مجلة الرسالة/العدد 316/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 316/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



نهاية الكون

تعذر الامتداد في الظواهر وصعوبة الحكم على مستقبل الزمن

للأستاذ محمد محمود غالي

اطلعت في العدد الأخير من الرسالة على ما وجهه إليّ الأستاذ نصيف المنقبادي وعل أسئلته الخاصة بتطبيق نظرية بولتزمان في الحكم على مستقبل الكون، وقد تتبعت مقالاته القيمة التي نشرها هذا العام في الرسالة، وتتبعت منذ أكثر من عام مقالاته على صفحات الأهرام التي ناقش فيها الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي. ولو وصفنا الأستاذ فيمن نعرفهم من الكتاب المصريين بأنه من الذين عرفوا بالجرأة في كتاباتهم لما ابتعدنا عن الصواب كثيراً، إذ لاشك في أنه من هؤلاء المطبوعين على حرية الفكر، ولا خلاف في أن لمثل كتاباته فائدة كبرى يجنيها النشء ويفيد منها المطلعون

للموضوع الذي يسألني عنه مساس بفلسفة كل علم إذ يجب التفريق بين ما هو جائر وبين ما هو محتوم - قلنا إن التفسير البولتزماني للمبدأ الثاني للترموديناميكا يدلنا على نوع من الموت الحراري للكون، ولكن لم نقل إلى أي حد يجوز لما الامتداد والتوغل في قبول هذه النتائج في مستقبل الأحقاب والعصور

يحدثني عن ملايين الملايين من السنين التي خلت ويتساءل لماذا يحدث الاقتراب من السكون المرتقب وفق بولتزمان، وقد مضى على الخليقة ملايين ملايين السنين. ومن ذا الذي قال إن هذه الملايين الخالية كافية للوصول بالكون إلى الحالة التي يدل عليها تفكير بولتزمان والتي تحتمها الزيادة الحتمية والمستمرة (للأنتروبي)؟

وهب أننا وصلنا إلى نوع من السكون النسبي فمن ذا الذي قال إن هذه هي أول مرة يصل فيها الكون إلى السكون والموت؟ ومن ذا الذي يَقْسِرُ إفهامنا على أن الحركة لا تُستأنف من جديد بعوامل لا نعرفها تَمُتُّ إلى الأصل في معرفة الخليقة ووجود الكون؟

هنا نقطة حساسة أعتقد أن آرائنا تفترق عندها، فإنك تميل إلى تفسير كل شيء بعلمنا الميكانيكي ومعرفتنا المحدودة لظواهر الطبيعة، وأميل من ناحيتي إلى اعتبار ما نعرفه شيء بجانب المجهول. ومع ذلك فإن جُلَّ ما نعرفه من الظواهر الطبيعية ظواهر دورية، ألا يكون الكون في مجموعه، الكون المحدود بحيز ريمان أو حيز لوباتشفسكي أو ما يشاء العلماء من الحيزات، ظاهرة دورية وأننا الآن في مرحلة من مراحل الانتقال والدوران؟ بمعنى أنه ليس ثمة بداية للكون وليس ثمة نهاية له

في نشرة للعالم (سان) اطلعت عليها حديثاً في محاضر الجمعية الملكية الإنجليزية يناقش فيها هذا الرياضي الطبيعي بعض النظريات الخاصة بمبدأ الكون وما وصل إليه الحيز من تمدد وما يحدث الآن من ابتعاد كل العوالم بعضها عن بعض - هذه النشرات وأمثالها التي يناقش العلماء فيها (كون إنشتاين) أو (كون دي ستير) وهما كونان معروفان لدى العلماء توحي إلينا بهذه الفكرة الدورية للكون

لم يقل (سان) بتغيير قوانيننا الطبيعية في مستقبل الزمن، ولكن كل شيء يجوز أن يتغير ما دمنا نعتبر أحقاباً طويلة من الزمن مثل الأحقاب التي نتكلم عنها

على أن الزمن نفسه يحمل في طياته عدم التعيين عندما نتوغل فيه إلى حد كبير. ثمة فارق كبير في معرفة فترات الزمن التي اعتدناها ومعرفة الأحقاب الطويلة التي لا نجزم بمعرفتها أو تحديدها؛ فإذا تحدثنا عن عمر الإنسان أو عن الزمن الذي مر من الثورة الفرنسية حتى يومنا هذا، أو عن عمر أحد الأفيال الأفريقية الكبيرة، وبينها ما عاش بلا شك قبل الثورة الفرنسية، فإنني أفهم لذلك معناه، وأفهم نوع الدقة المطلوبة فيه، حتى إذا تكلمنا عن الزمن الذي مر منذ أن كتب هومر إلياذته المشهورة أو منذ أن بنى خوفو هرمه أو نحت الأقدمون (أبو الهول) فإن هذا، وذاك ممكن أن يكون أمره معروفاً، أما إذا أردنا أن نتكلم عن عمر الرجل الأول أو الزمن الذي يمر لتدوير المجرة دورة كاملة أو الزمن الذي خلا منذ ظهور الحياة على الأرض فإن شيئاً من الاحتمال يدخل في تقديرنا لهذه العصور الطويلة. وما بالنا لو أردنا بعد ذلك أن نتكلم عن عمر عنصر التوريوم أو عمر النجوم أو العوالم أو التوغل حتى مبدأ الخليقة، فإننا لا نستطيع الجزم بمقدار هذه المدد الطويلة، ولا نستطيع أن نستوعب معنى الزمن إذا نظرنا إليها.

