مجلة الرسالة/العدد 316/حول كتاب:

مجلة الرسالة/العدد 316/حول كتاب:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



مستقبل الثقافة في مصر

نظرة انتقادية عامة

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

(مستقبل الثقافة في مصر)

هذا العنوان الذي عنون به الأستاذ الدكتور طه حسين الكتاب الذي نشره قبل بضعة أشهر في مجلدين. . . ذكّرني بعنوان (المطارحات) التي نشرها (المعهد الأممي للتعاون الفكري) التابع لعصبة الأمم بعد الاجتماع الذي عقده في مدريد سنة 1933: مستقبل الثقافة.

وعندما أسجل هذه المشابهة في مستهل مقالي هذا، أرى من الواجب عليّ أن أصرح - في الوقت نفسه - بأن المشابهة بين الكتابين لا تتعدى حدود العنوان. فإذا كان من البديهي أن المؤلف الفاضل اقتبس عنوان كتابه من المطارحات المذكورة، فمن الواضح أيضاً أنه لم يستلهم شيئاً من موضوعاتها أو من مناحي التفكير المنجلية فيها. . .

وأما كيفية تأليف الكتاب، فالمؤلف يشرحها لنا بكل وضوح، في المقدمة القصيرة التي صدّره بها:

إن (فوز مصر بجزء عظيم من أملها في تحقيق استقلالها الخارجي وسيادتها الداخلية) حمل (المفكرين المصريين) على أن يشعروا بأن (مصر تبدأ عهداً جديداً من حياتها). . . (إن كسبت فيه بعض الحقوق، فإن عليها أن تنهض فيه بواجبات خطيرة وتبعات ثقال). إن هذا الشعور شمل الشباب، ودفع فريقاً منهم إلى (أن يسألوا المفكرين وقادة الرأي عما يرون في واجب مصر بعد إمضاء المعاهدة مع الإنجليز. . .) وهذا قد جعل كل واحد من المفكرين المسؤولين (يتحدث إليهم في ذلك حديثاً سريعاً مرتجلاً، بقدر ما كان يسمح له وقته وعمله وتفكيره السريع في حياة سريعة) تمر بهم أو يمرون بها (مرَّ البرق). . . فقد تحدث الدكتور طه حسين نفسه إلى هؤلاء الشبان فيمن تحدث؛ غير أنه لم يقتنع بكفاية ما تحدث إليهم به، ولم ير أنه (قد دلهم على ما كان يجب أن يدلهم عليه، وهداهم إلى ما كان يجب أن يهديهم إليه). واستقر في نفسه أن واجب المصريين (في ذات الثقافة والتعليم بعد الاستقلال أعظم خطراً وأشد تعقيداً) مما تحدث به إليهم (في ساعة من ليل أو في ساعة من نهار، أو في قاعة من قاعات الجامعة الأمريكية. . . وأنه يحتاج إلى جهد أشق وتفكير أعمق وبحث أكثر تفصيلاً) ووعد نفسه بأن يبذل هذا الجهد، وأن يفرغ لهذا البحث، وأن ينهض بهذا العبء. . . ولكنه لم ينبئ هؤلاء الشباب بشيء مما قرره، لأنه أشفق أن تحول ظروف الحياة بينه وبين إنجاز هذا الوعد. وليس أشق عليه من وعد يبذله للشباب ثم لا يستطيع له إنجازاً. . .)

إن كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) كتب (لإنجاز ذلك الوعد الذي قدمه الأستاذ إلى الشباب الجامعيين ولم يظهرهم عليه. . .)

إن هذه المقدمة تدل دلالة واضحة على أن الدكتور طه حسين قد شعر بخطورة هذه المباحث حق الشعور، وقدّر عواقب التسرع والارتجال فيها حق التقدير. . . كما تعلن إعلاناً صريحاً أنه لم يكتب الكتاب إلا بعد أن بذل (الجهد الأشق) الذي قال بضرورته، وقام (بالتفكير الأعمق) الذي نوه به، و (فرغ للبحث لينهض بالعبء) الذي أشار إليه. . .

