مجلة الرسالة/العدد 316/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 316/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

اختلفت الآراء في هذه المؤامرة الجركسية من حيث تدبيرها ومن هذه الآراء ما يذكره مستر بلنت في كتابه حيث يعزوها إلى الخديو إسماعيل، الذي وكل بها رجلاً عرف بعداوته القاسية للحركة الوطنية ووجوهها يدعى راتب باشا. وكان إسماعيل يطمع أن يصل بهذه المؤامرة إلى العودة إلى عرشه للقضاء على القلاقل والفتن المزعومة التي عجز توفيق عن القضاء عليها كل العجز؛ وكان يمني نفسه بأن توافق إنجلترا على ذلك فتقنع تركيا به أو تجبرها عليه

ويؤكد مستر بلنت هذا الرأي قائلاً إنه عرفه من جملة مصادر منها إبراهيم بك المويلحي سكرتير إسماعيل؛ ولقد أيد الشيخ محمد عبده هذا الرأي بما جاء في خطابه إلى بلنت عن هذه المؤامرة قال: (هذا، وبخصوص المؤامرة الجركسية لاغتيال عرابي أخبركم أنها ليست بذات خطر فإن الخديو إسماعيل قد مضت عليه مدة طويلة وهو يضع الألغام لكي يدمر حكومتنا وهو يعتقد أن هذا العمل يرجعه إلى مصر)

ولقد بدأت المؤامرة بتذمر الضباط الجراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها، ولكن لأنهم ليسوا مصريين. . .

والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جو ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون للإنجليز الذين كانوا يقيمون في مصر يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الجراكسة بهذه الآراء لكي تشيع فيهم الفتنة ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا خاصة

ومما يجعلنا نميل إلى الاعتقاد في صحة هذا الذي نقول فضلاً عما نشير إليه من سوابق السياسة الإنجليزية ما رمى به الوزارة الوطنية الإنجليز على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر من التهم وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء

والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنص على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سناً معينة على الاستيداع. ولقد دافعت الوزارة عن عملها بهذا ولكن الخراصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الكيد والانتقام. . .

وإذا نحن جارينا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تقول دفاعاً عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في خطابه السالف ذكره لأقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به، وذلك لأن الإمام رحمه الله كان رجل صدق وفطنة فلا يقول إلا ما يعتقده عن تحر وتمحيص قال: (أما عن ترقية الموظفين التي تلغط فيها الصحف الأوربية فاسمحوا لي بأن أوضح الحقائق فأقول: أولاً إن هذه الترقيات لم تعمل بناء على أمر عرابي باشا وحده، ولم تكن بمثابة الرشوة للضباط لاكتساب عطفهم نحو عرابي. كلا فالواقع أن هذه الترقيات عملت بناء على القانون الحربي الجديد الذي يأمر بإحالة الضباط الذين يبلغون سناً معينة أو يمرضون ويصابون بعاهة على المعاش؛ وقد نفذ هذا القانون في عهد شريف باشا، وأحيل على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط ثم أرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وزيلع وأماكن أخرى، بينما أخرج من الجيش نحو مائة ضابط توظفوا في الوظائف المدنية. فعدد جميع هؤلاء أربعة وخمسون وسبعمائة ضابط، فكان إذا من الطبيعي أن تحصل ترقيات لملء الوظائف الخالية. ولا يزال في الجيش خمسون وظيفة قد حفظت لخريجي المدرسة الحربية)

هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده، ومنه يتبين الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابياً قد آثر المصريين بالترقيات وتخطي بذلك الجراكسة في الجيش، فلن يكون فيما نرى حتى في هذا العمل مخطئاً، فحسب هؤلاء الجراكسة ما نالوه من حظوة طوال العهود السابقة وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه من حقد وكراهة لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من هوان ومذلة عل يد هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيداً وإماء.

وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقماً على الجراكسة في الجيش، فلم يكف عن الشغب عليهم وهو لم يزل بعد جاويشاً لا حول له ولا قوة، ولم ين عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟

أجل، ماذا كان ينتظر من ذلك الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادراً عن أنانية أو عن صغار، وإنما كان مبعثه ما يحس في أعماق نفسه من حماسة وطنية، وغيرة قومية هما في مقدمة ما يتصف به ذوو الكرامة والعزة من الرجال.

ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أي صورة له مما يقابل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المحاكمة مما يستأهل ذلك السباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار؛ وهل نسى هؤلاء أن عرابياً وصاحبيه قد ألقي عليهم القبض من قبل لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أول الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم؟ وكيف لا يستحي دعاة الاستعمار أن يلوموا ذلك الرجل بالأمس ويتهموه بالفوضى لأنه شكا أمره إلى رؤسائه حتى إذا ألقي عليه القبض عدوا ذلك من الحكومة عين الصواب ثم يعودون اليوم فينددون به ويستصرخ عليه بعضهم بعضاً لأنه يقدم إلى المحاكمة فريقاً يتآمرون على قتله؟!

عول المتذمرون من الضباط على قتل عرابي وأصحابه من كبار رجال الحركة الوطنية، وقد عمل الدساسون من عصابة راتب على دفعهم في هذا السبيل الوعرة وزينوا لهم الفعلة وهونوا شأنها في قلوبهم، ولكن ضابطاً جركسياً يدعى راشد أنور أفندي فوت على المتآمرين قصدهم إذ كان قد خالفهم لأمر ما فبادر إلى عرابي وأفضى إليه بما يعلم. . .

وفي اليوم الثاني عشر من أبريل عام 1882 قبض على تسعة عشر ضابطاً وسيقوا إلى المجلس العسكري، وبعد ذلك بعشرة أيام بلغ عدد المقبوض عليهم ثمانية وأربعين، وكان من بينهم عثمان رفقي باشا نفسه؛ وقضى المجلس بإدانة أربعين رجلاً منهم رفقي هذا فحكم بتجريدهم جميعاً من ألقابهم ونفيهم إلى أعالي النيل الأبيض في ربوع السودان

واتت الفرصة كلفن وماليت وهيهات أن تواتي الإنجليز فرصة فيضيعوها؛ لذلك ما كان أسرعهم إلى استغلال الحادث فبدءوا أولاً يذكرون التعصب الأعمى ثم انتقلوا إلى الفوضى الحكومية واعتبروا ترقية الوطنيين مظهراً من مظاهر الرشوة التي أريد بها التأثير في رجال الجيش كي يكونوا على استعداد عند أول صيحة؛ ثم رأوا في محاكمة الجراكسة مظهراً من مظاهر الظلم والاستبداد الغاشم قائلين في منطق عجيب إن المؤامرة وهمية لم توجد إلا في رأس عرابي، وإن الغرض منها لم يكن سوى التخلص من الجراكسة بأية وسيلة، وإن المحكمة العسكرية التي فصلت في الأمر كانت جلساتها سرية فكانت تعمل بما يشير عرابي، لذلك جاء حكمها في منتهى القسوة بحيث لا يقل عن الإعدام. ولم يكفهم ذلك فبلغ من جرأتهم وإيغالهم في القحة أن ادعوا أن عرابياً كان يذهب إلى السجن فيعذب هؤلاء الجراكسة أيام المحاكمة ويشفي غليل نفسه بمنظر ذلتهم وخضوعهم!

ولقد جعل المستعمرون هذه المحاكمة من أكبر سوءات ذلك العهد ومن كبائر خطيئات عرابي؛ وحذا المؤرخون من الإنجليز حذو الساسة في موقفهم من هذه المسألة، ومن هؤلاء كرومر، وهو رجل كان بحكم صلته برجال ذلك العهد جميعاً يعلم حقيقة الأمر، ومع ذلك طاوعه ضميره في أن يقول في كتابه: (لم يظهر دليل جدير بالتصديق ولا ظل دليل على أن تهمة المؤامرة كانت تهمة حقيقية؛ وكان حكم المحكمة العسكرية وثيقة وحشية تحمل طابع المظاهر السياسية أكثر مما تحمل طابع الحكم القضائي؛ وكان عرابي كثير الظن شأنه في ذلك شأن كل جاهل من الرجال، ولم تعش المؤامرة على قتله إلا في خياله هو فحسب).

وأخذ فريق من المصريين هذا الكلام كما أرسل على عواهنه وشايعوا الإنجليز وا أسفاه في رأيهم هذا في عرابي كما شايعوهم في غير هذا من الآراء، الأمر الذي يؤلمنا أشد الألم! فليس يعنينا ما يقول وخصوم الوطن وخصوم عرابي، ولكننا نضيق كل الضيق أن تجوز الأباطيل على المصريين في رجل منهم جدير بأن يفتخروا كل الفخر أن كان ينتمي إليهم، ومن هنا ضاع تاريخ عرابي وأنكره بنو قومه، فأضافوا إلى عيب خضوعهم للدخيل فضيحة مشايعته فيما يسبهم به من شخص رجل من رجالاتهم.

