء الأقطار العربية مشفوعاً بتاريخ ناقده وبنقده إياه. ومشفوعاً كذلك بتاريخ الموسيقار الذي لحن له.

عود إلى حياة الدكتور ناجي

هو طبيب متأثر بالثقافتين الإنكليزية والفرنسية عصبي المزاج ثائر الأعصاب مرهف الحس يكلمك فيهتز جسمه كله حماسة وشدة اقتناع

قضت حرفته بأن يكافح الموت في كل مريض وهو واسع الرجاء واسع الأمل. فرسالته في الأدب لا يمكن أن تكون كرسالة أدباء الهند في العصر الحاضر رسالة إذعان وتسليم. وعلى رغم الأمل والرجاء المستفادين من حرفة الطب فلا يستطيع أن يخلص من أثر المشاهدة للمريض والمكافحة للمرض. وإذا كان السيد يحاكي المسود كما يقول الاجتماعيون فشعر الدكتور ناجي في ساعة إخلاده إلى نفسه واستجماعه ألوان تأثره - شعره هذا يحاكي أنين مرضاه وتوجعهم

نوع الشعور الذي يبشر به هذا الطبيب الشاعر هو التفريج عن الهم بالتعبير عنه

لذلك يعنيه صدق التعبير وهو من أدق الشعراء المعاصرين إبرازاً للفكرة محدودة بحدودها في تصوره، فليس في شرح شعره مجال للتأويل وليس فيه شيء من الغموض. ولكن مجال الحياة التي ينظر إليها وينقدها مجال شديد الضيق؛ وفي نفس ناجي ثورة مكبوتة منشؤها أنه لم يقل كل ما يريد أن يقول. فهو مع أمانته في الإفضاء عما شعر به فيما قال لا يزال يختزن الكثير من التجاريب والمشاعر وبمنعه حرصه على صدق الأداء أن يقول اللفظ حائماً حول معناه أو قريباً منه أو شبيهاً به فيفرج عن نفسه بوسيلة ما بالتعبير عنها. وسيظل هذا الكبت ما دام محترفاً الطب التي تشغل الوقت كله والفكر كله، ولكنها لا تشغل كل المشاعر

هذا ما يقوله ناقده عنه وناقده هو الدكتور زكي مبارك فإن لم يكنه فقد كان الواجب أن يكونه

أما ملحنه فهو الشاعر الموسيقار صالح جودت

صوت ليلى العريقة في المراض ... بيضاء شاحبة البياض

مصفرة العينين تت ... قل بالدلال وبالتغاضي

مكنونة ليست تعد ... من الطوال ولا العراض

فإذا رأيت ذبولها ... أبصرت نرجسة الرياض

وإذا سمعت أنينها ... شاقتك ضفدعة الحياض

أصغى فيبعث صوتها ... كل انشراحي وانقباضي

الشعر للدكتور ناجي وفيه لحنان أحدهما لم يسمع قط، والآخر لم يصنع بعد: وكلاهما من صنعة الأستاذ صالح جودت.

(يتبع)

عبد اللطيف النشار