هذا من ناحية الأحقاب الطويلة، وإننا نجد نفس الصعوبة إذا نظرنا إلى الطرف الآخر واعتبرنا الفترات القصيرة. فإذا تحدثنا عن فترة الزمن التي تقدر بثانية أو فترة تردد الموجات اللاسلكية الطويلة منها والقصيرة أو فترة حياة (الراديوم فإن حديثنا عنها يختلف عن فترة تردد الموجات المصاحبة للبروتون في ميكانيكية (دي بروي) الموجية أو ربما عن فترات أقصر من ذلك يحدثنا عنها العلماء في مستقبل العمر.

ومع ذلك فإن هناك عاملاً آخر يتصل بسر الوجود وما يحدث فيه من تطورات. وكنت لا أرغب أن أتعرض بالبحث عنه لولا أن أسئلة الأستاذ تحتم عليّ اللجوء إلى هذا الطريق. ولعلي أُوَفَّق في أن أشرح هذا العامل الخارجي، وأن أكشف عن رأيي في المثال الآتي:

إن من الصعب أن نضع على الأرض عصا طويلة مدببة الطرف في وضع رأسي ونتركها على طرفها هذا وفي هذا الوضع دون أن تقع العصا على الأرض. ولو أننا وفقنا بصعوبة إلى ذلك فإنه لن تمضي لحظة حتى تقع العصا على الأرض وفق اتجاه لا نستطيع تحديده. ولو أننا تساءلنا عن مساق (مصير) العصا وهي في وضعها الرأسي لا تستند إلى شيء لقررنا أنها حتماً واقعة على الأرض. لنفترض بعد ذلك أن هناك كائناً حياً يرفع العصا طوراً ويدعها تقع على الأرض تارة أخرى

ثمة مجموعتان واحتمالان لمواضع العصا وما يخبئه لها القدر:

المجموعة الأولى تتكون من العصا والأرض. هنا نحتم أنها تقع على الأرض وأنها لن تقوم رأسية من تلقاء نفسها كما كانت

والمجموعة الثانية تتكون من العصا والأرض والإنسان اللاعب بها. هنا تقع العصا ولكنها تعود رأسية كما كانت ويصح أن يتكرر ذلك ما دام الكائن موجوداً

ولو افترضنا أننا مخلوقات نعيش على سطح العصا، وأن فترة آجالنا محدودة جداً بنسبة الزمن الذي تقع فيه عصانا هذه فإننا الآن في مرحلة نشاهدها وهي تقع، ولكننا لا نستطيع أن نجزم بأنها لا تقوم بنا كرة أخرى، فقد يكون هناك لاعب ماهر يلعب بالعصا ولا نعرف من لعبه شيئاً، وقد تكون هذه إحدى المرات العديدة التي وقعت العصا فيها على الأرض

فلا تخش أيها الكاتب على الكواكب انقطاع دورانها وعلى النجوم وقوف حركتها وعلى الكهرباء انعدامها وعلى الجاذبية نهايتها وعلى الأرض فناءها وعلى الأحياء موتها، فإننا عاجزون عن أن نعرف الأصل في كل هذا وأن نستوعب للكون مبدأ وللحياة نهاية، لهذا لا يجوز لنا دائماً أن نقول إن الذي ترك العصا تميل وتقع يستطيع أن عيدها سيرتها الأولى، كما نستطيع أن ندرك أن الأرض والعصا واللاعب مجموعة تختلف عن الأرض والعصا بلا لاعب

حدثت القارئ فيما تحدثت به إليه عن نملة تجولت في سرادق فسيح في ليلة عزاء، وقلت إنها فهمت أن الدنيا كلها سرادق تضيئه أنوار ونادل يسقي قهوة وفقيه يرتل الآيات، وقلت إنها بهذا أخطأت صورة الدنيا، كذلك نحن والكون وما يحدث له في المستقبل البعيد من تطورات؛ فقد تعلمنا كثيراً وزادت معارفنا ولكننا فضلاً عن ذلك قد تعلمنا شيئاً أجدى وهو أننا لا نعرف عن الأصل في الكون والمستقبل في التطور أكثر من معارف النملة التي لم تفارق السرادق والتي لا تعرف ما بخارجه

فلتكن مثلي. لا تجادل في الغيب بهذه السهولة ولا تتحدث عن الحياة والمادة والروح بهذه الطريقة من التوكيد التي تحدثت بها. إن الشك أجدر بالعلماء عندما ينزلون إلى ميدان أصل الوجود ويحاولون معرفة سر الخليقة. لذلك عندما ذكرت أنني أفترق عن التفاحة التي نأكلها وعن المحبرة التي أملئ منها هذه الأسطر كان عندي إيمان قوي بما أقول، وإن لم يكن لدي ولا عند غيري الدليل العلمي للتدليل على ذلك بما لا يقبل الجدل