غير أن من ينعم النظر في الكتاب - بعد مطالعة هذه المقدمة - يشعر بشيء كثير من خيبة الأمل؛ لأنه لا يجد فيه من الآراء والملاحظات ما يتناسب مع وعود العنوان وتصريحات المقدمة. فالكتاب يتألف في حقيقة الأمر من مجموعة أحاديث ومقالات قليلة التناسق كثيرة التداخل، يبدو على جميع أقسامها آثار الارتجال والاستعجال، ويتخلل معظم أقسامها أنواع شتى من الاستطرادات والاستدراكات. . .

فكثيراً ما يقع النظر في صفحات الكتاب على فكرة صائبة - معروضة بأسلوب جذاب - غير أنه يلاحظ في الوقت نفسه كثيراً من المآخذ في المقدمات التي سبقت تلك الفكرة والملاحظات التي تلتها فيبقى حائراً متردداً بين مواقف الاستساغة والاستنكار.

إن نظرة إجمالية إلى أولى المسائل المشروحة في الكتاب تكفي للبرهنة على كل ذلك في وضوح وجلاء.

- 1 -

إن المسألة التي يفتتح بها الدكتور طه حسين أبحاث كتابه تتلخص في السؤال التالي:

هل يوجد فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي؟ والمؤلف يناقش هذه المسألة في أكثر من ثلاثين صفحة من الكتاب مناقشة مباشرة ثم يعود إليها عدة مرات - بوسائل شتى - في نحو ثلاثين صفحة أخرى. . وأما الحكم الذي يصل إليه من أبحاثه ومناقشاته هذه فيتلخص في العبارات التالية:

(فكل شيء يدل على أنه ليس هناك عقل أوربي يمتاز من هذا العقل الشرقي الذي يعيش في مصر وما جاورها من بلاد الشرق القريب) (الصفحة: 28)

فمهما نبحث ومهما نستقص فلن نجد ما يحملنا على أن نقبل أن بين العقل المصري والعقل الأوربي فرقاً جوهرياً) (الصفحة: 29)

إنني أشارك الدكتور طه حسين في هذا الحكم الصريح مشاركة تامة. . . فلقد درست وناقشت هذه المسألة فيما مضى مراراً بوسائل مختلفة؛ وانتهيت في جميع تلك الدراسات والمناقشات إلى نتيجة مماثلة لهذه النتيجة، لا بالنسبة إلى المصريين فحسب، بل بالنسبة إلى أمم الشرق الأدنى بوجه عام، والأمة العربية بوجه خاص. . .

ولهذا السبب، يسرني كل السرور أن أتفق مع المؤلف في هذا الحكم اتفاقاً تاماً (ومع هذا يؤلمني جداً) ألا أستطيع موافقة على سلسلة الآراء والأحكام التي سردها حول هذه المسألة وأن أراني مضطراً إلى مخالفته في معظم المقدمات التي بنى عليها حكمه هذا، وفي بعض النتائج التي استخرجها منه. . .

أولاً، يكرر الدكتور طه حسين الحكم الذي ذكرناه آنفاً عدة مرات - جرياً على عادته العامة - ويعبر عنه في كل مرة بشكل جديد، وكلمات جديدة - حسب أسلوبه الخاص -؛ غير أنه لا يتقيد - خلال هذا النكران - بمعاني الكلمات، وحدودها (التقيد العملي) الذي يتطلبه مثل هذه الأبحاث. . . فينزلق إلى مهاوي الغلو والمبالغة انزلاقاً غريباً، فيبتعد عن (الحقيقة) التي كان توصل إليها ابتعاداً كبيراً. . .

