مجلة الرسالة/العدد 315/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 315/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1939



دراسات في الفن

هي مرة واحدة

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

لي صديق نحات انكسر له تمثال فحزن عليه، فأردت أن أواسيه فقلت له: ألا تستطيع أن تعوضه بغيره؟ فقال لي: قد أوفق إلى ما هو خير منه، ولكني يائس من التوفيق إليه هو. وحدثت بذلك صديقاً لي آخر شاعراً فقال لي: إني مثل صاحبك لو فقدت قصيدة عجزت عن إعادة إرسالها. فاستطلعت الرأي عند صاحب لنا صحافي فنصحني بالخمود عنها لأنها مسألة مغربة. فأهملتها ثم نسيتها ولم أذكرها في جد إلا حين توكلت على الله لأعد لقراء الرسالة حديث هذا الأسبوع. فقد نادتني إليها من جديد وهي تسألني: أما وجدت مخرجاً لصديقك الذي وقع من التمثال فانكسر؟ فأطرقت أبحث عن المخرج فإذا بصديقي الشاعر يتهادى أمام خيالي وعلى شفتيه الساخرتين ابتسامة أعرفها وأستطيب مراقصتها بروحي التي تستجيب إلى صفائه تراحماً وحناناً. قال لي: كنت بالأمس نشوان استخفتني وحشة ذات بهجة فانطلق لساني بشعر طربت له بالأمس كل الطرب ولكني لم أسجله، ولما أصبحت وأردت أن أستعيده لم أسترجع منه إلا أشباحاً فكيف السبيل إليه؟ أو أنت لا تزال عاجزاً مع صديقك النحات لما تجمعا حطام تمثال؟

وصديقاي الشاعر والنحات عزيزان علي معزة كل فنان فلا أقل من الترحيب أستقبل به مسألتهما هذه فهي مما يعرض للفنانين جميعاً، ولا ريب أن استعراضها وتفتيقها سيظهران لنا بعض ما نحب أن نقف عليه من أسرار الفن ومراحل تخلقه في نفوس الفنانين

ولنبدأ إذن بتجديد هذه المسألة حتى لا نتيه فيها كما نتيه أحياناً في تلافيف هذا الفن وثناياه المتكسرة أنوارها بعضها على بعض والتي قد تضل من يجوس خلالها، ولكنه على أي حال الضلال المأمون المعجب

