مجلة الرسالة/العدد 315/التاريخ في سبر أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 315/التاريخ في سبر أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 315
التاريخ في سبر أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1939



أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانة بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

ولنعد إلى حديث بلنت مع عرابي، ولما كان هذا الحديث يكشف لنا عن نواح كثيرة من تلك الشخصية التي نعنى بدراستها نرى الخير في أن نورده على تمامه كما جاء في مذكرات مستر بلنت قال: (وقد نفذ كثير من تلك الإصلاحات بعد أن عزى للموظفين البريطانيين في عهد الاحتلال، وادعى لورد كرومر أنه مبتكر كثيراً منها. فمن ذلك إلغاء السخرة التي كان يضربها الباشوات الترك على الفلاحين، واحتكار بيع الماء في مدة الفيضان، وحماية الفلاحين من المرابين اليونانيين الذين انشبوا فيهم الأظفار بسبب فقدان العدل في المحاكم المختلطة. ومن هذه الإصلاحات أيضاً إنشاء بنك زراعي تشرف عليه الحكومة، وهذا هو البنك الذي باهى به كثيراً المرحوم اللورد كرومر. . .

كذلك تناقشنا في الإصلاحات القضائية، وكانت دوائر القضاء يعمها الفساد؛ وكذلك تكلمنا في نظم تربية الذكور والإناث، وفي طريقة الانتخاب للبرلمان الجديد ومسألة الرقيق، وقد أطال عرابي الكلام في هذه المسألة الأخيرة، وكان الموظفون الأجانب في مصلحة الرقيق قد خشوا أن يتناول الاقتصاد في المرتبات مراكزهم، ومن ثم كانوا يزعمون أن إحياء الإسلام معناه إحياء الاسترقاق. وقد أظهر لي عرابي ضعف هذا الزعم وما فيه من الافتراء، وبين لي أنه ليس في مصر من يود أن يكون له عبيد غير أمراء البيت الخديو والباشوات الأتراك الذين تعودوا استعباد الفلاحين، وأن الإصلاحات الجديدة سوف توطد المساواة بين الناس مهما اختلفوا في الجنس واللون والدين، وليس مع هذا الإصلاح محل للاسترقاق. أما فيما يختص بضرورة الاستعداد لحرب محتملة - ذلك الاستعداد الذي يجب أن يشغل ذهن وزير الحرب فقد تكلم عنه بصراحة وقوة فقال إن الحكومة الوطنية لا تنزع سلاحها ولا تخفضه حتى يوطد الحكم الدستوري وتعترف أوربا به. وكان يرجو ألا يتجاوز مربوط وزارة الحرب الذي اتفق عليه مع كلفن وإلا يضطر إلى زيادة عدد رجال الجيش على ثمانية عشر ألفاً. أما إذا استمر التهديد بالتدخل فلا مناص له من اتباع الطريقة البروسية أي التجنيد العام لمدة قصيرة ليتمكن من إنشاء احتياطي كبير، وقد سأل عن رأيي في احتمال وقوع الحرب فقلت له صراحة إني بما علمته من اجتهاد كلفن في إحداث التدخل وبما أراه من الهياج الذي بثه في الصحف أعتبر أن الخطر حقيقي. وإني ذاهب إلى إنجلترا لا لشيء إلا لأضع حداً لحملة الكذب التي ثارت في الصحف، وستكون مهمتي هناك نشر الدعوة للسلام وحسن النية، وفي الوقت نفسه لم أستطع أن أنصح له إلا بالثبات والحزم في موقفه وبأن أفضل وسيلة لضمان السلم إنما هي الاستعداد للدفاع. وقلت إن شر أعداء مصر ليس الحكومات الأوربية بل الماليين الأوربيين وإن هؤلاء لابد أن يفكروا طويلاً قبل أن يعرضوا مصالحهم للخطر بالحض على إثارة حرب طويلة ذات نفقات طائلة، وقل أن يسئ أحد إلى أمة مسلحة مستعدة للدفاع عن حقوقها. وأذكر أني اقتبست من شعر لورد بيرون قوله: (لا تأمن الفرنج عل الحرية) فوافق عرابي على ذلك، وكانت هذه فيما أظن آخر كلماتنا، وقد وعدته أن أعود وأنضم إلى الوطنيين إذا شاء القضاء ووقع السوء)

وهذا الكلام من جانب ذلك الفلاح الذي تمخضت عنه مصر في تلك السنين السود في غنى عن كل تعليق. وما ندري ماذا يرى فيه أولئك الذين أرادوا ألا يجعلوا لذلك الرجل مكاناً بين أبطال قومهم، بل أولئك الذين يسلكونه في المجرمين الخائنين لوطنهم فيرتكبون بذلك من ضروب الإجرام ما لن يزال عالقاً بأعناقهم حتى يروا الحق فيصدعوا به وهم راضون؟

