مجلة الرسالة/العدد 314/مدينة قونية

مجلة الرسالة/العدد 314/مدينة قونية

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939



(يا حاضرة مولانا)

للدكتور عبد الوهاب عزام

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

من عجائب الآثار وبدائع الصنعة مدرسة إينجه منارة (مدرسة المنارة اللطيفة) وأنا أعفي القارئ من وصفها وأكتفي بما تنطق به الصورتان المثبتتان هنا

ولا يسعنا أن نغفل جامع صاحب عطا (صاحب آتا) بناه أحد وزراء السلاجقة الكبار فخر الدين علي بن الحسين بن أبي بكر المتوفى سنة 684، وقبره في إيوان داخل المسجد ومعه خمسة قبور. وتدل الكتابة على مدخل الإيوان أنه بني في مفتتح المحرم سنة 682

وفي أطراف المدينة على مقربة من المزارع جامع صغر فيه قبر العالم الكبير صدر الدين القونوي المتوفى سنة 671؛ وكان من الأساتيذ في علوم الدين والتصوف. وكان واسطة بين الشيخ الأكبر محي الدين ومولانا جلال الدين. تزوج محي الدين أمه ورباه وعنه أخذ جلال الدين فيما يقال. وله مؤلفات في التفسير والحديث والتصوف

ذهبت إليه وحيداً قبيل الغروب فما زلت أسأل حتى اهتديت إليه فألفيته مقفلاً فسرت قليلاً وعدت فإذا رجلان جالسان بجانب الباب أحدهما ضرير: فلما اقترب المغرب قلت: ألا يفتح المسجد؟ ففتحا الباب فدخلنا إلى مسجد صغير عطل من جمال الصنعة والزينة فتقدم أحد الرجلين فألقى قبعته ووضع العمامة فعرفت أنه الإمام، وتقد الآخر وعلى رأسه (كاسكت) فأداره وأقام الصلاة فصلينا المغرب وحدنا. وسألت عن ضريح صدر الدين فأشير إلى نافذة تطل إلى الحديقة صغيرة فنظرت فإذا قبر بجانب النافذة فوقه عريش من الكرم وبجانبه أشجار

ولم تقر نفسي دون أن أرى مثوى الصوفي العجيب الغريب الذي اتصل بجلال الدين فحوله من الدرس إلى الخلوة، ومن أستاذ درس إلى مريد طريقة، الرجل الذي أثار حوله الظنون والأيدي حتى قتل في إحدى الثورات عليه، فما زال جلال الدين يشيد بذكره ويهيج به في شعره حتى سمى ديوانه الكبير باسمه. ذلكم شمس تبريزي (شمس الدين محمد ب على التبريزي) الذي يقول فيه جلال وما أكثر ما قال فيه:

نه من تنها سرايم شمس دين وشمس دين ... مي سرايد عندليب أزباغ وكبك أزكو هسار

باسمه الوُرْق والعنادل تشدو ... لست وحدي أنوح: (شمس الدين)

عزمت على زيارته فقيل إن المزار مغلق لا يفتح لأحد. فاكتفيت بمشاهدة البناء على بعد. ثم لجّ بي التطلع فسرت إليه ليلاً فجارت بي طرق متعرجة ضيقة فرجعت آسفاً وأعجلنى السفر المبكر عن المسير صبحاً، وإن قدر لي الرجوع إلى قونية كانت زيارة شمس الدين أول ما أفعل

- 4 -

وقونية مدينة كبيرة في ولاية واسعة تسمى باسمها، وهي على حافة صحراء كبيرة يمر بها نهر صغير ينتهي إلى بحيرة غربيها. وهي على 450 كيلاً من استنبول إلى الجنوب الشرقي منها ويتصل بها سهل خصب جداً تكثر خيراته إذا أصابه مطر جود، لأن نهرها وينابيعها لا تفي بإروائها. وصناعة النسيج بها رائجة

وهي كثيرة المساجد بها زهاء 150 مسجداً و50 جامعاً. وأهلها معروفون بالدين والتقوى

وبها كثير من آثار السلجوقيين إذ كانت حاضرة دولتهم في آسيا الصغرى

وهي مدينة قديمة عرفت أيام اليونان والرومان. ومن الأساطير التي تروي أن تنّيناً سلط عليها فكان يبلع النساء والصبايا حتى قتله برسبوس بن جوبيتر (المشتري) فوضع أهلها على أحد أبوابها تمثالاً لهذا البطل الذي نجاهم من التنين فسميت المدينة ايكونيوم أخذاً من كلمة ايقون أي الصنم أو التمثال

إذا وقف الإنسان على ربوة علاء الدين رأى أمامه ميداناً كبيراً فيه أنصاب حديثة للجمهورية التركية، وأبنية ومساجد، وينتهي النظر إلى قبة مولانا جلال الدين تبدو من وراء الأبنية وبها شوارع مديدة واسعة. منها الجادة التي تمتد من الربوة إلى المحطة وفيها تمثال عظيم للغازي ويرجى لها مستقبل عظيم. ولا ريب أنها كانت أيام السلاجقة أعظم عمراناً وأكثر سكاناً

وقد زارها ابن بطوطة بعد زوال دولة السلاجقة واستيلاء أمراء بني قرمان عليها فقال:

(مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه وبها المشمش المسمى بقمر الدين - وقد تقدم ذكره - ويحمل منها أيضاً إلى ديار مصر والشام. وشوارعها متسعة جداً وأسواقها بديعة الترتيب. وأهل كل صناعة على حدة. ويقال إن هذه المدينة من بناء الاسكندر، وهي من بلاد السلطان بدر الدين بن قرمان وقد تغلب عليها صاحب العراق في بعض الأوقات لقربها من بلاده التي بهذا الإقليم

نزلنا منها بزاوية قاضيها ويعرف بابن قلم شاه، وهو من الفتيان وزاويته من أعظم الزوايا. وله طائفة كبيرة من التلاميذ ولهم في الفتوّة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس

الصوفية الخرفة وكان صنيع هذا القاضي في إكرامنا وضيافتنا أعظم من صنيع من قبله وأجمل، وبعث ولده عوضاً عنه لدخول الحمّام معنا

وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون إليه ويعرفون باسمه فيقال لهم الجلالية كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان. وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد والصادر)

ولا أنس مسيري في قونية ليلة الوداع وانتحائي منتدى قرب المحطة وجلوسي تحت أشجار هناك إلى نافورة كأن وسوستها في صمت المكان مناجاة أو حديث النفس

وبيننا يجول الفكر في مشاهد قونية وتاريخها، ويطير بيني وبين الوطن والأهل في لمحات، انبعث المذياع مبلغاً رسالة مصر كأنها جواب النجوى. ولست أدري أعرف صاحب المنتدى أني مصري فآنسني، أو كان اتفاقاً أجاب حديث الضمير. وكثيراً ما سمعت في استنبول وقونية صوت مصر، لا سيما حين تلاوة القرآن

عبد الوهاب عزام