مسألتنا هي: هل يمكن إنتاج القطعة الفنية نفسها مرتين؟

ولكي نقرب هذه المسألة من أذهان المتباعدين عنها، والذين يستغربونها نطرحها هي نفسها، ولكن من ناحية لينة لا يعسر هضمها على ذهن من الأذهان. فنقول: هل تستطيع المرأة أن تلد طفلها نفسه مرتين؟! وسيجزع المستغربون حين يروننا قد قلبنا مسألتنا هذا القلب، وسيستطيع واحد منهم إذا أعانه الله أن يطبق فمه الذي انفتح لتتفجر منه الدهشة منزاحة عن صدره، وسيفتح فمه بعد ذلك ليسيل منه سؤال من أسئلة المستغربين فيقول: وما للولادة والفن؟ وما أطيب عندنا من رد لهفته إذ نقول إن الإنتاج الفني ليس شيئاً غير النسل الروحي كما أن الولادة إنجاب حيواني. . . وكما أن الولادة لا تكون إلا باتحاد عنصري الجنس المختلفين وهما الذكر والأنثى، فإن الإنتاج الفني لا يكون إلا باتحاد عنصري الجنس الفني وهما نفس الفنان والحياة نفسها. وكما أن الولادة لا تحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين في بطن أمه، فإن الإنتاج الفني لا يحدث إلا بعد وقت يقضيه الجنين الفني في نفس الفنان، وكما أن الولادة إذا حدثت قبل أن يكتمل تخليق الجنين في بطن أمه لم تكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الوليد إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً، فإن الإنتاج الفني إذا حدث قبل أن يكتمل تخليق الجنين الفني في نفس الفنان لم يكن إلا إجهاضاً، ولم يكن الفن إلا سقطاً ناقصاً مشوهاً مضطرباً. وكما أن الطفل بعد ولادته قد يعيش وينمو برعاية أمه أولاً، وبقدرته على الحياة. ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير، فإن الفن قد يعيش وينمو برعاية صاحبه أولاً، وبقدرته على الحياة ثانياً؛ وقد يموت لضعفه بعد قليل أو كثير. وكما أن المولود إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده، فإن الفن إذا نما وترعرع أنجب هو أيضاً مواليد ومواليد، فإذا مات خلد في أبنائه وأحفاده. وكما أن هناك أمراضاً تناسلية تصيب الأجنة وتظهر في المواليد، فإن هناك أمراضاً روحية تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؛ وكما أن هناك أمهات خبيثات النظر ينسلن لأزواجهن أبناء غيرهم، فإن هناك نفوساً فنية خبيثة النظر تذل لغير الروح ودواعيها، فتنسب للفن ما ليس من الفن وما يصرخ الفن بإنكاره صراخاً له آذان خاصة تسمعه. وكما أن في الأمهات مزواجات، فللواحدة منهن ولد من كل أب، ولكل ولد من أولادها شبه، فإن من الفنانين من يتنقلون بين الأحاسيس والفكر فيتشكل إنتاجهم ويتلون. وكما أن في الأمهات ذات عصمة وقناعة بالتجربة الواحدة، فلأفراد نسلها ملامح مميزة متشابهة، فإن من الفنانين من ينحصر اتجاههم إلى ناحية واحدة يضربون فيها بجُمّاع أرواحهم، فلإنتاجهم طابع هذا الاتجاه وملامحه المميزة المتشابهة. وكما أنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن أنجبت عذراء وليداً مرتجلاً ملهماً، فكان مسيحاً ولم يمت كما يموت الناس وإنما رفع؛ فإنه لم يحدث إلا مرة واحدة أن ارتجل نبي فناملهما فكان قرآناً وخلد. وبما أن هذه الظواهر جميعاً قد تماثلت وتعادلت في الولادة وفي الإنتاج الفني، فإنها لابد أن تتشابه وتتعادل فيهما من حيث أنها لا يمكن أن تحدث في كل دفعة إلا مرة واحدة.

ونسكت نحن بعد أن نقول هذا كله، وننتظر في سكتتنا أن نرى شيئاً من علائم الفهم يتبدى على وجه صاحبنا المستغرب فإذا به مصغ إلينا في صمتنا كما كان مصغياً إلينا أثناء كلامنا فلا نستطيع أن نملل هذا إلا بأنه يفهم من الصمت ما يفهمه من الكلام. ولما كنا مؤمنين بأنه يمتنع عليه فهم الصمت امتناعاً لوجود كما يقول النحاة فهو من غير شك لم يفهم من كلامنا شيئاً. . . أمرنا إلى الله! لنستفهمه مقدار إدراكه لعله يوفر علينا الإعادة من جديد ولنسأله: ما رأيك يا مولانا فيما كنا نقول؟ ها هو ذا (يا فرحتنا) يسألنا: ماذا كنتم تقولون؟

- استعنا عليك وعلى أنفسنا بالله. . . اسمع؟ هل أنت فنان؟

- نعم.

- وما فن حضرتك؟

- الكتابة. . .

- حسن. قل لنا الآن ما الذي يحدث لك قبل أن تكتب؟ ألا تشعر بأعراض الحمل والوضع؟. .

- هه؟ ماذا جرى لعقولكم؟. أنكم مجانين

- هذا شئ لا نستطيع أن ننكره، وإن كنت لا تستطيع أن تثبته، وهو على أي حال ليس يعنينا الآن قدر ما تعنينا هذه الأعراض التي نسألك عنها والتي نريد أن نعرف إذا كنت تشعر بها قبل (إحداث) إنتاجك الفني، أو أنك تنتجه هكذا، فهو إما أن يكون وحياً، أو لا يكون فناً على الإطلاق

- أنا لا أشعر بأعراض، ولا يمكن أن تكون للكتابة أعراض إلا إذا كانت مرضاً

- كان النبي إذا تنزل عليه الوحي ارتجف وتصبب عرقه وغاب.