مثلاً، يسترسل مرة في الحديث حتى يضيف كلمة الثقافة إلى كلمة العقل، فيقول:

(كلا، ليس بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم وتأثرت به، فرق عقلي أو ثقافي ما. . .) (الصفحة: 25)

أفلا يحق لي أن أسأل الأستاذ في هذا المقام: هل يدعي - عن جد - أنه لا يوجد (فرق ثقافي ما) بين المصري، والفرنسي، والسوري، والإيطالي؟ إن القول بعدم وجود (فرق جوهري) بين (العقل المصري، والعقل الأوربي) شيء، والقول بأنه لا يوجد بين المصري والأوربي (فرق ثقافي ما) شيء آخر. . . فمهما آمنت بالقضية الأولى إيماناً عميقاً، لا يمكنني أن أسلم بالقضية الثانية أبداً. . . وأعتقد اعتقاداً جازماً أن إنكار وجود (الفرق الثقافي) بين الشعوب التي نشأت حول بحر الروم، لا يختلف عن إنكار وجود الشمس في رابعة النهار. . .

كما أرجح أن المؤلف نفسه لم يكتب ذلك عن (تأمل واعتقاد)، بل كتب ما كتبه في هذا المضمار مدفوعاً بدوافع الاستعجال والارتجال - بالرغم من تصريحات المقدمة - ومجروفاً بتيار الألفاظ والكلمات. وربما كان من أبرز الأدلة على ذلك ما قاله في أواخر الكتاب حيث يختم أبحاث الكتاب بسؤال عام: (أتوجد ثقافة مصرية؟) ويجيب على هذا السؤال بالعبارة التالية:

(هي موجودة)، متميزة بخصالها وأوصافها التي تنفرد بها من غيرها من الثقافات. . .) (الصفحة - 525)

ولا أراني في حاجة إلى البرهنة على أن مضمون هذه العبارة، يناقض القول الذي أشرنا إليه آنفاً، مناقضة صريحة. . .

ومما يجدر بالملاحظة أن مغالاة المؤلف في تشبيه المصريين بالأوربيين - وإنكار وجود الفروق بينهما - لا تنحصر في هذه القضية وحدها، بل تتعداها إلى أمور أغرب منها: إذ أننا نراه يدعي - في محل آخر من الكتاب - عدم وجود فرق بينهما من حيث الطبع والمزاج أيضاً. فهو عندما يصرح بأنه (لا يخاف على المصريين أن يفنوا في الأوربيين) يبرهن على ذلك بقوله:

(. . . ليس بيننا وبين الأوربيين فرق في الجوهر ولا في الطبع ولا في المزاج. . .) (الصفحة36)

ليس بين المصريين والأوربيين فرق لا في الطبع ولا في المزاج! لا أدري كيف يستطيع أحد أن يدعي ذلك بصورة جدية؟ فإن الفروق في الطبع والمزاج من الأمور التي تشاهد على الدوام بين الأمم الأوربية نفسها، وهي تبدو للعيان بين الإنكليزي والفرنسي والألماني والإيطالي. . . حتى بين الشمالي والجنوبي من الفرنسيين، والشرقي والغربي من الألمان، والسهلي والجبلي من الطليان. وبين الريفي والمدني والصانع والتاجر، والمثقف والعامي من جميع هؤلاء. . . فكيف يعقل مع هذا ألا يختلف طبع المصريين ومزاجهم عن طبع الأوربيين ومزاجهم بوجه من الوجوه؟

إنني أميل إلى الحكم بأن الدكتور طه حسين لم يكتب هذه العبارة أيضاً عن تأمل واقتناع. بل كتبها بدافع الاستعجال وتحت تأثير توارد الكلمات.

إني لا أكون من المغالين إذا قلت: إن (نزعة التسرع في الحكم والإسراف في الكلام) من النزعات المستولية على معظم مباحث كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)، وهذه النزعة هي التي ورَّطت المؤلف في مآزق غريبة، وأوقفته مواقف لا تخلو من التناقض في بعض الأحيان.

وللبرهنة على ذلك أود أن أستعرض - علاوة على ما ذكرته آنفاً - ما جاء عن الأزهر في الأقسام المختلفة من الكتاب.