ماذا يرى في هذا الحديث أولئك الذين تنفر أسماعهم من اسم عرابي، وأولئك الذين يضحكون من جهله ويسخرون من تطاوله؟ على أننا لا نعبأ بما يقولون وما يهزءون فإنا لنستشف من هذا الحديث وطنية رجل ونلمس فيه عزيمة رجل على خير ما تكون الوطنية وأحسن ما تكون العزيمة. ولئن كان لرجل من ذوى الجاه والثراء أن يفخر بصنيع أداه إلى بني قومه، فأجدر منه بالفخر كل الفخر رجل درج من عش الفاقة وبرز من عامة الناس ففعل ما لم يفعله غيره من أكابر الناس! وإن هذا الرجل الذي يستشرف القلم في غبطة وفخر إلى تاريخه ليقدم لنا بما فعل الدليل الناصع والبرهان القاطع على أن تربة هذا الوادي الذي أنبتت بالأمس الفراعين لا تزال تنبت أولى العزم والبأس من الرجال؛ وأن بين هؤلاء الذين يجيلون الفؤوس في غيطانها ويعملون صامتين صابرين في الهجير والزمهرير رجالاهم كالدر المخبوء لو أزيح عنه ما يطمره من تراب لتلألأ وسطع وسحر بريقه المتوهج القلوب والأبصار.

مضت الوزارة في سبيلها غير عابئة بصراخ أعدائها لا تتخاذل من دون غايتها ولا تستبعد الشقة، وذلك على الرغم من أنها كانت لا تجاوز عقبة إلا قام في سبيلها عقبات

ولقد قبع الخديو في زوايا العزلة، وجعل الغدارون الخوانون بينه وبين وزرائه حجاباً من الأباطيل التي أحكموا نسجها. والواقع أن الخديو لم يكن على شئ مما كان يجب أن يتصف به من يضطلع بأعباء الحكم في مثل هاتيك الظروف، فلقد كان مستطار القلب حائر اللب مما يجري حوله، فهو لا يسيغ الحركة الوطنية ولا يستطيع أن يصالح عليها طبعه؛ وهو مستريب في نيات الحكومة العثمانية نحوه ونحو عرشه؛ وهو فزع مما يشاع من دسائس الأمير عبد الحليم، بل ودسائس أبيه ومساعيه في مصر والآستانة على يد أعوانه؛ ثم هو فضلاً عن هذا كله قد بات تحت سيطرة الأجانب وعلى الأخص الإنجليز منهم فما يقطع أمراً حتى يوافقون عليه بل لا يخطو خطوة حتى يرى رأيهم فيها

ومن كان هذا شأنه في موقف كهذا الموقف الدقيق الذي كانت تقفه مصر من أعدائها يومئذ كان مثل الراعي أحاطت الضواري بقطيعه فما يرجو أكثر من أن ينجو هو بنفسه ولو هلك القطيع جميعاً.

وكانت الدولتان كما سلف القول تراوغ كلتاهما الأخرى، وتغافلها بغية الظفر بالفريسة وحدها؛ وهذه هي حقيقة السياسة الخارجية التي لا تفهم على وجهها الحق دون الانتباه إليها، وإن كان كرومر ينفي هذا في كتابه نفياً قاطعاً قائلاً إنه كان ذا صلة وثيقة برجال ذلك العهد جميعاً. ولو أن هذا كان موقف إنجلترا ما منعه شئ عن الاعتراف به.

ولكن نفي كرومر هذا لا يغير الحقائق. وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد ما كتبه ريناخ أحد أصدقاء غمبتا عن سياسة الدولتين قال: (إن الرأي العام في انجلترة قد وقع تحت تأثير بعض رجال حزب الشورى الذين اعتقدوا أن خير ما يعمل هو استعجال الحوادث جهد الطاقة أملاً في إيجاد فرصة لدخول وادي النيل دون فرنسا)

حسبنا تلك العبارة التي حاول كرومر أن يفندها بما ذكرنا من نفي فلم يستطيع أن يأتي بدليل أو شبه دليل على صحة رأيه فلن يكون النفي المجرد مما ينهض دليلاً يؤخذ به أمر من الأمور

وكان غمبتا من أشد أعداء مصر بل من أشد أعداء الإسلام قاطبة، وكان هذا الرجل يهودياً على صلة برجال المال من الدائنين؛ وكان يحيط به في باريس ريفرز ولسن ونوبار يوحيان إليه بما يريان؛ وكان بطبعه ممن يميلون إلى اللجوء إلى القوة في كل ما يتعلق بالشرق والشرقيين