فكانت هذه هي أعراض الوحي: الارتجاف وتصبب العرق عارضان بدنيان، والغياب أو (الانئخاذ) عارض روحي، وقد كان في هذه الأعراض من العنف وحدة المفاجأة ما يناسب الإعجاز الذي يميز القرآن، ولكل فن بعد ذلك ما يناسب قدره من الأعراض، فكم ترتجف حضرتك قبل أن تكتب وكم تتصبب عرقاً، وكم تغيب عن هذه الدنيا؟

- إن شيئاً من هذا لا يحدث لي.

- إذن فأنت لست فناناً، فالفنانون يحدث لهم هذا. كلهم: الكاتب، والشاعر، والموسيقي، والرسام، والنحات، والممثل حين يرسم حدود دوره، ويفصل ملامحه. فالكاتب، إذا رضينا به مثلاً يعيش وهو مرهف الحس مشحوذ العقل كغيره من الفنانين فيرى في الحياة ما يؤثر فيها تأثيراً خاصاً يحدث انفعالاً نفسياً خاصاً، فإذا توالى عليه حدوث هذا الانفعال النفسي تربى عنده ما يسميه علماء النفس بالوجدان، وهم يعرفونه بأنه استجابة باللذة أو بالألم لما يحدث في النفس من الشعور، فإذا تجمعت عدة مؤثرات حول هدف نفسي واحد ولوّنها وجدان واحد بلون واحد فقد تخلقت في النفس عاطفة تحيط بهذا الهدف، ولا تلبث هذه العاطفة تنمو في النفس وتنمو حتى لا يعود حبسها ميسوراً فتتفجر إما فناً منظماً منسقاً، وإما دوياً روحياً لا نظام فيه وإن كان فيه كل ما في الفن أو ما يزيد على الفن بلاغه في التعبير. ففصول الألم والحزن التي كتبها كتاب الأرض جميعاً تخفض الرأس أمام أي دمعه صادقة خشوعاً وإجلالاً. . . فهل كتبت يوماً يا أستاذ ما كان بعض دموعك؟. . .

- وماذا يصنع الموسيقي؟

- ما يفعله الأديب، وكل ما بينه وبين الأديب من فرق أن الأديب يعبر عن نفسه بالكلام، والموسيقي يعبر عن نفسه بالنغم، ولعلك سمعت أنه كان للشاعر من شعراء الماضي راوية.

- نعم. وأحسب الشعراء كانوا يختارون رواتهم ممن قويت حافظتهم.

- كلا. وإنما كان الأمر على العكس من ذلك، فقد كان الرواة هم الذين يختارون شعرائهم، فالرواة لهم من الاستعداد الفني حظ كبير، وهم هواة حقيقيون. لعل الواحد منهم كان يعين شاعره على الحياة. ولقد كان الواحد منهم يشتري صاحبه بالدنيا وما فيها ويلزمه ويتابعه لا لشيء إلا أن ينعم منه بساعات الصفاء التي يتيحها له الزمن. وهو من شدة لهفته وحبه لصاحبه يحفظ عنه ما يقول لا يدفعه إلى ذلك إلا حرصه على هذا الكنز وخشية أن يضيع أو يندثر. وقد كان يمر الوقت الطويل أو القصير فينسى الشاعر شعره ويعجز عن إعادته. أما الراوية فذاكِرُهُ ومعيده كُلما أراد إعادته، فهو من الشاعر كالجارية، ومن الشعر كالمربية يصونه ويدلله. ولعلك سمعت أن من المغنين من كان لهم أيضاً رواة، فكان المغني يطلق ما يهتاج في نفسه من الأحاسيس غناء لا يعبأ بأنغامه، ولا يرتب ألحانه، وإنما هو ينفث الزاخر في نفسه من العواطف، وكان الراوية يلقف منه فنه هذا ويرصده في نفسه ويثبته تثبيتاً، فإذا نزع المغني بعد ذلك إلى اللحن وجده عند راويته ولم يجده عند نفسه، ذلك أن الفن أنًّةٌ لا تصدر إلا مع الموجدة، فمتى صدرت لم يكن بد لترجيعها من موجدة جديدة، وإلا كانت في حرارة الذكرى ولم تكن في استعار النازلة