يذكر الأستاذ الدكتور طه حسين الأزهر - في كتابه هذا - أولاً عندما يبحث عن اتصال مصر بالحضارة الأوربية فيتوسع كثيراً في وصف هذا الاتصال، لأنه يعتبره دليلاً على عدم وجود فرق جوهري بين العقلية المصرية والعقلية الأوربية إذ يقول: (إننا لا نجد في هذا الاتصال من المشقة والجهد ما كنا نجده لو أن العقل المصري مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوربي) (الصفحة 35).

وعندما يتطرق المؤلف إلى حالة الأزهر - خلال هذا البحث - يعرضه لنا كمعهد مسرف في التجديد إذ يقول حرفياً ما يلي:

(كل شيء يدل، بل كل شيء يصيح بأن الأزهر مسرف في الإسراع نحو الحديث، يريد أن يتخفف من القديم ما وجد إلى ذلك سبيلاً. . .) (الصفحة 34).

غير أننا نراه في محل آخر من الكتاب، يتراجع قليلاً عن تعبير (الإسراف) الذي استعمله في هذا المقام؛ لأنه يقول:

(أصبح الأزهر مسرعاً إلى هذه الحضارة، يدفعه إسراعه إلى شيء يشبه الإسراف إن لم يكن هو الإسراف) (الصفحة 61)

كما أنن نراه في محل آخر يتناسى كل ذلك فيقول: (إن الأزهر بحكم تاريخه وتقاليده وواجباته الدينية بيئة محافظة تمثل العهد القديم والتفكير القديم أكثر مما تمثل العهد الحديث والتفكير الحديث. . .) (الصفحة 91).

ثم نراه يضيف إلى ذلك ما يلي:

(شيء آخر لابد من التفكير فيه والطب له؛ وهو أن هذا التفكير الأزهري القديم قد يجعل من العسير على الجيل الأزهري الحاضر إساغة الوطنية والقومية بمعناها الأوربي الحديث. . .) (الصفحة 92).

وفي الأخير عندما ينتقل إلى بحث المنافسة القائمة بين الأزهر وبين الجامعة لا يتحرج المؤلف من إبداء رأي يناقض رأيه الأول مناقضة صريحة إذ يقول:

(يقتضي أن يعدل الأزهر عدولاً تاماً عما دأب عليه من الانحياز إلى نفسه والعكوف عليها والانقطاع عن الحياة العامة. وقد يقال: إن الأزهر قد أخذ يترك هذه السيرة ويتصل بالحياة العامة ويأخذ بحظوظ حسنة من الثقافات الحديثة على اختلافها. وهذا صحيح في ظاهره، لكنه في حقيقة الأمر غير صحيح. فالأزهر مازال منحازاً إلى نفسه متمسكاً بهذا الانحياز حريصاً عليه. . .) (الصفحة 475).

أنا لا أود أن أبدي رأياً في الأزهر في هذا المقام؛ غير أني أريد أن ألفت الأنظار إلى الاختلافات الموجودة بين هذه الآراء التي صدرت من قلم واحد في موضوع واحد في كتاب واحد!

غير أن هناك شيئاً أغرب من كل ذلك أيضاً: فإن المؤلف لا يكتفي بالبرهنة على عدم وجود فرق جوهري بين العقل المصري والعقل الأوربي، بل يحاول أن يبرهن على أن مصر ليست جزءاً من الشرق، ويسير بين سلسلة آراء وملاحظات - يكتنفها الغموض والتضارب من كل الجهات - ويلوم الأوربيين الذين يقولون إن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين؛ ثم يقول:

(إن من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءاً من الشرق). . . (ص 18).

غير أنه لا يلبث أن يتناسى قوله هذا، ويدخل المصريين في عداد الشرقيين، في عشرات المواضع من الكتاب. . . لا أرى حاجة في هذا المقام - لتعدادها، فأكتفي بذكر ما يقوله المؤلف في هذا الشأن في أواخر الكتاب، عندما يشرح اقتراحه في صدد فتح مدارس مصرية في الأقطار العربية. فإنه يقول إذ ذاك:

(ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية، تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم). . . (ص 522).

(يتبع)

ساطع الحصري