ومع ذلك وبعد الذي ذكرت أرجو ألا تنسى أيها الأخ أنني من الذين يؤمنون بالعلم التجريبي فيعيرونه كل تقدير ولا يؤمنون كثيراً بالعلم النظري فلا يولونه من الوقت إلا اليسير، وإنني لا ألجأ إلى التعمق في العلم إلا بالقدر الذي أعتبره طريقاً لمراهن الذهن والتعود على الفهم. فإذا رأيتني لجأت إلى النظريات تارة فإنما أشرح للقارئ طرائق التفكير الحديث وأستعرض بإخلاص قصة الخليقة وفق أحدث ما يقوله العلماء وما يتراءى للمفكرين

أما إذا خاطبتني كرجل تَخرَّج من المعامل، ويود أن يقضي البقية من العمر فيها، فإنني ممن لا يجيزون البت في مستقبل الكون بهذه السهولة، وعلى هذه الصورة. وعلى ذلك فلست ممن يؤمنون بالبولتزمانية إن صح أن نعطي التفسيرات الحرارية الأخيرة هذه التسمية إلا بقدر أنها صحيحة في مرحلة انتقالية للكون هي المرحلة التي نجتازها؛ وهذه المرحلة قد يتبعها مراحل لا تكون البولتزمانية موضوع الحديث.

وبعد فتراني أصبو إلى الطرف الإيجابي من المسائل والظواهر عامة. لقد درست على كوتون، وتتلمذت على موتون، وصاقبتهما عشرة أعوام أو يزيد - ولقد كانا بنائيين ينظران إلى المسائل ويسائلان أنفسهما: هل من وقائع حقيقية وراء ما نرى أو ما نقول؟ وإني أضرب لك مثلاً:

عندما فصل مليكان جسيماً واحداً يحمل إلكتروناً حراً واحداً كنا واثقين بعمله. فقد كانت نتائجه التجريبية تُحتم شحنة الإلكترون بالقدر الذي أعطاه مليكان ما دام منطق الحساب البسيط صحيحاً. هذا الحساب الذي تعلمناه كلنا بالمدارس - وبالمدارس الابتدائية على الخصوص - فقد كان الحديث عند مليكان عندما استطاع أن يرى هذا الجسيم واقفاً بلا حراك بين كفتي المكثف الكهربائي حادثاً خاصاً بقاعدة حسابية بسيطة معروفة لدى طلبة المدارس الابتدائية، وهي قاعدة القاسم المشترك الأعظم.

عندما نتساءل عن العدد الذي يقسم الأعداد: 14، 21، 28، 35، 42، فإن الجواب معروف. فالعدد 7 يقسم كل هذه الأعداد. ولقد كانت تجارب مليكان المعروفة التي عين فيها شحنة الإلكترون لا تخرج في فكرتها الأساسية عن العملية السابقة بالذات. لذلك كان إيماننا بها بقدر يقينا في جواب المسألة الحسابية السابقة ولكن عندما نتحدث أيها الأخ عن ملايين ملايين السنين فإن للقوانين اعتباراً آخر، وللظواهر تطورات نجهلها.

وبعد الذي ذكرت كم أكون سعيداً لو استوثقت يوماً أنك تنظر إلى المسائل نظرنا إليها وتعالج الأمور معالجتنا لها - قد أكون مخطئاً فيما ذهبت اليه، ولكن هكذا تكونت وهكذا دَرَسْت. ولا تصفني إن سمحت بعد اليوم بالعالم المدقق والطبيعي المحقق، ولا تذكرني كما تذكر علماء السوربون وأساتذتهم الأعلام فإن هذا شرف لم أنله ومرتبة لم أرتفع إليها. ولابد من أن يتسع العمر كثيراً لنطالع عشرات ما طالعناه، ولابد من أن تمر سنون عديدة لنستوعب الكثير مما لا نعرف.

وفي الختام أشكر لك كلماتك السابقات التي لا أستحقها، وأعدك وقراء الرسالة بأنني سأتم كلامي عن الذرة والإلكترون وسأخص تجارب مليكان وبيران عن الإلكترون بشيء من العناية. فإذا ما انتهيت من هذا فسأتناول أربعة موضوعات رئيسية تتصل كلها بالتفكير الحديث ومستقبل البشر: الْكَم أي (الكوانتا) لمؤسسها العالم الكبير بلانك، وربما تكلمت عن علاقتها بالقضاء والقدر. والنسبية (لإينشتاين). والموجية للعالم الشاب (دي بروي).

والتفتت الذري لكل هؤلاء الشبان من أرجاء المعمورة الذين يعملون داخل المختبرات على تقدمنا والذين يواصلون الليل بالنهار ليضعوا حجراً جديداً وأساسياً في مستقبل المعرفة.

وتراني سعيداً لأرقب ملاحظاتك وأرد على أسئلتك وأشترك في خواطرك وأتعرف إليك مع أصدق التحيات.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم

المهندسخانة