مجلة الرسالة/العدد 315/دمعة على الصديق الراحل
مجلة الرسالة/العدد 315/دمعة على الصديق الراحل
فليكس فارس
للدكتور إسماعيل أحمد أدهم
(دمعة عل جثمان الصديق الراحل فليكس فارس المسجى بين
الورود ألقيت في الحفل الكنائسي الذي أقيم للصلاة على روحه
عصر الأحد 2 يوليه 1939 ببهو الكنيسة المارونية)
هناك من الناس من تعرفهم فتشعر كأن لك بهم معرفة من قبل. ذلك لأنهم لا يعرفون عن طريق الصلات الزمنية، وإنما هم يعرفون عن طريق الجو الذي يخلقونه حولهم. وما كان الصديق الراحل فليكس فارس إلا واحداً من هؤلاء: عرفته صيف عام 1936 فسرعان ما تآلفنا وتآخينا. ولم يمض القليل من الزمن حتى أصبحنا آلفين لا ينقضي الأسبوع دون أن نتقابل فنتجاذب الحديث في شأن من شئون الحياة التي نحياها. وكثيراً ما كان يدور هذا الحديث على عوالم الفكر والشعور. وظلت صلتي بالراحل الكريم قوية حتى آخر لحظاته. فقد كنا حوله في الأيام الأخيرة وهو يجود بأنفاسه الأخيرة. لهذا كان نبأ نعيه لنا معشر أصحابه وخلانه صدمة أليمة. وكان قاسياً علينا أن نراه أمس حيّاً بيننا يملأ جونا بروحه حياة وأنساً، وإذا به اليوم قد همد فيه عنصر الحياة الذي كان يطوف على شفتيه ابتسامة وعلى شغاف قلبه حنواً وعطفاً. . .
إن هول فجيعتنا في فليكس فارس كبيرة، جعل الدموع تجمد في أعيننا فظللنا بسحابة قاتمة أرسلت سوداها على صفحات قلوبنا فغمرتنا موجة من الكآبة، فإذا لم تظهر على صفحات وجوهنا - نحن معشر خلانه - فداحة المصاب دموعاً. . . فذلك لأن مصيبتنا بموت الصديق أقوى من أن يظهرها بكاء أو دموع. . .
إيه أيها الرجل الكريم!. . . إن تلك الدموع التي جرت من عينيك وتجمعت في مآقيك ثم سالت على صفحات وجهك يوم زرتك للمرة الأخيرة؛ وإن كلماتك التي خرجت من أعماقك مختلطة بنشيجك توصيني خيراً بفلذات كبدك، كل هذه دخلت في عالم ذكرياتي ولن تذهب من نفسي، فلقد دلت كلماتك وعبراتك على أن في الحياة عنصراً أقوى من كل القيو والسدود التي يقيمها البشر أبناء الحياة الواحدة للتفرقة فيما بينهم، هذا العنصر يتجلى ساعة يأخذ الإنسان في الانحدار من عالم الحياة، وساعة يحس بانحسار عنصر الحياة عن جسده؛ في ذلك الحين يحس بشعور أقوى من كل إحساس بعوامل التفرقة بين أبناء الحياة الواحدة، أقوى من الإحساس بالدين والوطن والجنس. وهذا الشعور يدفعه إلى أن يمد نفسه على رحاب الحياة وينسحب عليها متعلقاً بمظهرها الخالد المتأجج ناراً والمتجدد في أبناء الحياة من جيل إلى جيل، فيرى في كل إنسان أباً لأولاده.
إيه يا أبا حبيب!. . إن آخر الكلمات التي تزودتها منك دارت حول الأيمان والحياة، وهي كلمات لن تذهب معانيها وصورها من رأسي لأنها تدل على إيمانك العميق بالحياة، ومن هنا كانت رحابة اعتقادك التي تجوّز أن تكون الحقيقة حتى في كلام خصمك. . . خصمك في الاعتقاد والرأي، ومن هنا أيضاً فهمت سرّ اتساع أفق اعتقادك لآرائي التي كانت تقف على نقيض آرائك.
إيه يا أبا أديب!. . . لقد فقدْتُ بارتحالك شيئاً من نفسي كُنتَ ترده عليَّ حين ألقاك. وفقد أصدقاؤك بارتحالك إنساناً ودوداً براً. . . وما أقل الأناسي في هذا الزمان!. . . أنظر أيها الراحل الكريم من وراء أكفانك تجدنا جمع أصدقائك قد بلبلت أذهاننا فداحة مصابنا فيك. ها هو ذا صديقك (خليل) وأخوه (صديق) أنظرهما يبكيان فقدك. وهاهو (أدهم) الحبيب إلى نفسك الذي كنت تداعبه باسم (الحكيم) فقد اليوم حكمته؛ فقد تبلبل منه الذهن واختلطت في صدره المشاعر. لقد صدم الكل بارتحالك فذرفوا الدموع سخينة من أجلك. . .
إيه يا أبا سلوى!. . . لقد كنت باتساع أفق شعورك ورحابة مدى نفسك تغمرنا بروحك وترتفع بنفوسنا وتضرب لنا مثل الإنسان كما يجب أن يكون في هذه الحياة. ولو لم يكن لك غير هذا الأثر في نفوسنا معشر أصحابك لكفى أثراً لا تزول ذكراه
أما عن الأثر الأدبي الذي تركته للغتك فأغنيتها بأسلوبك الحي وبيانك الرفيع فإنه باق ما بقيت العربية. وأما عن الحياة التي حييتها نموذجاً لأصحابك فإنها باقية ما بقى أصحابك. فارقد في ظلال الأبدية تحت أشجار الأرز الخالد التي كنت تتمنى أن ترقد تحتها أيها الصديق الكريم. ولتنزل على روحك السكينة فإن أصدقاءك الذين تركتهم يبكون فقدانك سوف يؤدون دينهم نحوك وسيقومون بالعمل في الميدان الذي كنت تعمل فيه لتحرير هذا الشرق النائم
إسماعيل أحمد أدهم