ويجدر بنا أن نضع تحت عيني القارئ ما كتبه الشيخ محمد عبده تعليقاً على المؤامرة ليقارن بين كلامه وكلام كرومر. قال في كتابه إلى بلنت: (وكانت الوزارة تعرف منذ زمن شيئاً عن هذه الحركات. فمنذ مجيء راتب باشا إلى مصر كان محمود سامي رئيس الوزراء الآن - وزيراً للحربية - فطلب من شريف باشا أن ينفيه إلى خارج القطر. ولكن شريف على الرغم من تحذير محمود سامي رفض أن يأمر بنفيه، وسبب ذلك أن راتباً تزوج ابنة شريف باشا، والبعض يظن أن الاثنين متواطئان على رجوع إسماعيل). ثم قال: (وقد أحدثت هذه الحادثة قليلاً من التهيج بين العامة. والجميع يعرفون أن حياة عرابي مثل حياة أي إنسان آخر، وليس بين الناس مهما كان عظيماً يستطيع أن يجذب إليه قلوب الجميع دون أن يكون بينهم من يريده بسوء، ولكننا جميعاً نضحك إذا قيل لنا إن إنجلترا على وشك الفوضى لأن أحد المجانين قد حاول قتل الملكة). . .

وليت هؤلاء الكاذبين المغرضين قد اقتصر أمرهم على الكذب والاتهام ولم يخطوا بعد ذلك تلك الخطوة النكراء التي أكدت القطيعة بين الخديو والوزراء وعجلت الكارثة للبلاد! وما كانت ادعاءاتهم إلا مقدمة بدءوا بها ما كانوا ينتوونه من المكر السيئ. يقول في ذلك مستر بلنت: (وفي أثناء ذلك دخلت المسألة المصرية في طور خطير وذلك بسبب المؤامرة الجركسية التي وصلت أخبارها إلى لندن في الأسبوع الثالث من شهر أبريل، ولم أعن العناية الكبيرة بهذه المسألة عند أول ظهور أخبارها معتقداً بأنها إحدى المفتريات التي تنشر عن مصر، ولكن الأحوال أثبتت أنها خطيرة تستدعي الالتفات، ولم تكن خطورتها متوقفة على حدوثها من حيث هي بل من حيث إنها كانت فرصة لحكومتنا تترقبها لكي توقع الخلاف بين الخديو ووزرائه، وكان ماليت قد خضع تمام الخضوع لكلفن في هذا الوقت وصار ينتصح بنصحه ويسير على هواه)

عرض قرار المحكمة العسكرية على الخديو فأسقط في يده أيوافق على هذا الحكم فيظهر أمام الإنجليز أنه يظاهر وزراءه فيخسر الذين يظاهرونه هو، أم يرفض التصديق عليه فيرضى الإنجليز ويقضى على كل أمل في إرضاء عواطف الوطنيين؟

وكان ماليت قد أشار عليه برفض هذا الحكم الذي ينطوي على القسوة والظلم؛ وللقارئ أن يقدر مبلغ ما في هذا التدخل من تطفل وقحة! ما شأن الإنجليز وحكماً كهذا مهما كان ظالماً كما يزعمون؟ وإنهم ليعلمون أن جلسات المحاكم العسكرية كانت سرية حتى في عهد المراقبة، وأن الخديو لا يملك رفض أحكامها، وكل ما له في هذا الصدد هو تخفيف تلك الأحكام بعض الشيء بعد التصديق عليها.

حار توفيق واشتدت حيرته ورأى الأمر جد خطير؛ وأي شيء أخطر من أن يتحدى وزراءه في غير حق وفي موقف كهذا تحيط فيه بهم الدسائس من كل جانب وتعترض طريقهم الصعاب التي يتطلب تذليلها جهوداً متواصلة. لذلك وقف الخديو أول الأمر موقفاً مبهماً، وسرعان ما شاعت الشائعات عنه من جهة وعن الوزارة من الجهة الأخرى، وكلما مر يوم ازدادت ريبة الوطنيين وتعاظم غيظهم وغضبهم، ووجدت الدسائس الجو الصالح لنجاحها فنشطت نشاطاً كبيراً، ولازم ماليت الخديو يوحي إليه ويوسوس له

(يتبع)

الخفيف