- إذن فأنت تنكر على الفنانين استلهام ماضيهم

- لست أنكر هذا ولا أستقبحه، ولكني أحفظ للفن المرسل مكانه المتسامي على مكان الفن المختزن، على أني لا أستطيع أن أخفض من قدر هذا الفن المختزن فقد يكون فيه من العنف والقوة ما في غضبة الحليم من الشدة والسعة. ومهما يكن الأمر فإن هذا خارج عن بحثنا، ومن الخير لنا أن نعود إلى ما كنا فيه. فهل هناك شيء تريد أن تستوضحه؟

- إنك قلت إن الفن إذا أخرج قبل أن يكتمل في نفس الفنان تخليقه لم يكن إلا سقطاً. فماذا تقصد بهذا؟

- لا ريب أنك قرأت لكتاب محببين إليك فصولاً أنكرتها عليهم. هذه الفصول كتبوها وهم كارهون لأنهم لم يكونوا استكملوها في نفوسهم ولكنهم لأسباب يعلمونها هم أخرجوها فكان هذا منهم إجهاضاً، وكذلك الأمر مع الشعراء والموسيقيين والنحاتين والرسامين وغيرهم من أصحاب الفنون

- هذا حسن. وكيف تتوالد الفنون بعد ذلك؟

هذه الفنون مخلوقات حية لا أجسام لها، وهي تعيش فيما بين النفوس والأرواح تغازلها وتعاشقها، فإذا طاب فن لروح تزاوجا وكان من نسلهما بعد ذلك فن ونفس جديدان في كل منهما ملامح من الفن القديم وملامح من النفس الأولى. ألم تسمع بالمدارس الفنية والمذاهب الفنية يا أخي؟. . . هذه هي ولكنا نقول عنها أسر وقبائل وشعوب

- يا سلام. . . وما هي هذه الأمراض الروحية التي تنحرف بالفنون وتنفث فيها السموم؟ - للروح أمراض كثيرة كما أن للبدن أمراضاً كثيرة. وأقسى أمراض الروح وأشدها فتكاً والعياذ بالله المرض الأصفر

- وهل تصاب الأرواح بالكوليرا أيضاً كالأجسام؟

- وما من فرق غير أن كوليرا الروح معنوية لا يعرفها الأطباء!

- وكيف عرفت أنت وكيف ميزت لونها؟

- لست أدري. ولكني ساءلت نفسي يوما عن حكمة الله في الصفرة يلون بها الموت والذهب وما بينهما من الخبث والشر. ألم تر صفرة الذهب؟ أو لو تر صفرة الموت؟ أو لم تر مسكيناً خبيثاً خداعاً منافقاً يصفر وهو يغش الناس ويكذب عليهم؟ أو لم تحاول يوماً أن تلمح بين كل صفرة وصفرة من هذه. . . رابطة؟

- أوه! أنا فاهم. أنت تريد أن تقول إن بعض الفنانين تنتابهم هذه الصفرة فتنتاب فنونهم بالوراثة

- آه لو أن لي حق الإشارة بمنح النياشين!

- أشكرك واحسبني أستطيع بعد ذلك أن أجري في الموازنة بين الفن وهو المخلوق الروحي كما قلت، وبين الناس وهم المخلوقات المجسدة، على هذا القياس الذي رسمته لي

- وأحسبك بعد ذلك ستقول معي إن الفن لا يمكن إنتاجه إلا مرة واحدة

وعدت إلى صديقي النحات والشاعر وقلت لهما: يا صاحبيّ اطلبا العوض من الله فأنتما عاجزان عن استرجاع ما ضيعتما، فلا أنت معيد تمثالك ولا أنت معيد قصيدتك

عزيز أحمد فهمي