وكان هذا الوزير يحاول أن يدفع إنجلترا لتأخذ بسياسته ولكن جرانفيل راح يراوغه مظهراً له أن خيرهما في أن يتفقا، وفي الوقت نفسه كان يحذره عاقبة التدخل المسلح في شؤون مصر سواء أكان ذلك من جانب إحدى الدولتين أم من جانبيهما معاً لأن ذلك العمل كان من شأنه أن يجر في أعقابه كثيراً من المشاكل

ولقد رأينا مبلغ تشدده في وجوب إرسال المذكرة المشتركة المشؤومة، ثم إصراره بعد ذلك على عدم تخفيف وقعها بأي وجه من الوجوه. ولقد كانت كل من الدولتين تحرص على ألا تنفرد فتنكشف، لذلك كانت تجارى إحداهما الأخرى وإنها لمستكرهة أشد الاستكراه وأقبحه. . . وكانت إنجلترا تأخذ نفسها بالصبر حتى تحين الفرصة فتقتنصها

على أن غمبتا لم يلبث في الحكم طويلاً فسقطت وزارته في أول فبراير عام 1882 أي قبل تأليف وزارة البارودي بخمسة أيام وحل محله في الوزارة دي فريسنيه. وكان هذا من أول الأمر يرى في المسألة المصرية ما لا يتفق وسياسة غمبتا

ولكن الأمور كانت قد تحرجت في مصر بما فعل غمبتا، وفقدت العناصر الوطنية في البلاد كما أشرنا كل ثقة في الدولتين جميعاً حتى أصبح من أصعب الأمور التفاهم في السياسة العامة

وكان الإنجليز في مصر يعملون جهد طاقتهم لحساب دولتهم حتى إذا حانت ساعة العمل لم يكن بينهم وبين فريستهم حائل؛ ولقد ظلوا متربصين بمصر بعد أن نجحت وزارة البارودي في حل مسألة الميزانية ينتظرون أن تواتيهم فرصة فيعملوا على تنفيذ ما بيتوا وأخيراً وقع في مصر حادث ما نظن في تاريخ الاستعمار الأوربي كله أن استغل حادث كما استغل - في قبح ما بعده قبح - ذلك الحادث على بعد ما بينه وبين السياسة العامة للبلاد، وذلك هو حادث المؤامرة الجركسية المشؤوم

نمى إلى عرابي وزملائه أن فريقا من الضباط الجاكسة في الجيش يأتمرون به وأصحابه ليقتلوهم! فكان أن ألقت الحكومة القبض عليهم كما يقضى بذلك واجبها وساقتهم إلى المحاكمة فقضت فيهم قضاءها. وليس في هذا الحادث في ذاته ما يتصل بالسياسة العامة للبلاد بسبب من الأسباب. وما كانت أية وزارة تستطيع أن تسلك فيه سبيلاً غير التي سلكته وزارة البارودي، ولكن الكائدين المفترين ما لبثوا أن ملئوا الدنيا صياحاً وتنديداً وتهديداً ووعيداً، ونسوا كل شئ إلا تحقيق أطماعهم من وراء هذا الحادث، فكان من أقوالهم وأفعالهم ما هو حقيق بأن يسم تاريخ أي شعب من الشعوب بميسم العار والخزي؛ بل ما هو خليق بأن يساق ين أقوى الأدلة وأنصعها عل صحة مبدأ القائلين بأن هذه المدنية المزعومة قد أفسدت بني الإنسان فزادتهم قرباً إلى الحيوانية بقدر ما باعدت بينهم وبين ما كان يرجى للآدمية من سمو روحي ظل أمل الفلاسفة منذ أن أخذوا يحاولون التخلص من هذا الطين وينزعون بأبصارهم وأرواحهم إلى السموات

والحق لقد دل مسلك دعاة المدنية الأوربية على مبلغ ما يمكن أن يصل إليه غدر الإنسان بأخيه الإنسان في عصرنا هذا، وما برح مثل عملهم هذا يوحي إلى ذوي الأحلام والآمال من البشر أن الإنسان لا يزال هو الإنسان، وأنه إذا كان ارتقى في شئ ففي وسائل الكيد والبطش. أما غرائزه الأولى: غرائز السيطرة والأنانية وحب التملك، لا زالت بحيث لم يطرأ عليها أي تعديل، أو سمو على الرغم مما يتبجح به المثاليون والخياليون من حماة الإنسانية. وإنا لنجد في بيان مدى ما وصل إليه هؤلاء الساسة من انحطاط خيراً من أن نعرض المسألة في وضعها الطبيعي البسيط وما كان من أمرهم إزاءها مكتفين بذلك عن كل تعليق عليها، فما كان لكلام أن يبين عما يتحرك في الذهن ويعتلج في أطواء النفس أو يشفي القلب مما يحس من ألم وضيق أمام مثل ذلك العدوان الشنيع.

(يتبع)

الخفيف